نصر القفاص
التاريخ يجدد نفسه عند الأمم التى تقرأه وتحترمه.
التاريخ يكرر نفسه عند الأمم التى تدير له ظهرها!!
أحداث شهر مارس عام 1910 تكشف ما إذا كان تاريخنا يجدد نفسه.. أم
يكرر نفسه!!
تعرض الحزب "الوطنى المصرى" لأزمة مالية, نتيجة الصراع
على أسهم جريدة "اللواء".. حاول "محمد فريد" تجاوز الأزمة,
بإصدار جريدة جديدة.. صدرت جريدة "العلم" يوم 7 مارس, وبدا أنها ستكون
امتدادا لجريدة " اللواء" خاصة وأن الشعب استقبلها بحفاوة.. إجتمع مجلس
الوزراء يوم 19 مارس وأصدر قرارا بإيقاف "العلم" عن الصدور لمدة شهرين..
فقد كان مطلوبا خنق الحزب والتضييق على زعيمه.. وللقرار أسباب أخرى!!
قبل نهاية الشهر وصل الرئيس الأمريكى – الأسبق – "تيودور
روزفلت" إلى القاهرة فى زيارة لمصر.. طلب خلال زيارته أن يخاطب الشعب المصرى
والعالم الإسلامى, بإلقاء خطاب من منبر الجامعة المصرية!!
حدث بعدها بقرن أن فعلها الرئيس – الأسبق – "باراك
أوباما"!!
فى خطابه.. تحدث "روزفلت" عما يحدث فى مصر.. قال بوضوح
أنه يحذر من قيام "فتنة عرابية جديدة" وكان يشير إلى الحزب "الوطنى
المصرى" وزعيمه "محمد فريد".. فهم الشعب الرسالة.. هاجمت الصحف
الرئيس الأمريكى.. تظاهر الطلاب ضده.. قرر "المندوب السامى البريطانى"
باتفاق مع الحكومة أن تكون المواجهة قاسية وحاسمة.. تم إعلان لائحة تحرم على طلاب
المدارس كتابة المقالات فى الصحف, وتحريم ممارستهم للسياسة بالجامعات.. قرروا
إصدار "قانون المطبوعات" لخنق الصحف.. وتم إصدار قانون "التآمر
السياسى" لتقليم أظافر "محمد فريد" والشيخ "عبد العزيز
جاويش" اللذان كانا أول من تمت محاكمتهم بموجب هذا القانون.. وصدرت ضدهما
أحكاما سريعة بالسجن!!
تم سحب "جورست" إلى "لندن" لمرضه.. ومات بعدها
بشهرين.
خرج "محمد فريد" وجاويش" من فترة سجن قصيرة.. وقررا
مغادرة مصر.
تم الإعلان عن تعيين الجنرال "كيتشنر" كمندوب سامى, فى
إشارة إلى أن القادم سيكون باطشا.. غاشما.. فهذه الحركة الوطنية التى تتصاعد يجب
قتلها جنينا!! فقد كان الخوف كل الخوف أن تترسخ "الديمقراطية" فى مصر,
باعتبارها خطر على الوجود الاستعمارى!! وكان الرأى فى "لندن" هو السماح
بهامش من الحرية للصحف, دون السماح بأن يسهم الصحفيين فى ممارسة التنوير وإيقاظ
الوعى عند المواطنين.. جاء ذلك بعد اطلاع الحكومة على أول تقرير وصلها من "كيتشنر"
والذى ذكر فيه: "أرى أن الوطنيين المصريين لا يتمتعون بسمعة جيدة فى الدوائر
المحترمة – خدم الاستعمار – وهم يمثلون أخطر تهديد لسلطات الاحتلال.. كما يشكلون
خطرا اجتماعيا بسبب نشاطهم المثير بين عمال المدن"!! وأضاف فى تقريره قائلا:
"الشعوب الإسلامية ترى الروح الحزبية مثل الخمر عند شعوب إفريقيا البدائية..
لذلك هى محرمة عليهم"!!
أمسك "على فهمى" بدفة الحزب "الوطنى المصرى"
بعد أن غادر "محمد فريد" مصر فى سرية إلى "إسطنبول" على ظهر
سفينة روسية.. بعد سفره بستة أسابيع صدر ضده حكم جديد بالسجن سنة مع الأشغال
الشاقة.. كان ذلك سببا فى رفضه العودة, وقرر قيادة النضال الوطنى من الخارج.. وحدث
بعدها أن صدر حكم ضد "على فهمى" و"إسماعيل حافظ" القيادى فى
الحزب بالسجن لمدة ثلاثة شهور.. كان السبب أن جريدة "اللواء" نشرت كلمة
وجهها "محمد فريد" إلى الشعب.
كان "سعد زغلول" وزيرا للحقانية.. وكانت خلافاته مع "كيتشنر"
تتفاقم وتتصاعد.. وعندما صدر الحكم ضد "على فهمى" قدم استقالته من
الوزارة احتجاحا.. وبدأ من تلك اللحظة تاريخا آخر.. وهو الذى بدأ مبكرا كاتبا
للمقال فى "الوقائع المصرية" فى وقت ترؤس الشيخ "محمد عبده"
لتحريرها.. وكان قاضيا مرموقا وتزوج السيدة "صفية" ابنة "مصطفى
باشا فهمى" رئيس الوزراء.. أى أنه كان مثقفا رفيعا, ورجل دولة متمرس.. فضلا
عن مكانته الاجتماعية المرموقة.. وكان شاهدا على سطوع نجم الزعيم "مصطفى
كامل" ثم قيام "محمد فريد" بحمل الراية بعده.. وشهد سياسة الاحتلال
الانجليزي, وتأكد أن كافة وعودهم بمنح مصر استقلالها هى كذب بواح.. لكنه اختار
طريقا ومنهجا مختلفا.
هناك.. فى "إسطنبول" اكتشف "محمد فريد" أنه لا
فائدة من بقائه.. غادر إلى "جنيف" وأسس هناك جمعية "أبو
الهول" وفتح لها فروعا فى "لندن" و"باريس"
و"ليون" و"بروكسل".. ورفض محاولات "الخديوى عباس
الثانى" التقرب إليه.. قناعته كانت قد نضجت بأن هذا الجالس على كرسى الحكم فى
مصر, قد أصبح فاسدا ومفسدا.. لا أمل فيه ولا من ورائه.. ربما لأن سلطات الاحتلال
الانجليزى, أسقطته فى مصيدة الفساد.. فقد أطلق "كرومر" يده فى أموال
الأوقاف.. وسمح له "جورست" ببيع الرتب والألقاب.. ولما جاء
"كيتشنر" قرر أن يغلق الطريق عليه بنزع الأوقاف منه, ومراقبة عمليات
بيعه للرتب والألقاب.. حدث ذلك عقابا "للخديوى" على عدم الانصياع
التام.. والتام جدا.. لأوامر "المندوب السامى" الذى تم اختياره عسكريا
لتنفيذ رؤية السلطة العليا فى "لندن" بعد اعتقادها أن ذلك هو سبيل قتل
الحالة الجديدة التى أصبحت عليها مصر!!
فهم "الخديوى" ومن خلفه "السلطان العثمانى"
منهج الانجليز الجديد!
أشارت بطانة "السلطان" على "الخديوى" أن يحاول
التقرب من "محمد فريد" فأرسل إليه عارضا اللقاء, أملا فى مصالحة
واتفاق.. تم الترتيب للقاء.. تراجع "الخديوى" خشية أن يؤدى ذلك إلى غضب
الانجليز.. وأدى ذلك إلى إصرار "محمد فريد" على أن الجالس على كرسى
الحكم فى مصر, لا يملك إرادة ولا قدرة على اتخاذ قرار خاصة وأن رئيس الوزراء الذى
عينه "الخديوى" كان هو صديقه "محمد سعيد باشا" الذى أرسل إلى
"محمد فريد" يخطره بأن "كيتشنر" يسعى إلى محاكمته على مقالاته
التى ينشرها فى اوروبا.. تسرب ذلك إلى "المندوب السامى" فى القاهرة..
قرر الذهاب فى طريق عكسى.. طرح مبادرة وصفها بأنها "الإصلاح الدستورى"
وتضمنت إعادة إحياء المجلس التشريعى – البرلمان – على أن يكون لهذا المجلس حق
اقتراح – مجرد اقتراح – التشريعات.. وللحكومة حق إقرار ما تراه من قوانين!!
الصيغة المطروحة فهمها قيادات الحزب "الوطنى المصرى" فى
الداخل.
انتفضت قيادات الحزب لإعلان رفض هذا الإصلاح, باعتباره خديعة
لامتصاص غضب الشعب ومحاولات لتبريد ثورته.. لكن ما حدث أنه تم التنفيذ.. وتم تشكيل
المجلس التشريعى, الذى انتخب "سعد زغلول" وكيلا له.. وانتخب "أحمد
مظلوم باشا" رئيسا.. كان يمكن أن تهدأ وتستقر الأمور.. لكن "محمد
فريد" هاجم ما يحدث وشرح أبعاده, وأوضح أنه مؤامرة انجليزية بالاتفاق مع
"الخديوى" ضد مصر والدولة العثمانية.. تأثر بهذا الكلام والشرح الذى
قاله "محمد فريد" طالبا مصريا كان يدرس فى "إسطنبول".. إسمه
"محمد مظهر" وعلم أن "الخديوى" الموجود فى
"إسطنبول" سيلتقى "سعيد حليم باشا" الذى كان يشغل منصب
"الصدر الأعظم" وهو منصب يوازى "رئيس الوزراء" وإن كان يتجاوز
ذلك باعتباره منصب إمبراطوري!! ذهب "محمد مظهر" وتربص بالخديوى لحظة
خروجه من اللقاء.. أطلق عليه عدة رصاصات من مسدسه.. أصيب الخديوى "عباس حلمى
الثانى" ووصل الخبر إلى مصر التى راحت فى حالة صدمة شديدة.. تم نقل
"الخديوى" للعلاج فى "فيينا".. حدث ذلك يوم 25 يوليو من عام
1913.. وبعدها بشهور قليلة شهد العالم حدثا جللا.
اندلعت الحرب العالمية الأولى.. وقت أن كان "الخديوى"
خارج البلاد.
يوم 4 أغسطس عام 1914.. دخلت بريطانيا العظمى الحرب إلى جانب
فرنسا, ضد المانيا التى اختارت الدولة العثمانية أن تحارب إلى جانبها.. كان
"وينجت" يشغل منصب سردار الجيش المصرى – قائد الجيش – وحاكم السودان
العام.. "لاحظ حاكم السودان هذه التطورات ".. فأعلن حالة الطوارىء وعطل
البورصة, وجمد عمل الجمعية التشريعية.. ثم أعلن بعدها الأحكام العرفية فى البلاد..
وبعدها أعلن إخضاع مصر تحت الحماية البريطانية, دفاعا عن حقوق مصر وحريتها التى
كسبها "محمد على" فى ميادين القتال!!
لنا أن نتخيل أن "بريطانيا" تقاتل دفاعا عن مصر وحريتها
ومكتسباتها التى حققها "محمد على".. وهى "بريطانيا" نفسها
التى وقفت فى وجه "محمد على" وفرضت عليه معاهدة 1840 حرصا على بقاء
"الإمبراطورية العثمانية" التى كادت تسقط أمام الجيش المصرى!!
صدر قرار قائد الجيش البريطانى, بتكليف رئيس الوزراء – حسين رشدى –
أن يستمر فى منصبه, وأن يتولى سلطة "الخديوى" الغائب عن البلاد.. وطلب
من هيئة كبار العلماء بالأزهر أن تصدر بيانا تدعو فيه الأمة إلى السكون وتفادى
الفتنة وإطاعة الحكومة.. واستجاب شيخ الأزهر "سليم البشرى" ومعه الشيخ
"بكرى عاشور" مفتى الديار المصرية.. وتحولت مصر إلى معسكر كبير يستقبل قوات
الإمبراطورية البريطانية من أنحاء العالم.. وصدر صباح يوم 19 ديسمبر عام 1914 قرار
خلع "الخديوى عباس حلمى" من حكم مصر.. عرضوا المنصب على شقيقه الأمير
"محمد على" فرفض.. تم استدعاء "حسين كامل" ابن "الخديوى
إسماعيل" وعرضوا تنصيبه على كرسى الحكم بدرجة سلطان للبلاد.. فوافق!! لتنتهى
سنوات الاحتلال العثمانى رسميا.. وتم إعلان الاحتلال الانجليزى رسميا.. وظهر على
المسرح السياسى فى مصر رجل يستحق أن نعرف الكثير عنه, وعن مواقفه باعتباره جمع بين
منصب رئيس الوزراء والخديوى فى فترة من فترات حكم مصر.. ثم استمر حتى حفر اسمه على
لوحة النضال من أجل استقلال مصر.. كان اسمه "حسين رشدى" أما "محمد
فريد" فقد أصبح فى وضع صعب جدا عند هذه اللحظة.. فقد كانت كلها "كوميديا
سوداء"!!
يتبع
0 تعليقات