آخر الأخبار

الغناء بين الشرع والفقهاء (الزمان والمكان)

 



 

 

محمود جابر

 

الغناء حسب معناه لغوياً هو ترجيع الصّوت وتمديده، وكل حالة من الحالات التي يردد فيها الصوت من خلال تمديده وترجيعه، تسمّى غناءً. والطرب ليس دخيلاً في الغناء، هناك غناء مطرب وغناء غير مطرب، لذا يمكن إعطاء صفة الغناء لكل طريقة في إطلاق الكلام، سواءً كان شعراً أو نثراً، بأسلوب التّرجيع والترديد.

 

ولم يكن للعرب قبل الإسلام، عند أغلب الباحثين، أى فن سوى الشعر الذى نما إلى النضج الكامل، وكانوا يفتخرون به، وكما هو الحال مع أشكال الثقافة الأخرى، استعار العرب المسلمون فنهم من البلدان المجاورة، ومهما كانت العناصر التى اقترضها العرب، فقد كانت استلهاماتهم بطريقة دمجتهم فى مجتمع «روحى جمالى» متجانس، وخلقت لديهم حسهم الفنى الخاص.

 

والغناء أحد أهم الفنون التى ترتبط بالإنسان للتعبير عن حبه وانتمائه وعاطفته تجاه نجواه، وذكر عن النبى وأصحابه أنهم كانوا يسمعون الشعر، وينشدونه ويستنشدونه من غيرهم، فى سفرهم وحضرهم، وفى مجالسهم وأعمالهم، بأصوات فردية كما فى إنشاد حسان بن ثابت وعامر بن الأكوع، وبأصوات جماعية، كما فى حديث أنس فى قصة حفر الخندق، قال: فلما رأى الرسول ما بنا من النصب والجوع قال: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرين».

 

ورخص بعض الفقهاء أنواع من اللهو فى العرس ونحوه كما رخص للنساء أن يضربن بالدف فى الأعراس والأفراح.

 

ومنذ فجر الإسلام تم بحث قضية الموسيقى والغناء وجوازهما، وتبعها العديد من الأحكام التابعة كالمشاهدة والسماع والمشاركة فى الغناء والموسيقى، وحدث خلاف شديد بين من أفتى بالحل ومن أفتى بالحرمة ومن افتى بالحلية المشروطة.

 

ولكن غلب التحريم الحل فى الفتوى، مع ملاحظة ان الفقهاء كانوا فى واد والواقع فى وادى آخر، ففى الوقت الذى يجرم فيه بعض الفقهاء الفنون، كانت القصور الحاكمة وبيوت البرجوازيين العرب عامرة بمختلف أنواعها وشتى صنوفها، بل شهدت بعض الحواضر العربية رواجًا كبيرًا للغناء والرقص وخصصت لها الحانات التى كانت سمة أساسية لتلك الحواضر، ولم تمنع النقاشات حول شرعية الموسيقى الفن من الازدهار.

 

إذًا، علاقة الفن والإسلام، بدأت منذ بداية الدعوة الإسلامية، فالاثنان لم يبتعدا أو يتضادا أبدًا، الناظر إلى تاريخ الدين الإسلامي منذ دولة النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، وإلى اليوم يرى الفن والإبداع كانا دائمًا جزءا أصيلا من روح الدين، الشعر والغناء والموسيقى والعمارة والنحت، كلها فنون أبدع فيها المسلمون، وتركوا فيها لمساتهم الخاصة، فأصبح لدينا ما يعرف بـ«الفن الإسلامى».

 

وقد تكلم الغزالى فى كتابه «إحياء علوم الدين»، وقال ما نصه عن الغناء «من لم يحرّكه الربيعُ وأزهاره، والعودُ وأوتاره، فهو فاسدُ المزاج ليس له علاج»، هكذا علق الفيلسوف المسلم عن الجمال فى الفن الذى تدركه العقول والأبصار والأسماع وسائر الحواس، وكيف يصنع الإحساس الجمالى لدى الإنسان ورفع ذائقته السمعية.

 

 

ومن أجل فهم وجهات النظر الإسلامية الأصولية حول الفن والترفيه، لا يمكننا الاعتماد فقط على رأى علماء المسلمين القدامى، لكن يجب أيضًا أن ننظر إلى الرأى الدينى الحديث، ووفقًا لشيخ الأزهر الراحل محمود شلتوت، الذى أفتى عام 1960، بـ«جواز الموسيقى بشروط معينة» يجادل بأن الله ليس ضد اللذة، وأن الإسلام يسعى للوسائل الفنية، ومع ذلك، لا ينبغى أن يحدث فى ظروف غير أخلاقية أو مع رفقاء فاسقين!

 

ورغم أن القرآن الكريم لم يذكر فيه بشكل صريح وواضح آيات لتحريم الغناء فإن البعض يستند إلى تفسيرات عدد من الشيوخ والأئمة التى تحرم ذلك، ربما أغلبها تستند إلى الآية الكريمة «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ» «لقمان 6»، وذلك وفقًا لرؤية عبدالله بن مسعود، حيث قال وهو يُسأل عن هذه الآية السابقة فقال عبدالله: «الغناء والذى لا إله إلا هو»، ورددها ثلاث مرات.

 

لكن التفسير السابق اختلف معه الشيخ محمد متولى الشعراوى، وقال عن تفسير الآية سالفة الذكر: «لا تقُل الغناء، لكن قُلْ: النص نفسه إنْ حثَّ على فضيلة فهو حلال، وإنْ أهاج الغرائز فهو حرام وباطل، كالذى يُشبِّب بالمرأة ويذكر مفاتنها، فهذا حرام حتى فى غير الغناء»، وهو ما يتفق عليه الشيخ محمد المسير أيضًا.

 

أما فى تحريم المعازف، فهناك من يستشهد بالحديث الشريف الذى يقول: «لَيَكُوْنَنَّ فى أُمَّتِى أقوامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحر «أو الـخَزَّ» والحرير والـخَمْرَ والـمعازِفَ»، إلا أن أغلب من روى الحديث أجمعوا أن الوعيد ليس على المعازف، وقال القاضى المالكى أبو بكر بن العربى فى كتاب «الأحكام»: «لم يصح فى التحريم شىء»، وقال ابن حزم فى «المحلى»: «ولا يصح فى هذا الباب شىء أبدًا، وكل ما فيه موضوع»، وقال أيضًا: «إنَّ الغناء مُباح»، وبنَى كلامه على تضعيف حديث أبى مالكٍ الأشعرى، ويرى ابن حزم أن الاستماع للموسيقى مباح مثل التَّنَزُّه فى البساتين ولبس الثياب الملونة.

 

الشيخ سيد سابق أحد علماء الأزهر الشريف، قال فى كتابه «فقه السنّة» فى باب بيع آلات الغناء «فإن الغناء فى مواضعه جائز؟ والذى يقصد به فائدة مباحة حلال وسماعه حلال، وبهذا يكون منفعة شرعية يجوز بيع آلاته وشرائها لأنها متقومة»، وعدد الكتاب أشكال الغناء الحلال وكان من ضمنها «تغنى النساء لأطفالهن وتسليتهن، وتغنى أصحاب الأعمال وأرباب المهن أثناء العمل للتخفيف عن متاعبهم والتعاون بينهم، الغناء فى الفرح إشهار له، التغنى فى الأعياد إظهار للسرور».

 

ووفقًا للباحث الفلسطينى إسماعيل راجى الفاروقى، فإن الرأى الدينى يصنع تسلسلًا هرميًا للموسيقى والغناء فى أشكال ممنوعة، وغير مرغوب فيها، وغير مبالية، وموصى بها وجديرة بالثناء. تقف تلاوة القرآن فى ذروة التسلسل الهرمى، تليها مباشرة الأذان للصلاة والترانيم الدينية. وهناك أيضًا أنواع مختلفة من الأغانى المرتبطة بالاحتفالات العائلية وهتافات القوافل وأغانى العمل وموسيقى الفرق العسكرية. وفى أسفل التسلسل الهرمى، نجد «الموسيقى الحسية التى يتم تأديتها بالاقتران مع أنشطة مدانة، أو التى يُعتقد أنها تحرض على ممارسات محظورة مثل تعاطى المخدرات والكحول، والشهوة، والدعارة.. إلخ». ومن الواضح أن هذه الأنواع ممنوعة أى محرمة، ومع ذلك تقع معظم أشكال الموسيقى والغناء بين هذه الفئات الواضحة وهى مثيرة للجدل.

 

ولا تتعلق الموافقة أو الرفض على فنانى الأداء فقط بالنوع، لكن أيضًا بسياق الأداء، فيما يتعلق بجواز السياق، واعتبر الإمام الغزالى ثلاثة عناصر مهمة، أى الزمان والمكان والشركاء، من غير المقبول تخصيص الكثير من الوقت للعروض بحيث يتعارض مع الأهداف الإسلامية العليا ويشتت انتباه المؤمنين عن الإخلاص لله.

 

بالتالى، فإن المؤدين المحترفين بدوام كامل أقل قبولًا من الهواة غير المحترفين، ويعتبر قبول مكان ومناسبة العرض عاملاً مهمًا أيضًا فى الحكم على مشروعية الفنانين وجمهورهم. أخيرًا، يؤثر نوع الأشخاص الحاضرين أثناء الأداء على جواز فنانى الأداء وجمهورهم. ويمكن أن يكون نوعًا معينًا من الموسيقى مسموحًا به فى سياق واحد بينما يرفض فى ظروف أخرى. العزف على الدف، على سبيل المثال، مقبولًا إذا كان من قبل النساء فى حفل زفاف لكنه ممنوعًا إذا قام به الرجال فى سياق غير مقبول!

 

وعلى الرغم من ان كل التراث الروائى عند الشيعة لم يصح منه حديثا واحدا فى حرمة الغناء، ومع هذا لم يجى الفقهاء فيه مجرى الأصل وهو الحل، فجرى الحكم بعكس الدليل، حتى أصبح إجماع الفتوى يجرى مجرى الأصل فى الحرمة.

 

ولهذا ورغم الإجماع بحرمة الغناء الا ان المحقِّق الأردبيلي قال بحلية الغناء في مجالس عزاء الحسين، واستثنوه من الغناء الحرام.

 

ولقد كان المحقِّق الأردبيلي سبّاقاً بامتياز في الاستدلال على جواز الغناء بحيث لم يسبقه إليه أحد. وبطبيعة الحال فإن الجواز مورد يبتني على قاعدته جواز آخر يشمل كل ما يكون في مدح الله سبحانه وتعالى أو قراءة القرآن أو الشعر الديني أو مدح بيت النبوة والعصمة، ما دامت كلها من أجل ترقيق القلوب وحملها إلى مزيد من التعلق بالله سبحانه وتعالى، والتوجه الخالص إليه، فإن تحريك القلوب وتوجيهها نحو الخالق الأوحد أمر في حدّ نصاب العبادة، وكل غناء كانت هذه أهدافه، وهو في ذاته طريق إلى تلك الموارد، لابد أن يكون جائزاً وممدوحاً.

 

وقد أورد المحقق الاردبيلى لم يتحدث عن الغناء فى مجالس العزاء وجلب الحزن فقط، بل أباحه فى جلب الفرح السرور أيضا

 

وبالجملة فإن الأردبيلي يخلص إلى موقفين: الأول: جواز الغناء إذا كان المقصود به رثاء وبكاء وندب الإمام الحسين، وفي غير هذه الصورة يكون حراماً.

 

ما يهمنا فى نهاية هذا المقال، أن خلاف العلماء حول الحل والحرمة، ومحاولة تسالم الأدلة من السنة مع عدم وجود دليل صحيح على الحرمة كل هذا يذهب بنا الى القول بان ما من ذهب الى التحريم كان يتحدث عن الغناء المصاحب للشراب والفجور والخنوثة وليس الغناء الذى يمثل لونا من ألوان الفن التى ترقى بالإنسان ومشاعره ........ فالفقهاء أصحاب فتوى التحريم كانوا ينطلقون من حالة اجتماعية زمانية ومكانية وليس فى بحث الحقل المعرفى محل الإفتاء بشكله المجرد .

إرسال تعليق

0 تعليقات