نصر القفاص
يكشف التاريخ حين نسمح له أن يتكلم.. أن "السلطان حسين"
جلس على كرسى السلطة فى مصر, بقرار المستعمر الانجليزى.. كما جلس السلطان – الملك
– "أحمد فؤاد" على الكرسى ذاته بقرار صدر من وزير الخارجية البريطانى..
إما ابنه "فاروق" فقد تولى السلطة بمباركة الشعب عبر أحزابه ومؤسساته,
وبمباركة سلطة الاحتلال!!
تحمل صفحات التاريخ نظرة الاستعمار للشعب المصرى.. عبر عنها
مندوبهم السامى – وينجت – يوم 13 نوفمبر عام 1918 حين استقبل ثلاثة نواب عن
الأمة.. تقدمهم "سعد زغلول" وكان معه "على شعرواى" و"عبد
العزيز فهمى".. فماذا حدث خلال ساعة إستغرقها اللقاء؟!
- بدأ "وينجت" بقوله: "الصلح – يقصد مؤتمر الصلح –
إقترب موعده, والعالم يفيق من غمرات الحرب التى شغلته زمنا طويلا.. ومصر سينالها
خير كثير والله مع الصابرين!! والمصريون هم أقل الأمم تألما من أضرار
الحرب".. كان يكذب ومستمعيه يعلمون أنه يكذب.. ثم أضاف: "المصريون
استفادوا من الحرب أموالا طائلة – تجويد الكذب – وعليهم أن يشكروا دولة بريطانيا
العظمى, التى كانت سببا فى قلة تضررهم وكثرة فائدتهم"!! المنطق نفسه مازال
يحدثنا به "خدم الملكية والاستعمار"!!
- "سعد زغلول" أراد أن يكون دبلوماسيا.. اختار الرد
بألفاظ رقيقة.. فقال: "ما تقوله أن ما فعلته انجلترا خيرا لمصر.. فإن
المصريين بالبداهة يذكرونه لها مع الشكر"!! ثم أضاف: "الحرب كانت كحريق
انطفأ ولم يبق إلا تنظيف آثاره.. وإنى أظن أنه لا محل لدوام الأحكام العرفية, ولا
لمراقبة الجرائد والمطبوعات.. الناس ينتظرون بفروغ الصبر زوال هذه المراقبة, كى
ينفسوا عن أنفسهم ويخففوا عن صدورهم الضيق الذى تولاهم أكثر من أربع سنين".
- "وينجت": "حقا إنى ميال لإزالة المراقبة.. وقد
تخابرت – ناقشت – فعلا مع جناب القائد العام للجيوش البريطانية.. ولما كانت هذه
المسألة عسكرية, فإننى بعد تمام المخابرة والاتفاق مع جناب القائد.. سأكتب للحكومة
البريطانية, ولى أمل فى الوصول إلى ما يرضى.. ويجب على المصريين أن يطمئنوا
ويصبروا – بعد 36 سنة من الاحتلال وقتها – ويعلموا أنه متى فرغت انجلترا من مؤتمر
الصلح, فإنها تلتفت لمصر وما يلزمها.. ولن يكون الأمر إلا خيرا"
- "سعد زغلول": "الهدنة عقدت والمصريين لهم حق فى
أن يكونوا قلقين على مستقبلهم.. ولا مانع من أن يعرفوا الآن.. ماهو الخير الذى
تريده انجلترا لهم؟!
- "وينجت": "يجب ألا تتعجلوا وأن تكونوا متبصرين فى
سلوككم.. فالمصريين فى الحقيقة لا ينظرون للعواقب البعيدة – يقصد أنهم يفتقدون
الرؤية بعيدة المدى -!!
- "سعد زغلول": "هذه العبارة مبهمة المعنى ولا أفهم
المراد منها"!!
- "وينجت": "أريد أن أقول أن المصريين ليس لهم رأى
عام بعيد النظر"!!
- "سعد زغلول": "لا أستطيع الموافقة على ذلك.. فإنى
إن وافقت.. أنكرت صفتى.. لأننى منتخب فى الجمعية التشريعية عن قسمين من أقسام
القاهرة.. السيدة والجمالية.. وكان انتخابى بمحض إرادة الرأى العام مع معارضة
الحكومة واللورد كيتشنر وقت أن كان مندوبا ساميا.. فقد كانوا لايريدون انتخابي..
كذلك الأمر مع زميلى على شعراوى باشا وعبد العزيز فهمى بك".
- "وينجت": "قبل الحرب حصل من الحركات والكتابات من
محمد فريد وأمثاله فى الحزب الوطنى الكثير من أمور بلا تعقل ولا رؤية, فأضرت مصر
ولم تنفعها.. فما أغراض المصريين؟!"
- "على شعراوى": "نريد أن نكون أصدقاء للانجليز
صداقة الحر للحر.. لا العبد للحر"!!
- "وينجت": "إذن أنتم تطلبون الاستقلال؟!"
قالها رافضا بسخرية
- "سعد زغلول": "ونحن أهل للاستقلال.. ماذا ينقصنا
ليكون لنا حق الاستقلال كباقي الأمم؟!"
- "وينجت": "لكن الطفل إذا أعطى من الغذاء أكثر مما
يلزم تخم – يقصد تصيبه التخمة"!!
- "عبد العزيز فهمى": "نحن نطلب الاستقلال التام..
وقد ذكرتم جنابكم أن الحزب الوطنى المصرى أتى من الحركات والكتابات بما أضر ولم
يفد.. فأقول لجنابكم أن الحزب الوطنى كان يطلب الاستقلال.. كل البلد كانت تطلب
الاستقلال.. غاية الأمر أن طريقة الطلب التى سار عليها الحزب الوطنى ربما كان فيها
ما يؤخذ علينا.. وذلك راجع إلى طريقة الشبان فى كل مكان.. ولأجل إزالة الاعتراض
الوارد على طريقة الحزب الوطنى فى تنفيذ مبدأه الأساسى, الذى هو مبدأ جميع الأمم
وهو الاستقلال التام.. قام مجموعة من الشيوخ الذين لا يظن فيهم التطرف فى
الإجراءات, وأسسوا حزب الأمة وأنشأوا صحيفة الجريدة وكان مقصدهم أيضا الاستقلال..
وطريقتهم أخف حدة من الحزب الوطنى وذلك معروف عند الجميع.. كان الغرض هو خدمة نفس
المبدأ المشترك بطريقة تمنع الاعتراض.. ونحن فى طلبنا الاستقلال التام لسنا
مبالغين.. فإن أمتنا أرقى من البلغار والصرب والجبل الأسود, وغيرهم ممن نالوا
الاستقلال قديما وحديثا".
- "وينجت": "لكن نسب الأميين فى مصر كبيرة.. لا كما
فى البلاد التى زكرتها, إلا الجبل الأسود والألبان على ما أذكر"!!
- "عبد العزيز فهمى": "إن هذه النسب مسألة ثانوية
فيما يتعلق باستقلال الأمم.. فإن لمصر تاريخا قديما باهرا وسوابق فى الاستقلال
التام.. وهى قائمة بذاتها.. سكانها عنصر واحد ذو لغة واحدة.. وهم كثيرو العدد – 12
مليون وقتها – وبلادهم غنية.. وبالجملة فإن شروط الاستقلال التام متوافرة فى مصر..
ومن جهة أخرى فإن نسبة الأميين للمتعلمين.. مسألة لا دخل لها فى الاستقلال كما
قدمت.. لأن الذين يقودون الأمم فى كل البلاد أفراد قلائل.. فإنى أعرف أن لانجلترا
وهى بلاد العظمة والحرية!! عند أهلها ثقة كبرى فى حكومتها.. فأرباب الحكومة وهم أفراد
قلائل, هم الذين يقودون والأمة تتبعهم لشدة ثقتها بهم وتسليمها إليهم.. لذلك فمجلس
نوابها ليس كل الأفراد العاملين.. إنما العامل منهم فئة قليلة.. وبلاد كمصر يكفى
أن يكون فيها ألف متعلم ليقوموا بإدارتها كما ينبغى, وهى مستقلة استقلالا تاما..
ونحن عندنا كثير من المتعلمين, بدليل أن أولى الحل والعقد نسمع منهم فى كثير من
الأحيان, أن التعليم زاد فى البلاد حتى صار فيها طافة من المتعلمين العاطلين!! أما
من جهة تشبيهنا بالطفل الذى يتخم, إذا تغذى بأزيد من اللازم.. فاسمحوا لى أن أقول
أن حالنا ليست مما ينطبق عليه التشبيه.. بل الواقع أننا كالمريض مهما أتت له من
نطس – تشخيص – الأطباء استحال عليهم أن يعرفوا من أنفسهم موقع دائه.. بل هو وحده
الذى يحس بألم الداء ويرشد إليه.. والمصرى وحده هو الذى يشعر بما ينقصه من أنواع
المعارف وما يفيده فى الأشغال العمومية – الحياة العامة – والقضاء وغير ذلك..
فالاستقلال التام ضرورى لرقينا".
- "وينجت": "أتظنون أن بلاد العرب, لو أخذت
استقلالها ستعرف كيف تسير نفسها؟!"
- "عبد العزيز فهمى": "إن معرفة ذلك راجعة
للمستقبل.. ومع ذلك إذا كانت بلاد العرب, وهى دون مصر بمراحل.. أخذت استقلالها..
فمصر أجدر بذلك"
- "وينجت": "لقد كانت مصر عبدا لتركيا.. أفتكون أحط
منها لو كانت عبدا لانجلترا؟!".
- "على شعراوى": "قد أكون عبدا لرجل من الجعليين –
تاجر العبيد – وقد أكون عبدا للسير وينجت الذى لا مناسبة بينه وبين الجعلى!! ومع
ذلك لا تسرنى كلتا الحالتين.. لأن العبودية لا أرضاها ولا تحب نفسى أن تبقى تحت
ذلها.. ونحن كما قدمت نريد أن نكون أصدقاء لانجلترا صداقة الأحرار.. لا صداقة
العبيد!!"
- "وينجت": "لكن موقع مصر.. حربيا وجغرافيا, يجعلها
عرضة لاستيلاء كل دولة قوية عليها, وقد تكون غير انجلترا!!"
- "سعد زغلول": "متى ساعدتنا انجلترا على استقلالنا
التام.. فإننا نعطيها ضمانة معقولة على عدم تمكين أى دولة من استقلالنا والمساس
بمصلحة انجلترا.. نعطيها ضمانة فى طريقها إلى الهند, وهى قناة السويس.. بأن نجعل
لها دون غيرها حق احتلالها عند الاقتضاء – الحاجة! بل نحالفها على غيرها – نتحالف
معها فقط – ونقدم لها عند الاقتضاء, ما تستلزمه المحالفة من الجنود"!!
- "على شعراوى": "يبقى أمر آخر عند هذا الحد, وهو
حقوق أرباب الديون والأجانب.. فيمكن بقاء المستشار الانجليزى بحيث تكون سلطته هى
سلطة صندوق الدين العمومى"!!
- "سعد زغلول": "نحن نعترف الآن أن انجلترا هى أقوى
دولة فى العالم, وأوسعها حرية.. ونعترف لها بالأعمال الجليلة التى باشرتها فى
مصر.. فنطلب باسم هذه المبادئ أن تجعلنا أصدقاءها صداقة الحر للحر.. وعند الاقتضاء
– الحاجة – نسافر للتكلم فى شأنها مع ولاة الأمور فى انجلترا.. ولا نلتجأ هنا
لسواك, ولا فى الخارج لغير رجال الدولة الانجليزية!! ونطلب منك بصفتك عارف بمصر,
ومطمئن على أحوالها أن تساعدنا للحصول على هذه المطالب"!!
- "وينجنت": "سمعت أقوالكم.. أعتبر محادثتنا غير
رسمية.. بل بصفة حبية.. فإنى لا أعرف شيئا عن أفكار الحكومة البريطانية فى هذا
الصدد.. وعلى كل فإنى شاكر زيارتكم وأحب لكم الخير"!!
ثم نهض "وينجت" وأنهى المقابلة!!
وقت هذا الحوار كان "الضباط الأحرار"يبصرون نور الدنيا
أطفالا.. وواضح من لغة "وينجت".. "غطرسة" و"وقاحة"
المستعمر الذى لم يتردد فى وصف الأمة المصرية بأنها "عبيد"!!
وقد سمع الرد على "وقاحته".. وكان يرى أنه ليس من حق مصر
أن تنال استقلالها.. لكن أخطر وأهم ما قاله كان حديثه عن موقع مصر: "حربيا
وجغرافيا.. يجعلها عرضة لاستيلاء كل دولة قوية عليها وقد تكون غير
انجلترا"!!.. وهى جملة قاطعة.. حاسمة.. جازمة.. تحمل معنى أنها
"هدف" لكل دولة قوية, بما يخرس الذين يشككون فى أنها مستهدفة دول
الوقت.. لم يحمها غير جيشها فى "زمن محمد على" خلال العصر الحديث,
وتآمروا عليه حتى وقع معاهدة 1840.. وحررها جيشها بثورة "23 يوليو 1952"
الذى تم استهدافه بحرب 1956 ثم حرب 1967.. وما بينهما كان الاحتلال الانجليزى
المباشر الذى قام بحل الجيش المصرى عام 1882, واستمر رافضا إعادة بنائه.. وذلك
مكنهم من احتلال مصر لأكثر من سبعين عاما.. كما كان تخريب كل محاولة لممارسة
"الديمقراطية".. إستراتيجية للمستعمر الذى يبارك فقط "الديمقراطية
الفاسدة"!!..
يتبع
0 تعليقات