نصر القفاص
عاش "مصطفى كامل" سنوات عمره الأخيرة مصدوما فى
"فرنسا" و"ألمانيا" حين وقعا "الاتفاق الودي" عام
1904 والذى أقر باحتلال بريطانيا لمصر.. وعاش "محمد فريد" سنوات عمره
الأخيرة مصدوما فى دولة الخلافة – العثمانية – التى لعبت بمستقبل مصر, على
"ترابيزة القمار الاستعماري"!!.. فانقلب من مدافع عن هذه الدولة.. إلى
رافض لها ورفع فى وجهها شعار "مصر للمصريين" لدرجة أن آخر جملة نطق بها
قبل وفاته فى "ألمانيا" للذين حوله: "أتحدوا من أجل مصر"
ومات!!
شهور وأيام "محمد فريد" الأخيرة كانت صعبة وقاسية..
فالرجل الذى أنفق ثروته من أجل القضية الوطنية.. وجد نفسه مريضا.. فقيرا.. مرفوضا
حتى من الذين شكلوا "الوفد المصرى" للمطالبة بالاستقلال.. وشهد الجيش
التركى يحاول غزو مصر عبر سيناء.. بل فرضوا عليه تأييد هذا الغزو الذى تصدى له
أبناء مصر ودحروه.. ثم كان أن جعلت سلطات الاحتلال كل من ينتمى إلى الحزب
"الوطنى المصرى" منبوذا مطاردا.. كما حدث مع "عبد العزيز
عمران" الذى كان يدرس الطب فى "جنيف" وحين وصل ليقضى أجازة
بالقاهرة.. فرضوا عليه إقامة جبرية فى بيته.. وكم كان قاسيا على نفسه أن يترك
الحزب عدد من قياداته وبينهم "محمد على علوبة" و"عبد اللطيف
المكباتى" وكذلك "مصطفى النحاس".. كما ترك الحزب والعمل السياسى
"طلعت حرب" الذى اختار التركيز على النضال ببناء اقتصاد وطنى.
تابع "محمد فريد" التطورات التى عاشتها مصر بعد اندلاع
"الحرب العالمية الأولى" وتأثر بشدة أن البلاد قضمتها بريطانيا.. نصبت
حاكما عليها بمسمى السلطان.. شكل "حسين رشدى" أول وزارة فى "زمن
السلطان حسين" وكانت تضم "عدلى يكن" وزيرا للمعارف.. أصبح بعد ذلك
رئيسا للوزراء.. و"إسماعيل صدقى" وزيرا للأوقاف.. أصبح بعد ذلك رئيسا
للوزراء.. كما ضمت "إسماعيل سرى" وزيرا للأشغال والحربية والبحرية..
وأصبح بعد ذلك رئيسا للوزراء.. وكذلك "يوسف وهبة" وزيرا للمالية.. أصبح
بعد ذلك رئيسا للوزراء.. إضافة إلى "عبد الخالق ثروت" وزيرا للحقانية..
أصبح بعدها رئيسا للوزراء.. وكان "أحمد حلمى" وزير للزراعة وهو الوحيد
من هذه الوزارة الذى لم يتول رئاسة الوزارة فيما بعد!!
أصابت الشعب المصرى حالة حزن وقهر شديدين أن تقوم سلطات الاحتلال
بتعيين حاكم للبلاد, بخطاب يصدر من ضابط انجليزى.. وكان الاحتفال بتنصيب السلطان
الجديد فاترا.. وكم كان مؤلما على نفس "محمد فريد" قراءته لحديث أدلى به
"السلطان حسين كامل" إلى مراسل "التايمز" فى القاهرة.. أثنى
فيه على بريطانيا العظمى وأعمالها الطيبة فى مصر!! وقال: "أيقنت منذ تم إخماد
الثورة العرابية أن مصر وسائر الأقطار الشرقية تفتقر إلى الأوروبيين يساعدوهم على
التقدم والارتقاء"!! وكانت الصحف تنقل هذه الكلمات للشعب.
كلام من جلس على كرسى الحكم.. كان تأثيره مؤلما على نفس "محمد
فريد" خاصة وأن السلطان قال: "أثق فى انجلترا تمام الثقة وأئتمنها..
وأتمنى أن تثق فى وتأتمننى, لأننى سأسعى إلى التوفيق بين انجلترا ومصر"!!
وأضاف قائلا: "إن بلادى تفتقر إلى التعليم الذى يسمح
بنهضتها.. ولعلى أقصد بالتعليم فى الدرجة الأولى, أن يتم تهذيب الأخلاق والتربية
الأدبية والاجتماعية"ّّّ!! وقد أثارت هذه التصريحات غضب قطاعات عريضة من
الشعب.. وصل الغضب إلى حد أن "محمد خليل" تاجر من المنصورة.. حاول يوم 9
ابريل عام 1915, اغتيال السلطان بإطلاق النار عليه.. وتم القبض عليه ومحاكمته
عسكريا.. وصدر الحكم بالإعدام وتم التنفيذ على عجل.. وبعدها بشهرين – يوم 9 يونيو
– تعرض موكبه فى الإسكندرية, إلى إلقاء قنبلة عليه من إحدى النوافذ.. لم تنفجر
القنبلة.. وتم إعدام المشتبه فيهم.
دفعت مصر ثمنا فادحا من ثرواتها وشبابها فى "الحرب العالمية
الأولى" عبرت عنه إحدى المتطوعات الانجليز التى كانت فى مصر خلال هذه
الفترة.. كان اسمها "دروهام" ونشرت مقالا فى جريدة "الديلى
نيوز" ابريل عام 1919, قالت فيه: "لقد عامل جنودنا الأهالي بقسوة
واحتقار.. وكان الجنود السكارى ينتهكون أعراض النساء, وكل ذلك خلق حالة غضب وحقد
على سلطاتنا"!!..
وشهدت مصر أسوأ الأحوال اقتصاديا.. وكان الانجليز يجبرون العمال
والفلاحين على التطوع!! لدرجة أن عددهم تجاوز المليون, وبعضهم تم إرساله إلى
الجبهات فى العراق وفلسطين.. واستولت سلطات الاحتلال على كل الدواب – الجمال والحمير
– لخدمة المعارك!! ووسط كل هذه الأحوال, كانت الصحف الانجليزية تنقل عن السلطان
قوله: "لقد علمتنى تجربتى أن الانجليز هم أصدقاء شعبى وعائلتى المخلصين.. وما
داموا على ثقة فى إخلاصى وولائى سأستمر فى منصبى.. ولولا هذه الثقة لاعتزلت دون
تردد"!!
تلك هى الوطنية التى يرضى عنها الاستعمار!!
توفى "السلطان حسين" يوم 9 اكتوبر عام 1917, ورفض ابنه
"كمال الدين" أن يخلفه على كرسى الحكم.. وكتب رسالة إلى والده قبل
وفاته.. جاء فيها: "أرجو من حسن تعطفاتكم أن تأذنوا لى أن أتنازل عن كل حق أو
صفة أو دعوى.. كان من الممكن لى أن أتمسك به فى إرث عرش السلطنة المصرية بصفتى
إبنكم الوحيد"!!..
صدر بعد ذلك قرار انجليزى بتولية "أحمد فؤاد" عرش
السلطنة.. أرسل "وينجت" خطابا له يبلغه بذلك, وجاء فى نصه: "بأمر
جناب وزير الخارجية لحكومة صاحب الجلالة البريطانية, أتشرف بأن أعرب لعظمتكم عن
فائق الأسف الذى شمل حكومة جلالة الملك حين وصل إلى علمها نعى المغفور له صاحب
العظمة السلطانية المغفور له حسين كامل, الذى أكبرت الأمة المصرية جميعها إخلاصه
لها.. فكانت وفاته كارثة وطنية"!! ثم أضاف الخطاب: "إن حكومة صاحب
الجلالة البريطانية تعرض على عظمتكم تبوء هذا العرش السامى, على أن يكون لورثتكم
من بعدكم"!!
تم الاحتفال بتنصيب السلطان "فؤاد" صباح يوم 10 اكتوبر
عام 1917.
بعد ساعات من جلوسه على كرسى الحكم.. كلف "حسين رشدى"
بتشكيل الوزارة.. ثم أصدر مرسوما يشجع المواطنين على التطوع فى خدمة السلطة
العسكرية البريطانية!! ثم أوعز للحكومة أن ترسل للحكومة البريطانية, وتخبرها بتبرع
مصر للمساهمة فى نفقات الحرب.. ونشرت وكالة "رويترز" برقية جاء فيها:
"قبلت الحكومة البريطانية مع الشكر تبرع الحكومة المصرية العاجل بثلاثة
ملايين جنيه من نفقات الحرب.. وتعهدت بتقديم نصف مليون آخر من ميزانية السنة
الجديدة!!
إنتهت "الحرب العالمية الأولى" فى تمام الساعة 11 يوم 11
عام 1918.. وأرسل جلالة ملك انجلترا برقية فى اليوم نفسه إلى السلطان "أحمد
فؤاد" جاء فيها: "فلتثق مصر وأهلها بنيل نصيب كامل فيما سيكون
للإمبراطورية البريطانية من العظمة والرخاء"!!
حدث ذلك وكان يتابعه "محمد فريد".
كان يعرف الحقائق وأنه تم نهب ثروة مصر من القطن.. فقد كانت سلطات
الاحتلال تشترى القنطار بمبلغ 7 جنيهات ونصف.. وجمعت فى سنة الحرب الأخيرة 5,5 –
خمسة ونصف – مليون قنطار, لتدفع 40,374,365 مليون جنيه. ثم باعت هذه الكمية فى
الخارج بمبلغ 217,66,480 مليون جنيه.. لتخسر مصر ما يقرب من 170 مليون جنيه فى عام
واحد.. وفوق ذلك تتبرع حكومة مصر بثلاثة ملايين من الجنيهات, مع وعد بإضافة نصف
مليون آخر!! وكانت الحكومة وعظمة السلطان يعرفان أمر انتشار "الحمى
الأسبانية" التى حصدت أرواح بالمئات!! إضافة إلى تفاصيل مذهلة تكشف التفريط
فى ثروات ومقدرات وتاريخ وطن وأمة.. وكل الحقائق إعترف بها الاستعمار نفسه فى
وثائقه.. لكن "خدم الملكية والاستعمار" ينكرون ذلك.. فإذا كان
"محمد فريد" الذى ضحى بماضى يدعو للفخر ومستقبل عريض مع ثروة طائلة وصحة
تدهورت وهو فى ريعان شبابه.. فقد استمتع الذين باعوا الوطن نفسه بالسلطة والنفوذ!
لكن "شعلة الوطنية المصرية" لم تنطفئ.. بل اشتعلت أكثر.
أكثر ما أسعد "محمد فريد" أنه شهد ثورة الشعب عام 1919.
أكثر ما أحزنه كان صدور "وعد بلفور" وسط ضباب الحرب.
لم يفته أن يبعث رسالة إلى "لينين" فى "روسيا"
يشكره فيها على دعمه للقضية الوطنية المصرية, ومطالبته باستقلال مصر عن الاحتلال
البريطانى.. إستمر مخلصا لنهج زعيم الحزب "الوطنى المصرى" رغم كل
معاناته, وما شهده من مؤامرات فى الخارج.. وكان أكثرها قسوة على نفسه تلك التى قام
بها نفر من رفاقه.. وفاضت روحه مساء يوم 15 نوفمبر عام 1919.. وترك الحزب ومبادئه
وديعة للذين تولوا قيادة الحزب.. وكان "حافظ رمضان" هو الرئيس الثالث
للحزب, الذى استمر يحظى بثقة قطاع من المصريين.. كان يضمن له عددا من المقاعد فى
كل البرلمانات التى تشكلت بعد صدور دستور 1923.. ورغم أنه تعرض لأزمات عنيفة
عديدة.. بقى حتى قامت "ثورة 23 يوليو" التى قربت شباب هذا الحزب إليها,
وكان بينهم "فتحى رضوان" و"نور الدين طراف" اللذان أصبحا
وزراء فى زمن ما بعد الاستقلال وجلاء الانجليز.. وقامت الثورة بنقل رفات
"محمد فريد" إلى جوار "مصطفى كامل" فى احتفال مهيب.. وكان
أعظم تقدير للحزب وزعيمه أن باحثا أمريكيا اسمه "أرثر جولد سميث" تقدم
إلى جامعة "هارفارد" برسالة دكتوراه فى الفلسفة وتاريخ ودراسات الشرق
الأوسط عام 1968.. تتناول "الحزب الوطنى المصرى" ونضال "مصطفى
كامل" ومن بعده "محمد فريد".. وأكدت الدراسة العلمية أنه كان أول
حزب فى مصر يتم تشكيله وبناؤه على أسس صحيحة.. وأنه كان حزبا حقيقيا بمبادئه
ومنهجه, وأن ذلك جعله هدفا للمستعمر من اللحظة الأولى.. ويبقى القول أن الشيخ
"عبد العزيز جاويش" كان أحد أركان هذا الحزب, ولعب أدوارا مهمة سياسيا
وصحفيا.. لكنه ابتعد عن الحزب حتى توفى عام 1929, والمؤسف أن سيرته تتعرض للتجاهل
كثيرا.. كما سيرة "حسين رشدى" رئيس الوزراء الذى عمل مع
"خديوى" و"سلطان" و"ملك" وكان وراء تشكيل
"الوفد المصرى".. والرجل الذى كتب استقالته دفاعا عن حق مصر فى أن تطالب
باستقلالها.. وهو ما يستحق أن نتوقف أمامه..
يتبع
0 تعليقات