محمود جابر
عيسى ابن مريم ... ليس رمزا دينيا، أو طائفيا، بل هو رمزا عربيا
بأقتدار، فهو عيسى الناصرى، وابن مريم، والناصري الحاضر في أدبنا، صار رمزاً متعدد
الوجوه، لكن أهم ما فيه هو أنه رمز عربي عام وليس رمزاً دينياً أو طائفياً، كأنه
في يوم ميلاده، يتحدى الانحطاط، وينبثق في وعينا كلقاء بين الأضحية والضحية.
وقد أولى الإسلام والقرآن إهتماما كبيرا بشخصية المسيح عيسى ومنحه
هو وأمه ومكانة رفيعة، ويتجلى ذلك في المساحة النصية، التى خص بها القرآن السيدة
مريم والتي تتجاوز حجم ذكرها في النصوص الإنجيلية القانونية مجتمعة.
سمّى القرآن إحدى سوره باسم مريم، وهي المرأة الوحيدة التي ورد
ذكرها في القرآن باسمها، كما يؤكد القرآن على عفّتها وطهارتها واصطفاء الله لها
وتفضيلها على نساء العالمين (آل عمران، آية 42).
وفوق ذلك يذكر القرآن معجزات عيسى بالتفصيل مثل إبرائه الأكمه
والأبرص، وإحيائه الموتى، والإنباء بالغيب والكلام في المهد، والخلق من الطين
كهيئة الطير والنفخ فيه (آل عمران، آية 49)، وتعد ولادة المسيح من أم عفيفة نقطة
التقاء بين المسيحية والإسلام فالخلاف بينهما حول طبيعة المسيح وليس حول رسالته
ولا طريقة ولادته.
كما أن الإسلام والقرآن لم ينكر قضية الصلب، بل أكدها، بيد ان الخلاف
بين المسيحية والإسلام ليس حول الصلب نفسه ولكن حول شخص المصلوب، هل هو عيسى نفسه
أم أنه شخص جعله الله شبيها له، ومع التسليم بأن هذه قضية خلافية إلا أنه يمكن أن
تبنى عليها نقطة حوارية تقاربية بين الديانتين، بمعنى أن المسلمين يعتقدون في صلب
شخص شبيه بالمسيح ومن ثم عليهم تقبل فكرة اعتقاد المسيحيين في صلب المسيح نفسه
طالما لم تثبت عندهم قضية إلقاء الشبه على شخص آخر، فمن رأوه يصلب بدا لهم في شكل
المسيح".
عيسى البنوة والنبوة:
قضية التوحيد فى الإسلام قضية مركزية، وهى المدخل الذى يبنى عليه اعتقاد المسلم،
وبناء عليه لا يمكن أن يكون لله تعالى ولد، لأنه ليس له زوجة أو صاحبة، ولذلك حرص
القرآن على ربط عيسى بالنبوة وهو وأمه بالبشرية وذكر ما تقتضيه طبيعتهما من
احتياجات جسدية كالأكل وغيره، وهما بذلك مخلوقان لا يختلفان عن كلّ الكائنات
المخلوقة.
وفي تأكيده على نفي صفة الإلوهية عن عيسى حرص القرآن على أن تتبع
عبارة "بإذن الله" المعجزات التي جرت على يدي عيسى، وهي عبارة لا ترد
مثلاً بعد معجزات جرت على يد موسى عليه السلام مع أن كلاهما يتصرف وفق مشيئة الله
حسب العقيدة الإسلامية، وذلك لانتفاء شبهة الإلوهية عن موسى، وتأكيدا لهذا كله يرد
وصف عيسى بابن مريم ثلاثا وعشرين مرة في القرآن.
وثمة فرق في اللغة العربية بين كلمتي ولد وابن، فكلمة ولد تعني أن
يولد طفل بعد حمل نتج عن علاقة جنسية بين رجل وامرأة وهذا ما يحرص القرآن على نفيه
تماما تجنباً لأنسنة الله فيما يتعقل بوحدانيته ومفارقته للطبيعة وعدم ممثالته
للمخلوقات المنزه عنها: ((قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ . اللَّـهُ الصَّمَدُ . لَمْ
يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)) (الإخلاص)، وهذه
البنوة البيولوجية، التي يرفضها الإسلام بشدة، لا يقول بها المسيحيون أيضا بل
يفهمون عبارة "ابن الله" كمقولة مجازية لا يُقصد بها الولادة الفيزيائية
المعروفة.
ولكن الكلمة المستخدمة هي ابن والتي قد توحي بتحول الكلمة إلى بشر،
فكلمة ولد في العربية لا تعني بالضرورة البنوة البيولوجية كما أنها تستخدم بين
المسلمين للدلالة على الأبوة المعنوية بمعنى معاملة الكبير للصغير بحنان وعطف،
ومنها كلمة التبني المعنوي بمعنى القيام على شؤون شخص، وبغض النظر عن مدى قبول
المسلمين لهذا المعنى من البنوة إلا أن تأكيد عدم اعتقاد المسيحية في البنوة
البيولوجية يقرب المسافة بينها وبين الإسلام و يمكن البناء عليه في خلق حوار بناء
بين الديانتين لتصحيح المفاهيم المغلوطة.
وبنظرة متأنية لآيات سورة مريم فيما يتعلق بقضية نفي بنوة عيسى
الإلهية يمكن استنتاج أنها لا تخاطب المسيحيين، لأنهم لا يقولون بهذه النبوة التي
ينفيها القرآن، بل المخاطب هم عرب الجزيرة الوثنيون زمن نزول القرآن الذين جعلوا
لله البنات ((وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا)) (البقرة، آية 116) وأن عيسى هو
ابن الله بيولوجيا.
كلمة الله وروح منه
من أكثر المسائل الخلافية بين المسيحية والإسلام هي طبيعة المسيح
بين اللاهوت والناسوت. ويرتبط بالجدل حول هذه الطبيعة قضية الروح التي يسميها
المسيحيون روح القدس وتصعد بعيسى إلى اللاهوت، بينما يراها المسلمون من مقتضيات
الناسوت، فماذا يقول القرآن عن الروح؟ وهل يمكن من القرآن استنباط تصور قرآني
للروح يخلق أرضية حوارية تقابلية وربما تقبلية بين الديانتين؟
بداية نشير إلى أن القرآن أكد بوضوح أن ماهية الروح سر إلهي كما
تسميها الدارجة المصرية خاصة عند خروجها من الجسد مع الموت، وهذا السر غير معلوم للبشر،
بل غير معلوم لصاحب الاتصال برب البشر وهو نبي الإسلام عليه السلام الذي يخاطبه
الله بوضوح قائلا: ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ
رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)) (الإسراء، آية 85).
ومن جانب آخر يؤكد الله في القرآن أنه نفخ من روحه في أول خليفة له
من البشر وهو "آدم" ((فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن
رُّوحِي)) (الحجر، آية 29) أي أن كل بني آدم بهم جزء من روح الله أو من النفخة
الإلهية، ولكن القرآن حين يصف عيسى يقول: ((إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ
مِّنْهُ)) (النساء، آية 171)، أي أن عيسى روح من الله وليس فقط نفخة من روحه أي
جزءا منها، والنفخة من الروح غير الروح رغم صعوبة تحديد ماهية كلٍ منهما.
ويصل أمر الروح غايته في صعوبة الوضوح عندما يقول الله إنه أرسل
إلى مريم روحه فتمثل لها بشرا سويا (مريم، آية 17)، فإن كان المفسرون المسلمون قد
حسموا قضية الروح، الذي تمثل بشرا هنا بأنه جبريل قياسا على أن "الروح
الأمين" الذي نزل بالقرآن (الشعراء، آية 193) هو جبريل، رغم الفارق بين تعبير
"روحنا" بضمير الملكية الذي يعود على الله وبين تعبير "الروح
الأمين"، الذي يدل على المفارقة بينه وبين الله، إلا أن إرجاع قضية الروح
المتمثل بشرا إلى حيز السر الإلهي وكذلك ربطها بالنفخة الإلهية في البشر إلى جانب
أن المسيح روح من الله وليس فقط نفخة من روحه، كل هذا يجعل تحديد ماهية الروح
المتمثل بشرا أمرا مفتوحا على عدة احتمالات ينتفي منها نعم احتمالية إلوهية
المسيح، لأن القرآن الذي قال بتمثل الروح بشرا هو نفسه من ينفي إلوهية المسيح،
ولكن الأهم أن تقبل فهم آخر غير ربط الروح بجبريل يصبح ممكنا.ً.
صلب عيسى
يؤكد القرآن على قضية الصلب، بيد انه ينفى هذا الصلب نفيا مطلقا فى
حق المسيح عيسى، وأنه لم يصلب ولم يُقتل ولكن شبيها له هو من تعرض للصلب:
((وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ
اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ)) (النساء، آية
157).
ولقد ذكر الطبري في تفسيره لهذه الآية عدة روايات تتفق كلها على
أنّ اليهود لم يقتلوا عيسى وإنّما قتلوا أحد أتباعه بعد أن ألقى الله عليه شبه
المسيح عندما هاجموا المكان حيث كان يوجد عيسى وحواريه.
ويبدو هنا أن الخلاف بين المسيحية والإسلام ليس حول الصلب نفسه
ولكن حول شخص المصلوب، هل هو عيسى نفسه أم أنه شخص جعله الله شبيها له، ومع
التسليم بأن هذه قضية خلافية إلا أنه يمكن أن تبنى عليها نقطة حوارية تقاربية بين
الديانتين، بمعنى أن المسلمين يعتقدون في صلب شخص شبيه بالمسيح ومن ثم عليهم تقبل
فكرة اعتقاد المسيحيين في صلب المسيح نفسه طالما لم تثبت عندهم قضية إلقاء الشبه
على شخص آخر، فمن رأوه يصلب بدا لهم في شكل المسيح.
عيسى في المخيلة الشعبية العربية و الإسلامية... (البطل المخلص):
الاعتقاد في عودة المسيح آخر الزمان ، هو اعتقاد في عودة الغائب
المخلص وهي الفكرة التي تربط بين ديانات ومذاهب عدة، ففكرة ظهور المخلّص موجودة فى
الإسلام كما كل الديانات الأخرى، وهذه العيدة لا تخلو من بعد سياسي يعطي لكل مذهب
ودين دليلا على صحة موقفه العقدي وأحقيته بحكم الأرض وهو ما سيتحقق بعودة المخلص
الغائب.
هذا الاعتقاد السائد في المخيلة الإسلامية يحول دون محاولات الحوار
الجادة بهدف التقارب، لأن كل فريق يعتقد في غائب سيظهر لاحقا ينصره ويبين له سلامة
موقفه، فضلا عن أنه يعطل عمل العقل المسلم وقيامه بأعمار الأرض وأنه هو المسؤول عن
حل مشاكله وليس مخلص يأتيه في آخر الزمان.
ومن هنا نشأت فكرة البطل المخلص في الذهنية الإسلامية فينتظر الناس
من ينقذهم مما هم فيه من تردي، مما يجعل فكرة المسؤولية الفردية وصنع القرارات
المصيرية عبر المؤسسات الديمقراطية وكذلك المشاركة المجتمعة عبر قنوات المجتمع
المدني فكرة صعبة التحقيق.
بدر شاكر السيّاب دخل إلى هذا العالم الرمزي من بوابة جيكور قريته
العراقية التي صار الشاعر مسيحها وابنها وضحيتها ومطرها. فجاء المصلوب ليجسد بعدين
متداخلين: الشاعر النبي الذي يبحث عن نبوة لا يجدها، والعراق المصلوب على خشبة
الاستبداد.
«بعدما أنزلوني سمعت الرياحْ/ في نواح طويل تسفّ النخيلْ/ والخطى
وهي تنأى إذا فالجراحْ/ والصليب الذي سمروني عليه طوال الأصيلْ/ لم تمتني، وأنصتّ
كان العويلْ/ يعبر السهل بيني وبين المدينةْ/ مثل حبل يشدّ السفينة/ وهي تهوي إلى
القاع كان النواح/ مثل خيط من النور بين الصباح/ والدجى في سماء الشتاء الحزينة».
هذا التوحّد بالألم الذي يشكل إحدى خصائص القصيدة السيّابية، يصل
إلى ذروته عندما يرى الشاعر صلباناً تمتد إلى ما لا نهاية:
«كل شيء مدى ما ترى العين/ كالغابة المزهرةْ/ في كل مرمى صليب وأم حزينةْ/ قدس
الرب/ هذا مخاض المدينة».
يعود السياب في رحلته مع الصليب إلى ترسيمة الانبعاث التي شكلت محوراً أساسياً في
شعره، بينما ينفض خليل حاوي عن شعره تفاؤلية الانبعاث التي صاغتها مجموعته الشعرية
الأولى «نهر الرماد»، ويغرق في عتمة القبر الذي بدأت ملامحه في الظهور مع فشل
تجربة الوحدة السورية- المصرية، ليمهّد للهول الذي جاءت به الهزيمة الحزيرانية
المروعة.
لعازر طريح القبر ويرفض أن يستمع لنداء المسيح القيامي، ويعلن تمرد الحقيقة على
الرمز:
«عمّق الحفرة يا حفارُ/ عمقها لقاع لا قرارْ».
فالمسيح فى المخيلة الشعبية العربية شخصية تراجيدية تحكى عن الموت والانبعاث، وقد احتلت
حيزاً كبيراً في نتاج من أطلق عليهم اسعد رزوق اسم الشعراء التموزيين، لكنها تفترق
عنها في أنها لا تحتفي بالانبعاث، على طريقة استحضار الإله الكنعاني تموز أو
أدونيس، بل تحوّل الموت اطاراً لتمجيد الضحية، أو شكلاً لرسم ملامح الإنسان
العربي، على صليب ارتفع فوق تلال الروح.
ثلاثة مقتربات أساسية لحضور عيسى في الشعر العربي المعاصر، بدأت مع
العراقي بدر شاكر السيّاب في رائعته «المسيح بعد الصلب»، وانعطفت مع اللبناني خليل
حاوي في التماهي بين المسيح ولعازار في قصيدته « لعازار عام 1962»، ووصلت إلى
ذروتها مع انتشار المسيح في العديد من قصائد الفلسطيني محمود درويش وخصوصاً في
«الجدارية»، حين يقيم الشاعر حواراً تراجيدياً مع السيد المصلوب.
المسيح ليس حاضراً في الشعر فقط، بل ان حضوره في الرواية يكاد أن
يكون موازياً لحضوره الشعري، وخصوصاً في أعمال الروائي الفلسطيني جبرا ابراهيم
جبرا.
فهذا المزج الصوفى فى بعدها الدينى والذى يجسد منحوتة دينية مخلصة ووضعها في سياق
دنيوي، وفتح الباب أمام صيرورة المسيح من رمز مرتبط بشعائر الدين المسيحي، إلى رمز
عربي مصنوع من تجربة الألم والاحتضار والولادة.
هكذا يستقبل لعازر موته، لكن حضور السيد ونواح مريم قائلة «لو كنت
هنا لما مات أخي»، كما ورد في الأناجيل تدفع المسيح إلى اجتراح معجزة القيامة التي
يشكك لعازر بها قبل أن يرفضها:
«صلوات الحب والفصح المغني في دموع الناصري/ أترى تبعث ميتا حجّرته شهوة الموت ترى
هل تستطيع/ … صلوات الحب يتلوها صديقي الناصري/ كيف يحييني ليجلو عتمة غصت بها
أختي الحزينة/ دون أن يمسح عن جفنيّ حمّى الرعب والرؤيا اللعينة».
وعندما يعود لعازر حيا كطيف ترفضه الحياة، يصرخ بصوت الشاعر:
«الجماهير التي يعلكها دولاب نارْ/ من أنا حتى أردّ النار عنها والدوارْ/ عمّق
الحفرة يا حفّارُ/ عمّقها لقاع لا قرارْ».
رحلة الانبعاث بتلاوين الموت السيّابية تنتهي في قصيدة خليل حاوي يأساً. فالانبعاث
الذي بشرنا به الشعر في حداثته القومية تلاشى في عتمات مقبرة الهزيمة. وكان على
شخصية يسوع الناصري أن تنتظر شاعرها الفلسطيني كي تتحرر من ثنائية الموت
والانبعاث، وتصير رمزاً شاملاً للضحية.
المسيح الفلسطينى
يحلو للشاعر محمود درويش ان يجعل من شخصية عيسى بن مريم مسيحا
فلسطينيا، ليس كرمز بل كحقيقة ملموسة، وينتشر في الشعر الدرويشي كتجربة شخصية
يعيشها الشاعر.
فالمسيح يقف على أطلال البروة التي طرد منها لاجئا، يُصلب في
السجون، وحين يعود يجد نفسه لاجئا في وطنه.
في «الجدارية» يعيد الشاعر تأويل المسيح، يلتحم به وينفصل عنه في
آن معاً، يمشي معه على ماء بحيرة طبريا أو بحر الجليل، يصعد معه إلى خشبة الصليب،
لكنه يقرر أن لا يتابع الرحلة إلى الموت:
«ومثلما سارَ المسيحُ على البحيرةِ/ سرتُ في رؤيايَ/ لكنّي نزلتُ عن الصليبِ/
لأنني أخشى العلوَّ/ ولا أبشّر بالقيامة».
الشاعر الذي كتب قصيدته بعد خروجه من حافة الموت، يرسم المسيح
أفقاً مختلفاً، يدعوه إلى مائدته الفلسطينية بدل أن يذهب كما فعل أسلافه إلى مائدة
الناصريّ الرمزية. يحرره من الأسطوري ويدخله في العادي، فالمسيح ليس ضيفاً على
المائدة الفلسطينية، انه المائدة التي صنعها ألم الضحية.
حكاية يسوع الناصري التي تجذرت في أدبنا العربي المعاصر لا علاقة
لها بالدين وجدله الإيماني، إنها حكاية تتألف من فصلين:
الأول: يتجسّد في كسر
الهويات المقفلة، عبر تملّك ثقافي عميق لشخصية يسوع الناصري، وإدراجها في متن
ثقافة عربية تسعى إلى الانعتاق بحثاً عن جذورها الثقافية المتنوعة. وفي هذا تذكير
لأسياد مرحلة السقوط والاستبداد والعتمة التي تفرض ظل الموت على حياتنا العربية،
بأن هذا السقوط طارئ انحطاطي لا يستطيع أن يستمر.
والثاني: اسمه الحب، فالناصري يولد من جديد في أدبنا مجبولاً
بإيقاعات الحب التي تخمّر أروحنا. فنفاجأ به مثلما يفاجئنا الحب، ويمضي بنا إلى
حيث يشاء.
وهكذا نرى نحن العرب والمسلمين عيسى المسيح المخلص روح الله
وكلمته، المناضل المقتول لأجل تحرير الإنسان وانعتاقه من ربقة المرابين المتاجرين
باسم الله تارة والمتحالفين مع المستكبرين تارة أخرى، ورغم تجرعه مرارة الكفاح
والنضال وبعث الهوية، بيد أنه كان حرا لأنه كان محبا بل كان مصدرا للحب .
0 تعليقات