رأينا في مقال أمس موقف جمال حمدان من فكرة الخلافة الإسلامية، وهو
موقف بناه على تتبع تاريخي وجغرافي لهوية العالم الإسلامي. وفي حلقة اليوم نتابع
معه نظريته حول أفول الخلافة وصعود القومية. وكما اتفقنا، لن أزيد في كل حلقة عن
تلخيص 10 أفكار أساسية من أفكاره.
***
الحلقة 2 ****
(1) استمر البحث عن إنقاذ لفكرة الخلافة الإسلامية في نهاية القرن
19 ومطلع القرن 20. وكما رأينا كيف فشلت طموحات هذه المسيرة في الحركات السياسية
مثل الوهابية والسنوسية وغيرها، جاءت مسيرة الخط الفكري موازية لخط العمل السياسي.
فكرد فعل للانتـــــكاسة الــــــكبرى التي ألمت بالعالم الإسلامي، اندفع
الفـــــكر الديني – السياسي نحو مُثُل الوحدة الإسلامية الـــكبرى.
وعلى رأس هذا التيار كان
الأفغاني الذي يمكن – في معنى - أن يقال إنه التقط الخيط الذي تركه ابن تيمية منذ
قرون سبعة. وكما اشترك مع ابن تيمية تلميذه ابن القيم، شارك الأفغاني تلميذه محمد
عبده. ولقد كان جوهر الدعوة من أجل التحرر الإسلامي هي الوحدة الإسلامية الشاملة
في إمبراطورية إسلامية تحت خلافة واحدة. ويرى البعض أن الدعوة ترادف اتحادًا
فيديراليًا من النمط الألماني على مستوى العالم الإسلامي كله. وعلى هذا الأساس
دافعت هذه المدرسة عن الخلافة العثمانية، أو على الأقل لم ترفضها.
(2) التقطت تركيا (السلطان عبد الحميد) دعوة الأفغاني لتستولي
عليها وتدعم بها كيانها الذي أوشك على الانهيار، ولــــكن عبثًا.
فمن ناحية بدا عجز
العثمانية عن الدفاع عن الإسلام بصورة مخزية، وظل الاستعمار يتخاطف أقطاره منها
واحدًا بعد آخر. ومن ناحية أخرى استشرى استبداد العنصرية التركية في ولاياتها إلى
حد الدموية. وفي النتيجة بدأ الشعور والوعي "القومي" يتحرك بين عناصر
دولة الخلافة ليغلب ويسود على الشعور والوعي "الديني". لقد بدأت جراثيم
القومية، ومعها بدأ عصر القومية في الشرق الإسلامي يصارع عصر الدين الذي أزمن
وخضرم فيه طويلا حتى نهايات القرن التاسع عشر.
(3) علينا أن نلاحظ أن تحريك القومية أو بزوغها في بلادنا جاء رد
فعل للنمو المطرد للبورجوازية وتحطم الإقطاع التقليدي في تلك الفترة كنتيجة
للتطورات الاقتصادية العميقة التي ترتبت على الاحتـــــكاك والارتباط بالاقتصاديات
والأسواق والاستثمارات الأوربية. وقد بدأ هذا التطور في تركيا نفسها وكان نسبيًا
أنضج ما يكون فيها، بينما كان يتقدم على استحياء في المشرق العربي. وبعد مرحلة
عابرة جدًا تحالفت فيها البورجوازية التركية النامية مع البورجوازية العربية
الناشئة ضد الإقطاع العثماني، لم يلبث أن تصادما، وتأكد إصرار البورجوازية التركية
على السيطرة والتسيد على أساس العنصر والحــــكم (الاتحاد والترقي). فكان رد الفعل
هو تأكيد القومية العربية بدورها، ومن هنا بدأ الافتراق.
(4) لا يمكن أن نغفل أن هذا الحراك على حساب الدين في عالمنا
العربي جاء بسبب الاحتكاك العريض بالغرب الذي كان موصلا جيدًا لفــــكرة القومية،
ومنها بوجه خاص أثر المسيحيين في الشرق العربي، فقد كانوا أسبق تعرفًا على مبدأ
القومية الوارد كنتيجة لاتصالهم بالإرساليات التبشيرية الأوربية، كما كانوا أشد
إحساسًا بالاضطهاد التركي مما وجههم إلى البحث عن العروبة كبديل عن الإسلام. وفيما
بعد، أثناء الحرب الــــكبرى الأولى، كان وعد الغرب للعرب بالتحرر من الاستعمار
التركي في مقابل ثورة عربية ضده، واحدًا من عوامل الاختزال العنيفة في التحول
نهائيًا من الإسلامية إلى العروبة، من الدين إلى القومية.
(5) علينا أن ننتبه أن نقطة الانـكسار من الدين إلى القومية لم تأت
بسرعة أو فجأة، بل كانت مرحلة مترددة حرجة واستطالت من أواخر القرن التاسع عشر إلى
فترة الحرب العالمية الأولى. والسبب الأساسي في هـــــذا هو التناقض والارتطام بين
الدين والقومية. وكان سبب هذا التردد بعضًا من الحيرة والاضطراب بين العرب
(المقهورين) وغير العرب كمسلمي الهند (المضطهدين) الذين لم يتصوروا الانقضاض على
دولة الخلافة الإسلامية. وهذا هو الهامش الضيق الذي حاولت تركيا أن تتشبث به،
والذي حاولت الجامعة الإسلامية أن توسعه...لكن هيهات.
(6) على هذا النحو جاء الانتقال من دعوة الجامعة الإسلامية إلى
دعوة القومية العربية، وأخذ هذا الانتقال أسلوبا تدريجيا وبقدر من حلول الوسط، قبل
أن يتم الافتراق نهائيًا. فقد امتلأ العالم العربي حينذاك بالتيارات والأحزاب
والجمعيات السرية والعلنية، كما تفجر بالنشاطات المضطرمة والثورات والتمردات التي
تمثل هذه المراحل والحلول. ولعل الــــكواكبي يمثل مرحلة مبـــــكرة منها، ولعله
بذلك وقف في منتصف الطريق بين الجامعة الإسلامية والوحدة العربية، أو كان من رواد
الوحدة العربية.
(7) شملت مرحلة التردد والانتقال من الخلافة الإسلامية إلى القومية
العربية محاولات الجمعيات التي طالبت بالمساواة بين الترك والعرب في الدولة ومنح
الأقاليم العربية الحـــــكم الذاتي.
فثمة كان حزب
"اللامركزية الإدارية" داعية الحــــكم المحلي في داخل نطاق السيادة
العثمانية. وثمة كانت "الجمعية القحطانية"، واسمها يؤكد القومية العربية
في جذورها الأولى كما نرى. وقد دعت تلك الجمعيات إلى تحويل العثمانية إلى دولة
ثنائية بين الترك والعرب على غرار إمبراطورية النمسا - المجر. وحين رفضت تركيا كل
هذه الحلول بحد السيف، وبات واضحًا أن سيادة العنصرية التركية أساس شرطي
للعثمانية، واندلعت سياسة التتريك والعثمنة بلا هوادة حتى وصلت إلى حد المجازر
وحمامات الدم، كان المنعطف الحاد النهائي، وولدت القومية العربية. لم تولد القومية
العربية إذن في رحم الجامعة الإسلامية وإنما على جثتها.
(8) بهذا الأمر الواقع وضياع الإمبراطورية مع الحرب، لم يكن أمام
الأتراك بدورهم كلية ونهائيًا إلا التحول إلى القومية واضطروا إلى التخلي عن
فــــــكرة الدولة الإسلامية والخلافة التي لم تمت بذلك وإنما دفنت، وهذه الخلافة
ماتت ميتة طبيعية بالفعل منذ أول مرة تعددت فيها في العصور الوسطى إن لم يــــــكن
قد ماتت منذ وراثتها لأول مرة. وبهذا تــــــكون الجامعة الإسلامية الدينية
الفضفاضة قد تمزقت واتشعبت لتعطي مكانها لجامعتين قوميتين: الجامعة العربية Pan-Arabism، والجامعة الطورانية Pan-Turanian. الأولى تدعو إلى دولة واحدة تضم القومية
العربية، والثانية إلى دولة واحدة تضم القومية الطورانية. على هذا النحو تحللت
الوحدة الدينية الإسلامية إلى عواملها الأولية وهي الوحدات القومية.
(9) غير أن هاتين الجامعتين سرعان ما تفكك كل منها إلى عوامله
الأولية وهي الوطنيات الضيقة، وكان الاستعمار عامل القسمة دائمًا. فأما الجامعة
الطورانية فقد وجدت كل عناصرها الشرقية من تركمان وترك وتتار في وسط آسيا منفصلة
عن الأتراك في آسيا الصغرى (تركيا) ببرزخ أرضي عريض، وواقعة تحت سيادات سياسية
مختلفة تمتد من إيران إلى الاتحاد السوفيتي. فاضطرت القومية الطورانية إلى أن
تتقلص – مع الــــكمالية - إلى الوطنية "الأناضولية" الضيقة. وإنها لهوة
سحيقة تلك التي قطعتها تركيا لا من الامبراطورية إلى الأناضولية فحسب بل ومن
الخلافة إلى دولة علمانية غير دينية، ليـــــكاد الأمر يــــكون انفصالًا شبكيًا
كاملًا بين الدين والدولة. وأما الجامعة العربية فقد سقطت في يد الاستعمار الغربي
الذي غرر بهــــا في خدعة الثورة العربية ثم غدر بها بعد الحرب، فقسمها إلى رقعة
شطرنج من الدول المنفصلة التي تابعت الـــكفاح من أجل التحرر على أساس وطنيات ضيقة
كذلك.
(10) هكذا وبكل وضوح ومجددا انتقلنا من الإفراط في الاتساع إلى
الإفراط في الضيق دون أن نمر بالوسط الأمثل؛ أي أننا انتقلنا من الإفراط إلى
التفريط دون أن نمر بالاعتدال؛ انتقلنا من الإسلامية إلى الوطنية دون أن نمر
بالقومية؛ إلى هذا جاء تطور أبعاد الوحدة السياسية في العالم الإسلامي. وبعد أن كان
الدين يكاد يطمس أو يبتلع بالتداخل معالم القومية أو يغرقها في إطاره، سنصل إلى حد
أن يعتقد البعض أن الدين ليس مقومًا أساسيًا من مقومات القومية. وبعد أن ظلت
الخلافة تجسيدًا شبه مقدس للإسلام، سنصل إلى آراء تنكر أصلًا أن الخلافة شرط في
الإسلام. لقد اكتمل الانتقال من عصر الجامعة الدينية إلى عصر الجامعة القومية.
----
نتابع معا الحلقة الثالثة ...صباح الغد بإذن الله
0 تعليقات