نصر القفاص
قراءة التاريخ لا يقدر عليها غير من يعرف الزمن وقيمة الوقت.. أما
الذين يعتبرون التاريخ وسيلة مواصلات لأهداف رخيصة.. فهؤلاء نرجوهم أن يبحثوا عن
"مترو" أو "قطار" وفى أفضل الأحوال يمكنهم ركوب
"سيارة".. أما الذين يفضلون – ويجيدون – "ركوب الموجة" فنتمنى
أن يتعلموا السباحة!!.. وتلك مقدمة ضرورية قبل أن نلقى نظرة على اجتهاد الشعب
المصرى, من أجل المشاركة فى الحكم.. وممارسة الديمقراطية عندما فوجئوا أن بلادهم
يتم تبديد ثرواتها.. ووجدوا أن الحاكم – الخديوى اسماعيل – يرهن الحاضر ويبيع
المستقبل.. فكان الثمن فادحا!!
فكرتنا عن "ثورة عرابى" غائمة لدرجة أن وصفها بهوجة
عرابى, تم ترويجه حتى أصبح معتادا قبول جريمة التقليل من شأن زعيم وطنى.. وحتى
عندما أعادت له "ثورة 23 يوليو" عام 1952, الاعتبار بإعلان قانون
"الإصلاح الزراعى" يوم "9سبتمبر" واعتباره عيدا للفلاح.. كان
الالتفاف على ذلك مع الالتفاف على "ثورة 23 يوليو" نفسها بعد رحيل
"جمال عبد الناصر"!!
حكم "الوالى إسماعيل" وهكذا كانت صفته قبل أن يشترى صفة
"خديوى" بأموال الأمة المصرية.. بدأت فترة حكمه عام 1863 وكان العمل على
قدم وساق فى حفر "قناة السويس" فإذا به يعلن رفض تنفيذ شروط وقع عليها
"الوالى سعيد" ليخلق أزمة.. حدث نزاع بينه وبين شركة قناة السويس.. طلب
"إسماعيل" تحكيم "نابليون الثالث" إعتقادا منه أنه يمكن أن
يساعده على تحسين شروط العقد بين مصر والشركة.. تلقى صدمة مروعة حين حكم
"نابليون" بأن يدفع "إسماعيل" كحاكم لمصر, تعويضا قدره 3,300,000
مليون جنيه – ثلاثمائة ملايين وثلاثمائة ألف جنيه – واضطر لأن يبلع الهزيمة
والإهانة!! ثم جاءت لحظة افتتاح القناة عام 1869, فراح يستدين لتنظيم احتفال كبير
يشارك فيه ملوك وحكام وقادة أوروبا.. كسبت مصر من هذا الاحتفال "أوبرا"
إحترقت فى السبعينات!! وكسبت مبان رائعة مع جسور وطرق وترع وإضافة لخطوط السكك
الحديد.. فالحقيقة تقتضى أن نذكر له قيامه بحفر 112 ترعة جديدة طولها يصل إلى عشرة
آلاف كيلو متر.. ويحسب له أنه جعل طول السكك الحديد يصل إلى نحو 1500 كيلو متر بعد
أن كانت حوالى 400 كيلو متر فقط.. وبقى ميناء الإسكندرية وأكثر من 400 جسرا
وكوبرى, يشهدون على أنه أنجز الكثير.. إضافة إلى مدارس وعدد من المصانع الصغيرة,
إضافة إلى حديقة الأسماك وعدد من القصور الفاخرة.. وكان ثمن ذلك 45 مليون جنيه
ديون, أدت إلى قبوله تعيين وزيرين.. أحدهما إنجليزى – سير ولسون – كوزير للمالية..
والثانى فرنسى – مسيو دى بلينير – كوزير للأشغال فى حكومة "نوبار باشا"
وبالمعنى الحديث فى توصيف الحالة.. نقول أنه "رهن مصر" فوافق على تحريم
ترؤسه لمجلس النظار – الوزراء – ووافق على تسريح أعداد كبيرة من الموظفين وضباط
وجنود الجيش.. وفى الوقت نفسه كان يتم تعيين موظفين أجانب يمثلون دولا أوروبية
بمرتبات ضخمة!!
يتفق عدد كبير من المؤرخين على أن ما أنجزه "إسماعيل"
الذى أصبح "خديوى" أضاف لمصر من حيث الشكل ما جعلها تختلف عما قبل أن
يصبح حاكما.. ولا ينكر مؤرخ واحد أنه أدخل البلاد فى أزمات, ومهد طريق الاستعمار
لاحتلال البلاد.. كان الغليان مكتوما حتى انفجر يوم 18 فبرايرعام 1879.. كان
"نوبار باشا" يرافقه وزير المالية الانجليزى – سير ولسون – فى عربة
تأخذهما إلى ديوان النظارة – الوزارة – فحاصر موكبهما عدد من الضباط الذين تم
تسريحهم من الخدمة.. إحتجزوهما فى مقر وزارة المالية ورفضوا إطلاق سراحهما, حتى
بعد أن ذهب إليهم "الخديوى إسماعيل" بنفسه!! وتم فض العملية بإطلاق
الرصاص واعتقال بعضهم.. وترتب على ذلك أن تقدم "نوبار باشا" باستقالة
الوزارة.
أراد "الخديوى" تهدئة الأمور, فكلف "ولى
العهد" وهو ابنه "محمد توفيق باشا" بتشكيل وزارة جديدة.. احتفظ
فيها الوزيران الانجليزى والفرنسى بمنصبيهما.. أستفز ذلك من نسميهم فى زمننا
"النخبة" التى تضم علماء وكبار موظفين وضباط جيش وتجار, إضافة إلى رجال
دين.. فقرروا رفع مذكرة للخديوى يطلبون فيها عزل الوزيرين الأجنبيين.. وقدموا
تعهدا بأن يتولوا تسوية ديون البلاد.. هنا اعتقد "الخديوى إسماعيل" أن
ذلك طوق نجاة.. طلب الوزيرين وأطلعهم على تفاصيل ما يحدث, وأبلغهم اضطراره إلى
الاستجابة لرغبة وإرادة الشعب!!
كان هذا المشهد كفيلا بأن يظهر على مسرح الحياة من يمثلون الشعب..
فرضوا كلمتهم لتسقط "وزارة توفيق" وتم تكليف "شريف باشا"
بتشكيل وزارة تخلو من الوزراء الأجانب.. هنا دارت عجلة الأحداث بسرعة.. أصبحت مصر
فى عين العاصفة.. كل من بريطانيا وفرنسا يرفضان ما أقدم عليه "الخديوى
المديون" فأصدرتا التهديد والوعيد, ولجأ "الخديوى" للشعب أملا فى
أن ينقذه.. اختلطت الأمور لأن "شريف باشا" كان يؤمن بضرورة أن يكون
للبلاد دستور, وأن تحكمها مؤسسات.. أنضم إليه التيار الوطنى الذى يرى بعض المؤرخين
أنه كان اول محاولة لقيام حزب فى مصر, ويذهب هؤلاء إلى إطلاق "الحزب الوطنى
الحر" عليه.. وجدت الدولة العثمانية ضالتها فيما يحدث فى مصر, التى كانت قد
انتزعت منها إدارة شئونها بالحديد والنار والدم, ثم التفاوض خلال زمن "محمد
على" وبقى لها فقط التصديق على تولى أى حاكم جديد.. حدث ذلك حين تم تنصيب
"إبراهيم باشا" ومن بعده "عباس الأول" ثم "سعيد
باشا" وكذلك "إسماعيل باشا" الذى اشترى لقب "خديوى"
بأموال طائلة يصعب حصرها.. إتفق السلطان العثمانى فى "إسطنبول" مع الدول
الكبرى على خلع "الخديوى إسماعيل" ببرقية تسلمها يوم 26 يونيو 1879..
ويغادر مصر, على أن يخلفه فى الحكم إبنه "توفيق".. وهو ما حدث.. إختار
وجهته إلى "نابولى" فى "إيطاليا" كما فعل حفيده
"فاروق" يوم 26 يوليو عام 1952 "!!"
خاف "الخديوى توفيق" فى بداية حكمه من إعادة الوزيرين, الانجليزي
والفرنسي, وحاول استمالة ضباط الجيش المصريين بترقيتهم.. وكان بينهم "أحمد
عرابى" الذى أصبح لاعبا مهما فى المشهد السياسى والعسكرى, باعتباره يقود
"الحزب الوطنى الحر" وكان يدعمه "محمود سامى البارودى" وقت أن
كان يشغل منصب "وزير الأوقاف" فى أول وزارة تشكلت بعد تنصيب
"الخديوى توفيق" وترأسها "رياض باشا" الذى ضاق ذرعا بنفوذ
"عرابى" والذين حوله.. خاصة وأن قاعدتهم بدأت تتسع, وكلمتهم أصبحت
مسموعة.. إتفق مع "ناظر الجهادية" وهو مسمى "وزارة الحربية"
وكان شركسيا – عثمان رفقى – على نصب كمين لقادة الجيش وعلى رأسهم
"عرابى" بدعوتهم إلى حفل,, يتم خلاله اعتقالهم أو التخلص منهم!!
ولأن "محمود سامى البارودى" عرف التفاصيل, فقام بإبلاغ
"أحمد عرابى" الذى رتب أموره, وقرر بتعبيرنا هذه الأيام "قلب
الطاولة" فقاد عددا من الضباط.. واتجهوا إلى "قصر عابدين" وطالبوا
"الخديوى" بعزل "عثمان رفقى" من وزارة الحربية!!
كانت الأحداث تتطور.. أدرك "الخديوى توفيق" أنه لا يقدر
على تحدى السلطان العثمانى مع كل من انجلترا وفرنسا.. ولا يستطيع التقرب من الشعب
ونخبته الجديدة.. سلم دفة الحكم لقنصلى كل من انجلترا وفرنسا فى مصر.. نصحوه بأن
ينحنى للعاصفة, ويعين "محمود سامى البارودى" وزيرا للحربية.. وافق وطلب
من "رياض باشا" التنفيذ, الذى قبل الأمر على مضض.. بعد شهور قليلة قرر
"رياض باشا" إقالة "البارودى" وتعيين "داوود باشا"
بدلا منه, خاصة وأنه كانت تربطه صلة مصاهرة مع "الخديوى"!!.. إستشاط
"أحمد عرابى" غضبا مع ضباط الجيش.. سيما وأن أولى قرارات الوزير الجديد
كانت إبعاد "أحمد عرابى" وجنوده.. وكذلك "عبد العال حلمى"
وجنوده خارج القاهرة.. رفض "عرابى" وضباط الجيش تنفيذ الأمر, وتحرك
بمظاهرة عسكرية يوم 9 سبتمبر عام 1881 إلى "قصر عابدين" فى المظاهرة
الشهيرة التى واجه خلالها "الخديوى توفيق".. وكانت مطالبهم هى عزل وزارة
"رياض باشا" وإعطاء الأمة حقها فى أن يكون لها دستور ومجلس نيابى..
وزيادة عدد الجيش مع توفير اعتمادات تمكنه من آداء مهمته فى حماية البلاد.. إضطر
"الخديوى" للموافقة فأعاد "شريف باشا" رئيسا للوزارة.. أيام
قليلة حتى اصطدم "شريف باشا" مع أعضاء مجلس شورى النواب – مجلس النواب –
فتقدم باستقالته فى شهر فبراير عام 1882.. تم تكليف "محمود سامى
البارودى" بتشكيل وزارة جديدة, فاختار "أحمد عرابى" وزيرا
للحربية.. تربص الضباط الشراكسة بوزير الحربية الجديد.. دبروا مؤامرة لاغتياله..
تم كشفها.. جرت محاكمة المتآمرين عسكريا.. صدرت ضدهم أحكام, فأعلن
"الخديوى" تخفيف الأحكام.. انضم مجلس النواب إلى الوزارة وقرر الجميع
تحدى حاكم البلاد.. سرت شائعة أن "أحمد عرابى" يتجه إلى جمع كلمة الأمة
على عزل "الخديوى" وتنصيب حاكم جديد للبلاد.. دوت صافرات الإنذار فى
"الآستانة" و"لندن" و"باريس" ليتفقوا على طلب إقالة
الوزارة, وإبعاد "أحمد عرابى" وكل من "عبد العال حلمى"
و"على فهمى" عن البلاد..
وافق "الخديوى
توفيق" على إملاءات الدول الكبرى.. تحرك الأعيان والتجار – النخبة – وتمسكوا
بوجود "أحمد عرابى".. رغم استقالة رئيس الوزراء.. إلتفت جموع الشعب
حوله.. إقتربت أساطيل انجلترا وفرنسا من شواطئ الإسكندرية.. تم ترتيب مؤامرة
شهدتها الإسكندرية.. بدأت يوم 11 يونيو عام 1882.. قيل أن مواطنا مصريا يعمل حمارا
– من يقوم بتأجير الحمار كوسيلة للنقل – ضرب رجلا من "مالطة" وذلك أغضب
الدول الأوروبية, وتسبب فى خوف الجاليات الأجنبية.. تداعى سفراء كل من انجلترا
وفرنسا وإيطاليا فى "اسطنبول" وعقدوا مؤتمرا, إنتهى إلى بروتوكول تعهدوا
فيه بأنهم لا يعتزمون غزو مصر.. واتفقوا على ألا تقوم هذه الدول بأى عمل انفرادى
ضد مصر.. أصر السفير البريطانى على إضافة عبارة "إلا عند الضرورة
القاهرة"!!
تم تكليف "إسماعيل راغب باشا" بتشكيل وزارة جديدة, وقبلو
استمرار "أحمد عرابى" وزيرا للحربية.. فكان عليه مسئولية الدفاع عن
البلاد.. راح يمارس واجبه ومهمته, بتحصين الإسكندرية.. لأن الأسطول الانجليزي
يقترب منها.. فوجئ بإنذار من "سيمور" قائد الأسطول البريطاني يطلب فيه
وقف تحصين الإسكندرية يوم 10 يوليو.. تسلمت الحكومة الإنذار.. تم نقل إلى
"الخديوى توفيق" إلى مكان آمن, يقال فى رواية أنه على ظهر سفينة
بريطانية.. وفى رواية أخرى أنه اختار البقاء فى "قصر مصطفى باشا" قرب
"سيدى جابر".. ليبدأ تنفيذ ما أسماه السلطان العثمانى مع الدول الكبرى
"ميثاق النزاهة".. وبدأ ضرب الإسكندرية, وتنفيذ عملية احتلال مصر التى
بدأت بإغراقها فى الديون!! وتم إجهاض محاولة الشعب أن يكون لبلاده دستور ومجلس
نيابى وجيش يملك قدرات الدفاع عنها.
أجهضت.. أو قل قتلت بريطانيا بالتواطؤ مع الدولة العثمانية
"جنين الديمقراطية" بدعوى إعادة الاستقرار للبلاد والدفاع عن
"الشرعية" التى يمثلها "الخديوى توفيق".. وتبعثر "التيار
الوطنى" الذى يسميه بعض المؤرخين "الحزب الوطنى الحر".. ودارت
ماكينات الكذب والتزوير لتشويه "أحمد عرابى" بوصفه "ديكتاتور"
وأنه أراد فرض كلمة "العسكر" ليظهر لأول مرة هذا المعنى.. وتم وصف
"الوطنيين" بأنهم "عصاه"!!..
يتبع
0 تعليقات