يرتكب الذين يشاركون فى "تزييف التاريخ" أكبر جريمة فى
حق وطنهم.. الجريمة التى لا تقل عنها خطورة هى تلك التى يرتكبها البعض بممارسة
"الجهل النشيط" حين يتعاملون مع التاريخ, على أنه يرحم من يتجرأ عليه.
فهذا "التاريخ الصامت" لا يغيب "صوته" وإن طال الزمن!!
اسم "حسين رشدى" رئيس وزراء مصر خلال فترة من أصعب وأخطر
فتراتها, يمثل العنوان البارز على محاولات "تزييف التاريخ" أو طمس
معالمه.. فهذا رجل كان رئيس وزراء فى زمن أخر "خديوى" حكم مصر, وكان أول
رئيس وزراء رافق حاكمها بمسمى "السلطان".. واستمر مع أول
"ملك" – أحمد فؤاد – بعض الوقت.. وحكم الرجل مصر منفردا حين عاشت بلا
"خديوى" أو "سلطان" أو "ملك" لأكثر من عام.. كما
كان رقما صعبا فى أسباب قيام "ثورة 1919".. ويسجل له التاريخ أنه قدم
استقالته, تقديرا واحتراما لحق مصر فى أن تطالب باستقلالها.
أعلم أن الدهشة ستعلو وجوه كثيرين.. لم يسمعوا الاسم من قبل.. وقد
يعتقد البعض أننى أحاول تضخيم دور رجل رحل عن الدنيا من عشرات السنين.. والحقيقة
أن المعلومات الصامتة فى كتب "التاريخ الصامت" تحمل التفاصيل والوقائع
التى يجب أن نتوقف عندها.. لأهميتها.. قبل أن ندخل إلى "الزمن
الليبرالى" – كما يحلو للبعض تسميته – الذى عاشته مصر بظهور "الوفد
المصرى".. الذى شكل "أزهى عصور الديمقراطية" التى يتباكى عليها, كل
الذين يحاولون ضرب "زمن يوليو 1952" منذ نحو نصف قرن.
كان "حسين رشدى" رئيسا لمجلس النظار – الوزراء – بتكليف
من الخديوى "عباس حلمى الثانى".. وأصدر له قرارا بأن يقوم مقام
"الخديوى" خلال أجازة سنوية يقضيها فى اوروبا خلال صيف عام 1913.. وكان
"الخديوى" قد اعتاد أن تبدأ أجازته بزيارة الباب العالى – السلطان
العثمانى – ويوم 25 يوليو دارت ماكينات التلغراف, لتخبر الدنيا بأن "محمود
مظهر" طالب الطب المصرى الذى كان يدرس فى "اسطنبول", أطلق الرصاص
على "الخديوى" الذى تعرض لإصابة بليغة فرضت عليه أن يقضى شهورا يتلقى
العلاج فى "فيينا"!!
طوال هذه الشهور كان "حسين رشدى" يحكم مصر.
اندلعت "الحرب العالمية الأولى" يوم 14 أغسطس عام 1914..
ويوم 5 سبتمبر أرسل "وينجت باشا" سردار الجيش الانجليزي – قائد الجيش –
وحاكم السودان, إلى قناصل "المانيا" و"النمسا" يطلب منهم
مغادرة مصر.. وطلبوا من القائم بعمل "الخديوى" ورئيس الوزراء إصدار أمر
تأجيل انعقاد "الجمعية التشريعية" لأجل غير مسمى.. ويوم 2 فبراير عام
1914 أعلن "الجنرال ماكسويل" قائد الجيوش أن مصر أصبحت تحت الحكم
العسكرى البريطاني, بأمر من حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى.. ويوم 5 نوفمبر تم
الإعلان عن أن "بريطانيا" أصبحت فى حالة حرب ضد "تركيا"..
وتمت مخاطبة "حسين رشدى" لإخطاره باستمرار الوزارة فى موقعها وتتحمل
المسئولية عن إدارة شئون البلاد.. ورد على الرسالة البريطانية – حسين رشدى –
برسالة قصيرة قال فيها: "نظرا لغياب سمو الجناب الخديوى الذى نستمد منه
سلطتنا.. أتشرف بإبلاغكم أننى وزملائى سنستمر فى إدارة أعمال الوزارة.. تجنبا
للمضار التى تلحق بالبلاد.. إذا تعطلت حركة إدارتها الداخلية"!!
كانت عجلة الأحداث تدور بسرعة اشتعال نيران الحرب.
عقد مجلس الوزراء اجتماعا يوم 15 ديسمبر, لاتخاذ قرار مهم.. لم
يتسرب شىء عما حدث خلال الاجتماع.. وصباح يوم 18 ديسمبر أعلن وزير الخارجية
البريطانى, زوال سيادة "تركيا" على مصر التى أصبحت تحت الحماية
البريطانية.. وبعدها أعلن "حسين رشدى" تسليمه بالأمر الواقع.. وقدم كل
فروض الولاء والطاعة للسلطة الجديدة.. الاحتلال!!
صباح يوم 19 ديسمبر.. أعلن وزير الخارجية البريطانى أن الأمير
"محمد على" شقيق الخديوى "عباس حلمى الثانى" أعرب عن عدم
رغبته فى خلافه شقيقه.. وأن الأمير "حسين كامل" نجل "الخديوى
اسماعيل" وافق على أن يتولى عرش مصر بصفة "سلطان" بقرار من حكومة
جلالة ملك "بريطانيا"!! كما أعلن "عباس حلمى" استسلامه للواقع
الجديد.. وقال: "اللهم لك الحمد.. لقد حكمت ثلاث وعشرين عاما وهو زمن ليس
بالقليل"!!
يوم 19 ديسمبر أصدر "السلطان"الجديد تكليفا لرئيس
الوزراء – حسين رشدى – بتشكيل وزارة جديدة.. خلال ساعات كان قد انتهى من تشكيل
الوزارة التى ضمت خمسة وزراء, أصبحوا كلهم رؤساء وزارات فيما بعد!! وباركت
"الجمعية التشريعية" التى جرى تجميدها القرارات الجديدة.. وقدم
"أحمد مظلوم باشا" باعتباره رئيسها التهنئة للسلطان الجديد باسم
أعضائها.. وكان سعد زغلول وكيلها!!
جاء يوم 2 فبراير عام 1915.. فوجئ الشعب المصرى بأن هناك معارك على
ضفة قناة السويس, بين الجيش التركى الذى جاء غازيا.. والقوات البريطانية
والمصرية.. إنتفض أبناء مصر داخل الجيش الخاضع للقيادة البريطانية للدفاع عن
بلدهم.. تصدى لهم الملازم أول "أحمد حلمى" مع جنوده وبدعم من الجيش
البريطانى, وتم سحق الهجوم واستشهد القائد المصرى!!
تحملت وزارة "حسين رشدى" كل أعباء الحرب والتقلبات
السياسية, بمناورات لا تخلو من ذكاء وانتهازية فى الوقت نفسه!! وحدث خلال هذه
الفترة أن تعرض "إبراهيم فتحى باشا" وزير الأوقاف لمحاولة اغتيال يوم 5
ديسمبر عام 1916.. كما تعرض "السلطان" نفسه لمحاولة اغتيال.. وتم نهب
ثروات مصر وإذلال شعبها خلال هذه الفترة – الحرب – إعتقادا من القائمين على حكمها
أنهم سيفوزون بالاستقلال بمجرد انتهاء الحرب.. أو هكذا كانوا يقولون للشعب لتهدئة
الخواطر كلما اقتربت من الاستقلال, ردا على عبث الانجليز بمقدرات وطن ينحنى له
التاريخ احتراما وتقديرا.. بعد عبث من جانب "الاستعمار العثمانى" باسم
"الخلافة" لمئات السنين!!
جاء يوم 9 اكتوبر من عام 1917.
فوجئ الشعب بأن "حسين رشدى" رئيس الوزراء ينعى إليهم
"السلطان حسين" وتم الإعلان عن أن ابنه الوحيد "كمال الدين
حسين" إعتذر له عن خلافته قبل وفاته بساعات.. اتخذ الابن هذا القرار لتفضيله
احترام وحب الشعب, على كرسى الحكم وعبر عن ذلك فى رسالة أكد فيها على: "مع
إخلاصى التام لشخصكم الكريم, وحكمكم الجليل.. مقتنع كل الاقتناع بأن بقائى على
حالى الآن – مجرد أمير – يمكننى من خدمة بلادى بأكثر مما يمكننى أن أخدمها به فى
حالة أخرى"!
قبل أن يحكم "السلطان حسين" أعتذر الأمير "محمد
على" عن كرسى الحكم.. وكان وليا للعهد بعد تولى الملك "فاروق" وحتى
أنجب ابنه.. وبعد حكم "السلطان حسين" إعتذر ابنه عن كرسى الحكم.. ربما
لأسباب شخصية, وقد يكون لرفضهما تولى السلطة بقرار "انجليزى" لاعتقادهما
فى "دولة الخلافة العثمانية".. لكن ذلك حدث وتحفظه ذاكرة التاريخ.
اختار الانجليز "أحمد فؤاد" ليجلس على عرش
"السلطنة" بقرار من وزير الخارجية البريطانى.. وتم إعلان تنصيبه فى يوم
رحيل شقيقه – 9 اكتوبر – وكان أول مرسوم يصدر عن السلطان الجديد, هو إعادة تكليف
"حسين رشدى" بتشكيل الوزارة.. وجاء رده بالقبول.. وتشكلت الوزارة
الجديدة يوم 10 اكتوبر الذى شهد احتفال جلوس "السلطان أحمد فؤاد" على
كرسى الحكم فى قصر "عابدين".. وكانت أول زيارة يقوم بها فى اليوم نفسه,
إلى دار الحماية البريطانية لتقديم الشكر إلى "وينجت" الذى أصبح
"المندوب السامى البريطانى".. ثم زار بعدها صاحب السمو السلطانى
"كمال الدين حسين" فى قصره, الذى أصبح بعد "ثورة يوليو" مقرا
لوزارة الخارجية بميدان "التحرير" وكان اسمه "ميدان اسماعيل"!!
قدم "أحمد فؤاد" للانجليز كل ما تملكه مصر من ثروات
وأموال وقدرات, لدعم موقفهم الحربى خلال أيامها الأخيرة.. وحصل على المقابل فيما
بعد بأن يصبح ملك, وأن يرث عرشه أكبر أبنائه – فاروق – وأغمض عينيه عما يحدث حوله
داخليا أو إقليميا.. ولما توقفت عجلة الحرب.. إتجهت أفكار الساسة يدعمهم
"حسين رشدى" إلى سلطة الاحتلال الانجليزى بحثا عن وفائها بوعودها ومنح
مصر استقلالها.
انتهت الحرب العالمية الأولى يوم 11 نوفمبر 1918.
رتب "حسين رشدى" لقاء بين "وينجت" وثلاثة من
نواب الشعب "الجمعية التشريعية" التى تم تجميدها.. ضم هذا "الوفد"
كل من "سعد زغلول" و"على شعراوى" و"عبد العزيز
فهمى".. وكان ذلك نتيجة تفاوض ومناقشات, انتهت إلى تفويض الثلاثة بمحاولة
استطلاع وجهة النظر البريطانية.. ونقل رغبة مصر فى الحصول على استقلالها, عبر
مؤتمر دولى كانت قد تمت الدعوة إليه فى "باريس" اسمه "مؤتمر الصلح"
وتحضره الدول التى ستحصل على استقلالها.. وثابت أن "حسين رشدى" قد حصل
على تفويض الوزارة وموافقة "السلطان" أن يسافر إلى "باريس" مع
"عدلى يكن" لتمثيل مصر.. وكان يرى أن سفر وفد شعبى يدعم مركز المفاوض
الرسمى.. وكلهم كانت لديهم آمال كبيرة, فيما سمى "بمبادئ ولسون" التى
أعلنها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.. وهذه المبادئ تقوم على حق الشعوب فى
تقرير مصيرها.
روايات عديدة حول فكرة تشكيل "الوفد" الذى التقى
"وينجت".. إحداها تقول أن الأمير "عمر طوسون" كان أول من ناقش
الفكرة.. وفى رواية أخرى أن "سعد زغلول" و"محمد محمود"
و"أحمد لطفى السيد" و"عبد العزيز فهمى" هم الذين درسوها
وتحركوا لتنفيذها..
ورواية ثالثة تقول أن "حسين رشدى" ومعه "عدلى
يكن" هما من خططا وسهلا عمل "الوفد" بتحديد الموعد مع
"المندوب السامى البريطانى" وكلها هوامش..
لأن الموضوع وسر "ثورة 1919" كان فى تفاصيل الحوار بين
"وينجت" وأعضاء "الوفد" والذى كان مذهلا, وحفل بغطرسة من جانب
"المندوب السامى" وصلت إلى حد الإشارة للشعب المصرى بالإهانة.. ونص
الحوار ثابت ويستحق أن نعيد قراءته, لنعرف أن الشعب المصرى يمكن أن يقبل ويتحمل كل
ضغط تمارسه السلطة عليه.. لكنه لا يقبل الإهانة.. ولا يرضى السخرية من صبره
وصمته.. استمر اللقاء لمدة ساعة, وبعدها كانت الثورة..
يتبع
0 تعليقات