باسم فرات
أن أكتب عن مدن وأمكنة كثيرة وأتجاهل مدينة "عَـمّان"،
فهذه عندى قسمة ضيزى، فالأردن كان الرئة التي يتنفس منها العراقيون في السنوات
السبع الأولى العجاف التي تلت كارثة اجتياح الكويت في الثاني من شهر آب من سنة
1990 ميلادية. وقتها كنتُ جنديًّا أؤدّي خدمة العلم الإلزامية، وبعد هذه الكارثة
بسنتين كنت قد أنهيتها وأعددت العدة للحصول على جواز سفر، وفي الثالث والعشرين من
شهر نيسان من عام 1993 ميلادية غادرت العراق إلى الجهة الوحيدة المتاحة لنا في
العالم، أي المملكة الأردنية الهاشمية، وفي فجر اليوم التالي، وصلت وسط العاصمة
الأردنية "عَـمّان" وكان الأذان يصدح من مكبرات الصوت في جوامع وسط
العاصمة.
أول ما لفت انتباهي تعدد الأذان، وقد علمت بعد مدة وجيزة أن لدى
القوم أكثر من أذان، فالأول للتنبيه والثاني دخول وقت صلاة الصبح، ولكن بسبب فوضى
المؤذنين يُخَيّل لغريب مثلي أن هناك أكثر من أذانين، وبعد أعوام على مغادرتي
الأردن، عدت لأكتشف أن جوامع العاصمة تلتزم بأذان واحد موحد مركزيّ، بصوت رخيم
يبهج النفس؛ ثم كانت الملاحظة التالية حين نهضت من نومي في ضحى ذلك اليوم لأكتشف
المدينة فإذا بها مدينة تتكون من مجموعة تلال رأيتها جبالًا أنا القادم من طَفّ
سهل العراق.
في بادئ الأمر، أوجعني أن لا نهرٌ يتبختر في وسط عَمّان، ولا حتى
في أطرافها، أول ما سمعت ب"سقف السيل" ذهبت لعلي أرى سيلًا، ولكن ليس
سوى بنايات خَرَسانية، وتحتها مجموعة أسواق منها ما يبيع المستعمل والبالة،
والبالة لا غبار على عربيتها. كنت في أيامي الأولى غريبًا لم يـَعِ غربته، فالتذمر
ومقارنة كل شيء بما هو في العراق، لم أكن أعي أنني كنتُ عنصريًّا، أنطلق من مركزية
بيئتي ومكاني الأول، نعم كنت عنصريًّا ولكن ما يشفع لي أنني أعترف بسذاجتي، وأن
شعوري بالاقتلاع من مكاني الأول على الرغم من خروجي رسميًّا بجواز سفر، لكنه
الخروج الاضطراري وهو يشبه الانسحاب الاضطراري للجيوش وهي التسمية المهذبة
والملطّفَة للخسارة أو الانكسار.
كثيرٌ منا يمارس عنصرية أو سَمّها فوقية بلا وعي، أي أنها عنصرية
غير مخطط لها، وارتكابها عادة لا تكمن خلفه إيديولوجية، ويمكن القول إنها سليقة
إنسانية تفرضها ظروفها، وأول هذه الظروف شعور الإنسان بالاقتلاع، فما أن يغادر
المكان الأول، أو المكان الذي اقْتُلِعَ منه بالقوة أو بالكراهة، حتى تبدأ عملية
تجميل للمكان، فيتم قص وقطع السلبيات، ونفخ الإيجابيات وتزيينها وتحويلها إلى عروس
فاتنة، والمقتلع من مكانه لا يرى فيه سوى فردوسًا طُردَ منه، فيقارن كل شيء به،
ليوهم نفسه أنه ضحية مظلومية وقعت عليه، ولا يرى في المكان الجديد إيجابياته
وأولها قد يكون أن المكان الجديد يعني وبكل بساطة أنه أصبح خارج الخطر الذي كان
يعانيه في مكانه السابق.
كنتُ غِرًّا، أو ساذجًا، حين كنت أتأفف من كل شيء في عَـمّان،
وأقارنه مباشرة بالعراق، ولم يخطر ببالي في أيامي الأولى، أنا الذي لم يجرب الغربة
والسفر في حياته سوى مرة واحدة إلى سورية مع أهلي وقبل أن تبدأ الحرب العراقية
الإيرانية، وكان ذلك في تموز من سنة 1980 ميلادية، لكن هذه المرة لست طفلًا، ووحيدًا
بلا أهل ولا مال، حتى إنني حين أتذكر ما كنتُ عليه أبتسم لسذاجتي وأعتذر لعَمّان،
التي تعلقتُ بها بحيث حين خروجي منها كررت زياراتي إليها، وحين حصلت في نهاية عام
2019 ميلادية على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، كان التفكير
باستثمار مبلغ الجائزة في عَمّان حلّ مباشرة بعد بغداد ومدينتي كربلاء.
مع بدء البحث عن عمل، بدأت باكتشاف عمّان، أرهقتني طبيعتها الجبلية
في بداية الأمر، ولكن الأوقات التي قضيتها في "مقهى العاصمة" الكائنة
وسط مركز المدينة، زرعت ذكريات الأولى فيها، وبدأت أتعرف على مثقفي العاصمة، مثلما
تعرفت على أدباء ومبدعين ومُبدّعين عراقيين، فقد ضمّت عَمّان خلال عقد التسعينيات
أعدادًا كبيرة من أدباء ومثقفي العراق، وكانت محطة للهجرة العربية إلى ليبيا
واليمن أو غيرهما، مثلما محطة للجوء والهجرة لدول اللجوء والهجرة، ومع اشتداد
الحصار الدولي على الشعب العراقي، أُشيع أن المفوضية السامية للأمم المتحدة في
عَـمّان تقبل الأدباء بسهولة، هنا اختلط الحابل بالنابل وتكاثر عدد المحسوبين
زورًا على الثقافة العراقية، وكثير منهم حصل على اللجوء واستقرّ في بلدان اللجوء
والهجرة.
دخلتُ عَـمّان في فجر الرابع والعشرين من شهر نيسان
"أبريل" 1993 ميلادية وغادرتها في الساعة الواحدة من بعد ظهر يوم
الاثنين التاسع عشر من شهر آيار "مايو" 1997 ميلادية، قضيتُ فيها أربع
سنوات وستًّا وعشرين يومًا، ومن المصادفات أن غيابي عن العراق امتد إلى ثماني عشرة
سنة وخمس وعشرينًا يومًا، إذ دخلت العراق من نقطة الحدود نفسها في الثامنة وأربعين
دقيقة صباح الثامن عشر من شهر آيار "مايو" من سنة 2011 ميلادية.
تنقلت في عملي في مجال
التصوير الضوئي "الفوتوغرافي" ابتداء من منطقة "المقابلين"
حيث عملت في "ستوديو السلوادي" وكان أول مرة أسمع بهذا الاسم وهو من أمكنة
فلسطين الحبيبة، واستمر العمل لثمانين يومًا تقريبًا.
ثم انتقلت للعمل في "ستوديو عالية" في منطقة
"سحاب" وعملت هناك لمدة تسعة شهور، بعدها عانيت من البطالة لمدة خمسين
يومًا، كانت أيامًا مريرة، عرفت الجوع وتناول شطيرة فلافل "سندويشة"
واحدة كل أربع وعشرين ساعة، لم تكن المدة التي قضيتها في "المقابلين"
و"سحاب" مريحة وسعيدة، بل كانت محبطة حقًّا، ثم حصلت على عمل في
"القويسمة" في "ستوديو ومختبرات شذى السريعة
"إكسبرس"" ما بين الخامس والعشرين من شهر حزيران "مايو"
1994 ميلادية وحتى تموز "يوليو" 1995 ميلادية، وكان العمل طويلًا يمتد
ما بين التاسعة صباحًا حتى الحادية عشرة والنصف ليلًا، تعلمت في أثنائها طباعة
الأفلام الملونة بشكل جيد جدًّا.
لا أنكر أنني أقمت علاقات صداقة جميلة مع الذين عملت وتعاملت معهم،
لكني وجدت أن العمل استنزاف حقيقي فلم يعد عندي من الوقت ما يمكنني من القراءة،
وأتذكر أن ابن أحد المبدعين العراقيين المعروفين شاركني السكن وأعارني أحد كتب
أبيه، وكان عملًا إبداعيًّا عن القضية الفلسطينية، وأخذ وقتًا مني لقراءته فأعاب
عليّ هذا الزميل وشريك السكن بطء قراءتي، وهو مهندس عمله لا يزيد عن ثماني ساعات
بينما عملي يستغرق ضعف هذا الوقت تقريبًا أي كنت أعمل لما يقرب من خمس عشرة ساعة
يوميًّا وأكاد أكون محرومًا من العطل، ما يضطرني لغسل ملابسي في أثناء الليل، كانت
مدة قاسية لا أنكر أنني بكيت كثيرًا ورحت أندب حظي، أنا المهووس بالشعر والكتابة
والقراءة هل ينتهي بي الحال للعمل براتب زهيد في محل تصوير وطبع أفلام ملونة ما
يقرب من مائة ساعة أسبوعيًّا؟
وجدت في مُهندسَي شركة "المحلات الكبرى" التي تملك عدة
وكالات منها محبة لي، وتوطدت العلاقة لا سيما مع المهندس "عماد" الذي
فاجأني في أحد الأيام عارضًا عليّ عملًا في شركتهم حيث يملكون مختبرًا في أحد
الأسواق المركزية وهو سوق "الأهلية أبيلا" وفيه يملكون مختبرًا لتحميض
وطباعة الأفلام الملونة، وانتقلت للعمل هناك، وإخلاصًا مني "لأستوديو
ومختبرات شذى" بقيت لأسبوعين تقريبًا أعمل في المكانين، نعم كان العمل مرهقًا
فإن تعمل في الصباح في "القويسمة" شرق عمان ومساء في
"الشميساني" غرب عَـمّان، فليس بالأمر الهيّن، حتى مرض رفيقي في العمل
هنا اضطررت للعمل في المكان الجديد من الصباح الباكر إلى منتصف الليل ولكن بأجرة
مضاعفة، واكتشفت بعد مدة أن زميلي في العمل واسمه "عدي غوشة" هو شقيق
صاحب ومالك الشركة، وكان مختلفًا عن "محمد سليم" رئيسي وصاحب المحل
السابق، وعن المهندس "عماد" وغيرهم.
ميزة العمل الجديد كان سبع ساعات في اليوم وسبعة أيام في الأسبوع،
واتفقنا أنا و"عدي غوشة" على أن يكون حصة كل واحد منا يومًا في الإسبوع
عطلة ويومًا عمل من التاسعة صباحًا وحتى الحادية عشرة مساءً، كان هذا العمل
بالنسبة لي هبة عظيمة، ففيه توفر الوقت لأبدأ من جديد بالقراءة النهمة، وانتقلت
للسكن مع "العم ضياء أبو علي" وهو الأخ غير الشقيق لأبي (والده تزوج
جدتي لأبي وتربى في حضن جدتي وكنا عائلة واحدة وكان نعم العم والأب لي) ويقع بيته
خلف مكتبة أمانة عَـمّان الكبرى، وكنت أتناول فطوري صباحًا وأهبط مائة وأربعين
سُلّمة وأدخل المكتبة وأقضي وقتي بالقراءة حتى الثانية بعد الظهر حينها أصعد
وأتناول غدائي وأرتدي ملابس العمل وأذهب للعمل، وفي وقت فراغي في العمل كنت أقرأ
أو أرتّب أوراقي، وأنجزت مجموعة شعرية خلال خمسة عشر شهرًا.
ما أن التحقت بالعمل حتى شاهدت بعد أيام قليلة، في التلفاز المؤتمر
الصحفي لصهر صدام حسين "حسين كامل" فقد تزامن هروبه من العراق مع عملي
في الأهلية أبيلا. ومن فضائل عملي الجديد الذي كان مكانًا ممتازًا وراتبًا لا بأس
به، لولا منغصات العمل، أن الوقت سمح لي بالتعرف أكثر على الوسط الثقافي في
العاصمة عَمّان، وإذا كان تعرفي على "رسمي أبو علي" و "خيري
منصور" و "غازي الذيبة" و "محمد العامري" و "علي
العامري" وغيرهم في بداية وصولي لعَـمّان، فإن علاقتي توطدت أكثر بهم وبآخرين
مثل الشاعر الذي فقده الوسط الشعري العربي مبكرًا "جهاد هديب" والشاعر
يوسف عبد العزيز، ولا يمكن نسيان "مهيب البرغوثي" و "عثمان
حسن" و"زهير أبو شايب" و"مفلح العدوان" والقائمة تطول،
ومن حسنات "الأهلية أبيلا" أني حضرت فعاليات كثيرة ومنها ما أقيم في
دارة الفنون، وفيها تعرفت إلى المطرب المثقف والباحث الدكتور "سعدي
الحديثي" الذي شاءت الصدف الجميلة أن التقيته بعد حوالي ربع قَرن في الكرادة
وسط بغداد الحبيبة. وأيضًا التقيت في دارة الفنون بالشاعر والباحث "زكريا
محمد" الذي بعد قراءته لأمسيته في مهرجان جرش، جاءه أحد مراسلي القنوات
الفضائية ليجري حوارًا معه، فقال جملة تنم عن شخص متواضع ولا يلتفت للأضواء
كثيرًا، إذ قال "اذهبوا للشاعر الفلاني فهو الذي حصل على تفاعل مع الجمهور
أكثر".
0 تعليقات