عز الدين البغدادي
هناك قصة معروفة تذكر أن كسرى ملك الفرس اجتمع في مجلسه وفود الروم
والهند والصين، فذكروا من أمر ملوكهم وبلادهم، وافتخروا بها.. افتخر النعمان
بالعرب وفضلهم على جميع الأمم دون أن يستثني فارس ولا غيرها، وجد كسرى كلام
النعمان غير مقنع بحكم واقع العرب، ولهذا رد عليه وقال له: " ….. اني لم أر
للعرب شيئاً من خصال الخير في أمر ودين ولا دنيا لا حزم ولا قوة" وقد رد عليه
النعمان و دافع عن العرب. وبعد أن رجع طلب وجوه العرب وابرز شخصياتهم (لن اذكر هنا
اسماءهم هنا والحوارات التي دارت اختصارا) وطلب منهم أن يشكلوا وفدا حتى يسمع منهم
كسرى، وفعلا ذهب الوفد وسمع منهم كسرى وانبهر جدا بما رأى وسمع، حتى قال لأحدهم:
لو لم يكن غيرك في العرب لكفى، وكان تقييم كسرى أن مشكلة العرب في كثرة حكمائهم (
أي كثرة الرؤوس) وعدم خضوعها لملك.
العرب في الجاهلية كانوا أهل عقل ونظر وحكمة، إلا أن مشكلتهم كانت
في رفضهم الخضوع لأي سلطة بسبب طبيعتهم البدوية وقلة موارد أرضهم وطبيعتهم البدوية
التي جعلتهم لا يعترفون بحدود ولا بسلطة. حتى كانت القبائل التي لا تخضع لملك
تفتخر بذلك، وتسمى أنفسها اللقاح.
ومما يدلك على قوة عقل العربي ان العربي كان يرفض تماما فكرة وجود
عالم دون اله، كان يعبد أصناما لكن قوة مبدأ السببة في ذهنه كانت تجعله يرفض
افتراض وجود مخلوق دون خالق، ولهذا قال البدوي: البَعرةُ تدل على البعير، والأثَر
يدل على المسير، ليل داجٍ، ونهار ساجٍ، وسماء ذات أبراج، أفلا تدل على الصانع
الخبير؟
كما يدلك على قوة عقل العربي عدم قناعته بالبعث بشكل خاص، لأنه يرى
استحالة رجوع الشيء بعد عدمه، هذا موقف طبيعي ولهذا فنحن لا نعتقد بهذه المسألة
إلا من خلال الإيمان وليس العقل، بينما كان العربي يصر على أن يفهمها من خلال
العقل.
عموما، ما كان ينقص العرب أتمه الإسلام، فقد جعلهم يقدسون العمل
الذي كانوا يأنفون منه، وجعل طلب العلم عندهم مقدسا، وعلّمهم احترام الزمن، وأدخل
اليهم مفهوم المسؤولية والحقوق، وعلمهم على الالتزام بالقانون، ووضع أمامهم قيما
يعملون تحتها ويلتزمون بها، وهو ما ساهم في تحول وضع العرب وتغييرهم من مجرد قوم
الى أمة منتجة.
اما الآن، وبعد أن برد الدين وتحول الى فقه عتيق لا ينهض بالأمور
وجدل مذهبي، صار العرب مثقلين بمفاهيم خاطئة وطريقة تفكير خطيرة ومدمرة لا يتميز
فيها الايمان عن العقل، ويشتبك فيها مفهوم العقل بمفهوم الطبيعة، وهو ما انتج وعيا
زائفا وتدينا مدمرا.
لست ممن يدعو الأمة الى ان ترجع الى فهم معين للدين على طريقة
"لن يصلح أمر آخر هذه الأمة الا ما صلح به أمر أولها" فهذا فهم قاصر لا
يلاحظ الطبيعة التاريخية للحدث وبيئته الاجتماعية.. وبالتأكيد لا أؤمن أبدا بأن
تتخلى الأمة عن دينها (ولا هو ممكن طبعا) لأن الإسلام هوية العرب وقوام أمرهم، والإسلام
قدر العرب وعنوان وجودهم ومجدهم.
ما نحتاج اليهم أن نرجع إلى قيم الإسلام، عناصر العقلانية في
الاسلام، أن نضع حدا واضحا بين العقل والايمان، نحتاج الى رؤية حضارية تؤمن
بالعقل.. وهذا أمر ممكن، وممكن جدا. واذا تحقق هذا فأنا أعتقد بأننا لن نحسن وضعنا
فقط، بل سنكون فعلا منار وعي بسبب الطاقة الكبيرة العقلية والأخلاقية التي يمتلكها
الاسلام.
وبغير هذا الفهم سيكون الدين سوطا بيد الأغبياء، وبيد الانتهازيين،
والله المستعان وهو المعين.
0 تعليقات