آخر الأخبار

نظرية الثورة العربية … (1)

 

 



 

الدكتور عصمت سيف الدولة



1- ما النظرية



عندما أثبتت هزيمة يونيو ( حزيران ) 1967 جسامة المخاطر التي ينطوي عليها الأسلوب التجريبي أصبح مسلماً أن مواجهة المستقبل العربي بغير ” نظرية ” حماقة خرقاء . فقد كنا صادفنا النجاح الذي تصادفه التجربة احياناً فأغرانا نجاحنا العرضي بالإصرار على عدم الالتزام العقائدي ، وألهانا عن المخاطر التي كانت تنتظر مسيرتنا ، فإذا بنا نتبين ، في أسوأ الظروف ملائمة للتراجع ، أنه كان نجاحاً مؤقتاً ومحدوداً وأن الحساب الختامي للمسيرة غير العقائدية كان خسارة فادحة .

 

وهكذا أصبح من الممكن أن يدور حوار بناء بين كثير من المشغولين بالمستقبل العربي انطلاقاً من مسلمة أولى هي ضرورة ” النظرية ” لمواجهة مشكلات الواقع العربي ومستقبله . غير أن هذه البداية المشتركة تستدعي مباشرة أدق الأسئلة وأكثرها غموضاً . ذلك هو السؤال : ما النظرية التي نريد ؟

 

وهو سؤال مبرر علمياً وتاريخياً .

 

ذلك لأن كلمة ” نظرية ” كلمة مضللة ، إذ هي تطلق على مفاهيم جد مختلفة ، من أول المقولات الميتافيزيقية المجردة إلى آخر الأساليب الفنية في التطبيق . إن مقولة ” الخط المستقيم هو اقصر مسافة بين نقطتين ” بدهية ” يعرفها تلاميذ المدارس الثانوية . وهي أيضا ” نظرية ” أساسية في الهندسة . ومع هذا فهي لا تعني شيئاً في النضال العربي . والذين يدرسون القانون يعرفون ” نظرية الحق ” و ” نظرية السبب ” و ” نظرية البطلان ” و ” نظرية سلطان الإرادة ” و ” نظرية السيادة ” و ” نظرية فصل السلطات ” … الخ . وفي الاقتصاد ” نظرية السوق ” و ” نظرية القيمة ” و ” نظرية الريع ” و ” نظرية السكان ” و ” نظرية المنفعة ” … الخ . وعلى مستوى النظم هناك النظرية الرأسمالية والنظرية الاشتراكية ، وكل منهما تتضمن عشرات النظريات المتميزة . وعلى مستوى مناهج المعرفة هناك ” نظرية المنطق ” لأرسطو ، و” نظرية الجدل ” لهيجل ، وثمة نظرية القانون الطبيعي والنظرية الوضعية والنظرية الرياضية والنظرية الإحصائية والنظرية التاريخية ونظرية المادية الجدلية … الخ . ومع أن النظريات في المنهج بعض من نظريات الفلسفة إلا في الفلسفة حشداً اكبر من النظريات التي تنسب الى أصحابها أو إلى مضمونها كالمادية والمثالية والوجودية … الخ .

 

وكلها نظريات .

 

فبأي مفهوم ” للنظرية ” تكون النظرية التي نريد ؟

 

إن إحدى العقبات الأساسية ، التي تعترض الحوار الفكري وتحول دون وصوله الى الالتقاء على ” نظرية ” ، هي أن مفهوم ” النظرية ” التي يراد الاتفاق عليها غير متفق عليه بين المتحاورين . وهذي عقبة لايمكن تجاوزها إلا بالإفلات من التضليل التي تثيره كلمة ” نظرية ” بغير تحديد ، وذلك بتحديد مفهوم ” النظرية ” التي يدور حولها كل حوار على حدة ، حتى لاتختلط في أذهان المتحاورين دلالات مختلفة لكلمة ” نظرية ” وهم يتحدثون عن ” نظرية الثورة العربية ” مثلاً . إن هذا التحديد لازم لأي حوار غايته أن يؤدي الى اتفاق .

 

والسؤال : ما النظرية ؟ … مبرر تاريخياً . ذلك لآن الانجازات التي حققها الماركسيون خلال أكثر من نصف قرن في أماكن كثيرة من العالم ، وعلى وجه خاص في ” اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية ” قد رشحت ” الماركسية ” نموذجاً لنظرية النضال الثوري في المجتمعات المختلفة . ولا شك في أن كثيراً من الشباب العربي يلتمسون ” نظرية ” لمواجهة مشكلات الواقع العربي ومستقبله ويتحدثون عن ضرورة ” النظرية ” وفي أذهانهم نموذج من الماركسية . إن هذا لايصدق على غير الماركسيين فقط بل وعلى الذين يرفضون بعض أو كل المضامين الفكرية الماركسية . أولئك يبهرهم ما يبدو من شمول الفكر الماركسي وإحكام مقولاته ولغته الثورية فيبحثون عن نظرية غير ماركسية ولكن على الطراز الماركسي . وقد أدى هذا التأثر ” السلبي ” بالفكر الماركسي إلى أن صد بعض الشباب العربي أنفسهم عن كثير من الاجتهادات الفكرية ، لا لآنها غير صحيحة ، أو لآنها لاتصلح أساساً للنضال العربي أو حتى لمراحله الملحة الأولى ، بل لأنها ليست ، أو لاتبدو لهم ، في مثل شمول وإحكام وثورية الفكر الماركسي . وهكذا انقلب الأمر عندهم من محاولة استكمال الأسس الفكرية للنضال العربي الى تحريض على الدخول في ” مباراة ” فكرية مع الماركسيين . وقد دخل كثير من المفكرين العرب ” المباراة ” حتى منتصف الشوط ، أي حتى على مستوى نقد الفكر الماركسي . وكان ذاك سلباً لا عطاء فيه . غير ان من المفكرين في الوطن العربي من اجتهد فطرح وجهات نظر أو نظريات غايتها خدمة النضال العربي وليس مجرد نقد الفكر الماركسي ، وإن كانت قد تضمنت نقداً لا مفر منه للماركسية . والواقع ان الفكر الماركسي على قدر من الجدية والتأثير في الواقع بحيث لا يمكن لمفكر جاد يستهدف خدمة نضال مؤثر في المستقبل العربي أن يتجاهله . ومن هنا، فانه بصرف النظر عن مدى التوفيق فيما طرح من وجهات نظر أو من نظريات ، فان طرحه كان يعني أن نقد الفكر الماركسي الذي صاحبه كان جزءاً من عملية بناء فكري ايجابي وليس مجرد عملية هدم للفكر الماركسي . إلا ان رد فعل كثير من الماركسيين، ومنتحلي الماركسية ، في الوطن العربي كان متطرفأ وغير موضوعي وغير علمي معأ . فقد رفض كل الاجتهادات الفكرية غير الماركسية، وأدان الاجتهاد ذاته ، لا لأن حصيلته غير صحيحة أو لأنها غير صالحة كأساس للنضال الاشتراكي في الوطن العربي ، بل لمجرد انها تضمنت نقداً للماركسية. وقد كان هذا يعني تجميد الفكر الماركسي وهروبأ من المباراة الفكرية على وجه بدا فيه الأمر كما لو كنا أمام خيار لا مخرج منه : إما أن نقبل الفكر الماركسي نظرية للستقبل العربي وإما ألا نفكر على الاطلاق . وعندما يكون الأمر كذلك نكون قد غادرنا جميعا ميدان الحوار العلمي .

 

أيأ ما كان الأمر فما يزال مستقراً في أذهان بعض الشباب العربي أنهم في حاجة الى ” نظرية ” ثورية على طراز الماركسية. وأنهم لا يقبلون الحركة بغير هذا المنطلق . فيقطعون الحوار على وجه يبدو منه كما لو كانوا لا يبحثون عن نظرية للنضال العربي بل يبحثون عن مهرب من متاعب النضال العربي بحجة البحث عن نظرية . ولو كان الأمر على غير هذا لاكتشفوا بأنفسهم أن الفكر العربي ، الذي استفاد بكل ما هو متاح من الفكر الإنساني بما فيه الفكر الماركسي ، يقدم إليهم ما يفي بحاجتهم لمواجهة مشكلات الواقع العربي ومستقبله ، وما يتجاوز الفكر الماركسي ذاته . وانهم ليسوا في حاجة حقأ إلا إلى أن يتعبوا أنفسهم قليلأ في الإحاطة به واستيعابه. ولو اتعبوا أنفسهم أكثر قليلأ في الاحاطة بالفكر الماركسي واستيعابه لتبينوا بيسر أن مايسمونه ” النظرية الماركسية ” غير قائم إلا في أذهانهم .

 

فالواقع انه، في حدود البحث عن مفهوم ” للنظرية ” يصلح محوراً يلتقي عليه المناضلون العرب، لا يصح الاحتجاج بما يسمى ” النظرية ” الماركسية . لأن ما يسمى بالماركسية ليس نظرية واحدة بل عديداً من النظريات والأفكار التي لا تصل الى مستوى النظرية . فأسس الماركسية التقليدية (ماركسية ماركس و انجلز) تتضمن ثلاث نظريات متميزة .

 

أولاها ” النظرية المادية ” في الفلسفة، تلك التي تجيب عن السؤال : أيهما وجد أولا الفكر أم المادة ؟ ..

 

 والثانية ” نظرية المادية الجدلية ” في المعرفة، تلك التي تتضمن ” نظرية الحتمية ” و” نظرية الضرورة ” و” نظرية التناقض” و” نظرية الطفرة “… الخ .

 

والثالثة ” نظرية المادية التاريخية ” في التطور، تلك التي تتناول ” نظرية الصراع الطبقي” و “نظرية الثورة ” و” نظرية اضمحلال الدولة” و ” نظرية الشيوعية “.. ا لخ .

 

وقد ازداد الأمر ثراء وتعدداً وتعقيداً معاً بدخول الماركسية مرحلة التطبيق فأصبحت منذئذ ” ماركسية- لينينية “. ولينين لم يكن مجرد ماركسي يصنع الثورة على ما قال أستاذه ، بل كان فيلسوفاً منظراً للثورة وقائداً لها . وقد بدأ مسيرته الثورية بإبداع فكري أصيل برر به الثورة الاشتراكية في مجتمع متخلف لا تتوافر فيه الظروف الموضوعية للثورة كما قال بها الأستاذ . ولم تكن تلك إلا بداية ” وجاءت اللينينية متضمنة مجموعة متميزة من ” النظريات ” أو ” الآراء ” في الدولة وفي الثورة وفي الديكتاتورية وفي الاشتراكية… الخ أبدعها لينين خلال الممارسة الثورية. ونذكر انه لمدة ثلاثين عامأ تقريبأ كانت الماركسية تقدم الى الناس مصوغة بقلم ستالين . وكان اسمها حينئذ ” الماركسية- اللينينية- الستالينية” ، لتتميز عن اجتهادات الماركسي تروتسكي التي أطلق عليها اسم ” التروتسكية ” وأدانها ستالين بخروجها على أسس ” الماركسية- اللينينية ” . ثم أعلن بعد وفاة ستالين أن كثيراً من النظريات التي صاغها لم تكن من الماركسية في شيء وأن ” الستالينية ” أفكار خاصة بستالين .

 

 يقول الذين يدافعون عنها انها “نظريات” أبدعها ستالين الماركسي خلال تجربة بناء الاشتراكية في دولة واحدة محاصرة بالعداء الامبريالي فهي الماركسية منظوراً إليها في ظروفها التاريخية. ويقول الذين يرفضونها انها مناقضة ” للماركسية – اللينينية ” فهي غير مقبولة أو هي غير مبررة . وقبل أن يموت ستالين كانت “عصبة الشيوعيين اليوغسلاف ” تناضل تحت لواء نظرية ماركسية قيل حينئذ أنها تحريف للماركسية ويقال اليوم أنها تطوير للماركسية . ومنذ وفاة ستالين وإدانة ” الجمود الستاليني ” لم يكف الماركسيون في جميع أنحاء العالم عن إبداع نظريات ” ماركسية ” ايضاً وان كانت متعددة ومتميزة ومختلفة ومثيرة للصراع في بعض الأوقات بين المدارس الماركسية.

 

ولعل النظرية الوحيدة الباقية بدون مراجعة فكرية شاملة هي ” المادية الجدلية “. وأغلب الماركسيين، في الوطن العربي خاصة، يعتبرون أنفسهم ماركسيين لمجرد أنهم يقبلون ” المادية الجدلية ” دليلاً في الممارسة ولولم يلتزموا كثيراً غيرها من النظريات الماركسية . وقد يكون هذا كافيأ ليكون الإنسان ماركسيأ على المستوى الفكري ، ولكنه ليس كافيأ لتمييز الموقف الماركسي في الممارسة . ذلك لأن الممارسة- كما سنرى- تجري في كل مكان ، وفي الوطن العربي خاصة ، على غير قوانين المادية الجدلية . نعني ممارسة الماركسيين قبل غيرهم . وهكذا لم نعد أمام ” نظرية ماركسية ” تحتذى بل نحن أمام تراث ماركسي بالغ الخصوبة والثراء . وقد كان يمكن ان يقال للشباب العربي المنبهر بالتراث الماركسي ان عليهم ان يصبروا على أنفسهم وعلى التاريخ حتى يصبح لهم تراث خاص خصيب وثري ليكتمل لهم النموذج الماركسي . ولكنه قول غير لازم وغير مفيد بل هو قول ضار . ذلك لأن للشباب العربي تراثأ فكرياً عربيأ لا تنقصه الخصوبة ، ولهم في الوقت ذاته تراث فكري انساني لا ينقصه الثراء، ثم ان لهم التراث الفكري الماركسي ذاته كواحد من أخصب وأثرى مصادر المعرفة والثقافة. والعبرة بكيفية الاستفادة من كل هذا وليس بمحاولة تقليده .

 

على أي حال يبدو غير واقعي وغير علمي القياس على نموذج يقال له ” النظرية الماركسية “. وان كان ما يزال قابلأ للفهم تحديد النموذج الماركسي الذي يعنيه كل متحدث أو يريد اتخاذه طرازاً لنظرية الثورة العربية. تحديد مستواه من النظريات الماركسية التقليدية . وتحديد مضمونه من المقولات الماركسية المتعددة . وتحديد موقعه من المدارس الماركسية المعاصرة . اما الدخول في الحوار “بالماركسية” هكذا بدون تحديد فانه لم يعد كافياً للالتقاء الفكري او الثوري . وهو كفيل بأن يقطع الحوار دون غايته. وهو يقطعه كل يوم حتى بين الماركسيين أنفسهم .

 

من أين نبدأ الحديث إذن؟

 

الحديث الذي يكون مدخلأ الى تحقيق الوحدة الفكرية بين الشباب العربي كمقدمة لازمة لوحدة حركية قادرة على مواجهة مشكلات الواقع ومستقبله .

 

من ابسط المنطلقات. أو حتى من البدهيات. المهم أن تكون بداية غير منكورة. والبداية البسيطة، البدهية ، التي لا نعتقد أن أحداً قادراً- بحق- على إنكارها هـي أننا نبحث عن نظرية ” لتغيير” الواقع العربي . ان هذه تبدو بداية مجردة . هـي كذلك . ولكنها بداية سنرى كيف تكسب مضمونها الحي من خلال الحوار ذاته . والحوار يعني أن باب الاجتهاد لم يغلق . وهل يملك أحد حق إغلاقه؟… وان لكل محاور مجتهد ان يقدم ما يراه نظرية لتغيير الواقع فيحدد لنا : المنطلق والغاية والأسلوب . إذ تلك هي العناصر الثلاثة لنظرية تغيير الواقع .

 

من هنا نبدأ.

 

إرسال تعليق

0 تعليقات