حمدي عبد العزيز
8 يناير 2022
صمدت أم كلثوم وصمد صوتها أمام هجوم اليمين الديني عليه والذي كان
قد بدأ بعد نكسة يونيو 67 مباشرة ، وكانت نقطة البدء على منابر المساجد وفي شرائط
الكاسيت التي راجت في هذه الفترة للشيخ كشك صاحب الخطب الشهيرة التي كان فيها
يتناول أم كلثوم بالسخرية وينعتها بالكفر وتضليل المسلمين ، حين كان يطل علي
المصلين كل يوم جمعة من كل أسبوع في أحد المساجد الكبري الكائنة في منطقة دير
الملاك بالقاهرة ..
فتنتشر تلك الخطب علي الفور لتملأ عباراته وغمزاته وتغنجاته وجعير
حنجرته الشهيرة في هذا الشأن أسماع راكبي التاكسي والميكروباص ، وتتصاعد من
ميكروفونات باعة كتب الفقه السلفي الوهابي والهندي والقطبي التي كانت تفترش
الأرصفة في القاهرة ومدن عواصم الأقاليم وأطرافها في بدايات ماأطلق عليه فيما بعد
ذلك بالصحوة الإسلامية التي لم تكن في الحقيقة إلا إيذاناً مخابراتياً أمريكياً
بصعود حقبة البترودولار لتسود منطقة الشرق الأوسط وتلقي بظلالها السوداء علي
المجتمع المصري ..
وخلافاً لذلك فقد صمد صوتها المتوهج بنبرات الوجد الصوفي أمام
مراهقتي اليسارية ومراهقة غيري من بعض الذين كانوا يعانون من تلك المراهقة التي
كانت تري في غناء أم كلثوم - تعسفا - أداةً من أدوات تزييف الوعي، وتصفت غنائها
بغناء المساطيل .
هذا حدث حين كنت أحد المصابين بالمراهقة الثورية في شبابي وتمردت -
وضمن سياقات من التمرد الجامح - مع من تمردوا على صوت أم كلثوم ..
اعترف بأنني وقتها لم أكن قد وصلت إلى مستوى معقول من الوعي والعمق
الفكري والحس الجمالي يسمح لي بتناول أم كلثوم كظاهرة فنية مصرية وجدانية أصيلة
وأصلية وبديعة .
، وأنني قضيت سنواتي الأولي التي شهدت تعلقي ببعض المثقفين الذين
هاجموا أم كلثوم وادخلوا أغانيها في معركة صفرية مع اتجاهات الأغنية ذات الإيقاع
السريع ومع العظيمة فيروز ووصل تطرفهم إلي الحد الذي وضع أغانيها إلي جوار الكرة
والأهلي والزمالك كأسباب لنكسة يونيو وأزمة المجتمع المصري !!!!
اعترف بأنني كنت ذلك المراهق السطحي الرؤية والبصيرة رغم أنني كنت أشاهد
واسمع كثير من أقاربي وأهلي وجيرانهم في الريف يمزجون همومهم وأفراحهم وخلاصة
تجاربهم الحياتية اليومية بغناء مقاطع من أغاني "الست" كما كانوا يطلقون
عليها ..
، ويبدو أنني لم أكن قد نضجت بعد لأعرف حقيقة مايعبر عن الروح
المصرية العميقة ، عندما كنت أري ظهورا منحنية علي وجه الحقول تنظم إيقاع ضربات
الفؤوس علي إيقاع ماينشدون لأم كلثوم .
، أو أولئك الفلاحون الذين كانوا يلصقون آذانهم بالراديو
الترانزستور الصغير الذي يحمل علي ظهره حجري بطاريتين محزمين برباط المطاط
"الأستيك" وهم يسهرون إلي جانب السواقي الدائرة علي حواف الترع والمجاري
المائية الفرعية لري زراعاتهم ..
لم التفت وقتها لكون أن صوت أم كلثوم كان أحد متلازمات سهر
المذاكرة الليلية لغالبية الساحقة من طلاب المدارس الثانوية وطلاب الجامعات
المصرية في الأجيال التي كانت تسبق أجيالنا؟
يالها من مراهقة غبية ..
ألم تكن سهرة الخميس الأول من كل شهر هي سهرة أبي وأمي المفضلة
بجوار الراديو الخشبي الكبير الذي كان يقبع فوق رف خشبي خاص علي الحائط؟
ألم يكن ذلك مايجري عند جيراننا وشباب وبنات جيراننا ، وماكان يحكي
لي أصدقائي أنه جري عندهم كذلك عقب كل أول خميس في كل شهر ؟
ألم أكن أنا أرتدي ملابس المدرسة صباحاً بمصاحبة صوتها في أغنيتها
الشهيرة "ياصباح الخير ياللي معانا" .
ظللت هكذا - علي هذه المراهقة وهذا الشطط الفكري والوجداني كجزء من
عمري أنظر إليه الآن باعتباره سنوات التشتت والتيه والتشوه الفكري التي تتسم بها
نزعات التمرد المتطرفة في الصبا بنوازعه الجارفة وأفكاره المتصربعة الأقرب إلي
السذاجة منها إلي العمق الجاد - إلي أن وجدت نفسي علي عتبة مرحلة جديدة بعد أن
رحلت أم كلثوم بسنوات أبكي - فجأة - كطفل يعاني من يتم عميق وصولاً إلى درجة
النهنة وأنا استمع الى صوتها ..
أتذكر انهمار دموعي بغزارة لم أكن استطع تبريرها لو رآها أحد غيري
أنا الوحيد في ليلة من ليالي النصف الثاني من الثمانينيات وهي تغني المقطع
(( كانلك معايا
أجمل حكاية
ف العمر كله ))
لم يكن لدي - وقتها - أي تفسير أو معرفة أو حتي إدراك لسر كل هذا
البكاء الذي انفجر داخلي ..
.. ربما كان ذلك تكفيراً عما كان من مراهقة ودعتها - في هذا الوقت
- إلي الأبد ؟
ربما لأنني كنت في مرحلة مراهقتي الثورية لم أدرك بعد أن صوت أم
كلثوم كان قد حفر لنفسه مكاناً عميقاً في الوجدان المصري لكونه كان يحمل بماتحفل
به السياقات المصاحبة من انغام وموسيقي غباراً نووياً مخصباً ومشعاً من جوهر الروح
العميقة العالم الشعبي المصري مما جعله ينزلق بسهولة في أعماق الكيان الوجداني
للمصريين ..
كذلك لم أكن أدرك طوال سنوات هذه المراهقة أن الحرب التي شنت علي
أم كلثوم سواء من اليمين الديني أم من محدثي ثقافة الاستهلاك السطحي كنوع من
التعبير عن إدعاء حياة (المودرن) أو مايمكن أن نطلق عليه علمياً بثقافة التبعية
الإستهلاكية (ثقافة الكمبرادور) .. لم ادرك أن حروب كلاً من الفريقين كانت تستهدف
أم كلثوم في ظل سياق أكبر هو الحرب علي الوجدان الشعبي المصري لمحاولة تشويهه
إعداداً لمسرح الحياة الاجتماعية والسياسية المصرية لهزيمة حقيقية لم تكن ضربة
الخامس من يونيو 1967 لتكفي لإنزالها بمصر والمصريين ..
كنت في مرحلة المراهقة الثورية ولم أكن أدرك
.. فقط بكيت بكاء شديداً أمام (الست) وكأنني ابكي علي أعز عزيز مما
لاأدرك داخلي
(( .. وإزاى تقول أنساك
وأتحول
وأنا حبي لك
أكتر من الأول ... ))
تعظيم سلام ياست ..
ـــــــــــــــــ
0 تعليقات