آخر الأخبار

محمد رجب : ماذا تبقي من الحلم

 

 


بهاء الصالحي

 

القنايات يناير ٢٠٢٢

 

 

الشعر الغنائي اختراع مصري بامتياز حيث جاء عشق الحياة ممتزجا بماء النيل بطعمه الذي يلازم الذاكرة ويشكلها ويصنع تيار من الحنين ،تلك التحديات التي يجابهها أى قارئ للشعر الغنائي المصرى ،ومع ثبات القضية الشعورية حيث الآخر في صورته المحبة وكأن المحور الذي يدور حوله هو محور المشاعر الإنسانية من الحب والكره والعتاب ولكن يبقى المؤشر الذى يتمحور حوله تقييم الشعر الغنائي :

 

١-الصورة الشعرية التي يقدمها الشاعر عبر هذا الديوان دون غيره .

 

٢- اللغة التي يقدمها الشاعر في سياقها الغنائي للحياة .

 

أما ما نحن بصدده وهو ديوان بعد الحلم للشاعر محمد رجب فقد حرص علي فكرة الإيقاع المتوافر من خلال الحوار وكأن الاعتيادية هى الأساس الذي يتحدي به الشاعر متلقيه من خلال الدلالات الحركية والبناء الموضوعي للقصيدة ففي قصيدة كمان عاشق فقد بدأها بالفعل :

 

 اديتني وردة فاختصر بذلك البناء اللغوي معاناة الشرح وتجاوز فكرة السرد وبذلك تكون القصيدة موجزة ومعبرة وهنا يأتي البديع من خلال التشبيه المؤدي لكناية عن درجة السمو التي تتعالي علي الرغبات المرتبطة بدرجة الفهم الغريزي للعالم :

 

اديتنى ورداية/ قلت لها تشبه لك / رديت بنسمايه/ قالتلى دي قلبك

 

ويأتي الاستخدام المتعدد للفظة الواحدة مما يؤكد علي مفهوم السياق :

 

حب الهوي حبك / علي حبنا شاهد .

 

وظيفة الحب هنا كفعل فمن عظمة مشاعره فى الحب أحب الهوي وصار فعله هو المصدر لفعل الحب نفسه ، ومن هنا تأتي الصورة مكتملة للفعل الإنساني، فبعد اهداء الوردة اشتعل الحب في قلبه فصار ساهدا، وكذلك جاء مأنسنا الليل من خلال مخاطبته :

 

يا ليل ماتسهرشي /قال لي انا قاعد / يا ليلى روح أمشي .ويستمر الأداء عبر الديوان من خلال عناوين القصائد مثل شموع الفرح / يا صباح الفل غني / آهات الشجن / فاح العبير/ الحلم وياك .وهكذا على مستوي الطرح العام للذاتية المصرية التى تتميز بالغنائية التى تتماهي مع القدرة على تجاوز الأزمات واستخراج الجانب المضئ منها وذلك المستخرج من عنوان الديوان بعد الحلم فقد مرت التجربة كالحلم ومن هنا جاءت القدرة على تجاوز الجزء الموضوعي من الأزمة، وكذلك الوصول المحتوي الإنساني.

 

يتأتى الديوان فى اثنتان وأربعون قصيدة وهو يعكس ملمحا هاما في الغنائية المصرية بحيث تصبح الغنائية مهارة في التعامل مع مفردات الحياة اليومية ،وكذلك صبغ المشاعر التلقائية خاصة في قصيدة امي وهى مفردات الغنائية بعيدا عن المباشرة الأخلاقية وهنا القدرة علي خلق طابع لغوي للغنائية المصرية .

 

ماهي مميزات الشعر الغنائي المصري ؟

 

تتركز أهم تلك المزايا في دورتها في فلك المحب حيث تبدو تلك مبنية علي فرضية الأسرة المستقرة القائمة على جزئية الاستقرار المرتبط بالزراعة ويتبدى أكثر عربيا في تونس والجزائر ولذلك تبدو السمة الرئيسية هي الرومانسية والحبيب الذي تتمحور ذات المحب ورؤيته للعالم حول معدل رضاه وكأن ذلك الرضا هو المعادل النفسي الذي يصحح رؤية المحب لذاته وللعالم :

 

معاك الهم بيتباعد / والاقي الورد يتبسم /بهمس الشوق بيتنسم /ويحضني الربيع بعنيك .

 

وكذلك يصبح المحب بديل عن العالم وبوابة الروح لذلك العالم :

 

وغصبن عني ألقاني /أسيب الدنيا وارجع إليك

 

ولعل اللغة العربية المبسطة التى يطلق عليها خطأ العامية وكأن هناك اعتماد طبقي لتصنيف اللغة حسب من ينطق بها وهنا الخطأ التاريخي الذي بنيت عليه أبجديات التاريخ اللغوي العربي ، فمن نتائج تخصيص طبقة للشعراء المادحين لبناء قبلي معين تم اعتبار لغات الشعوب نوع من الانحراف اللغوي وكأنهم لم يستوعبون وقتذاك البناء السياقي للغة والتى تتلاءم مع فكرة أسباب النزول لآيات القرآن كجزء منطقى لفهمها. علي سبيل المثال جاء الشعر العربي قديما بوحدة البيت الشعري ثم جدد أبو نؤاس البيتين لمعنى واحد كبداية حقيقية لمفهوم التضمين ،ثم ياتى الشعر الغنائي المصري ليقدم تضميناعلي مستوي عدة أبيات متتالية وكأنه يقدم حياته المتشابكة سرديا ولكن من خلال لغة شعرية قائمة على إيقاع موسيقي يتواءم مع الطبيعة النفسية المتلقي، وصوتيات اللغة الخاصة به وعلى هذا تباين الشعر النبطي عن الشعر الغنائي المصري ،وذلك تأسيسا على أن الشعر جزء من ثقافة قولية تعتمد على المشافهة أكثر من التدوين ولعل جزئية المشافهة كانت أكثر حضورا مع بدايات الشعر الجاهلي الذي اكتسب سلطة على حساب شعر الشعوب بحكم حرص القبيلة التى حكمت على تخليد لغتها كنوع من سرقة المستقبل .

 

تناوب الضمائر وحدود الحركة بينهما

 

هل يؤدي ضيق المساحة التعبيرية للعالم الرومانسى الذي يعبر عنه الشاعر لتكرارية لغوية تصويرية تؤدي لخلق أنماط متشابهة وتفقد ذلك اللون جاذبيته لدي المتلقي ، هنا تأتي اللغة والجزئيات المركبة للصورة هما الفيصل في تقييم شاعر عن شاعر ،ويبقى هنا بماذا يتميز ذلك الديوان عن غيره ؟

 

روح المداعبة والتمنع كخصيصة سلوكية في عرف التعامل اليومي بين المرأة والرجل وكأنه تطويع شعبي للغزل كغرض شعري قديم جاء به العرب تعبيرا عن وفرة الوقت الناجم عن الثراء الفاحش ناتج الغزوات وفترات تهميش الحياة الاجتماعية في الحجاز لصالح دمشق ،ففى قصيدة الاعيبك باينه والتي تعكس خفة الروح المصرية وبذلك تتحقق الوظيفة الأولي للشعر أنه تعبير عن الشارع المصري ففى ازدواج الشعور بالغزل كنوع من تقدير الآخر وهو مقاربة الحميمية المفتقدة بفعل العادات والتقاليد وكذلك الرغبة الرسمي في احترام الذات ،وهنا يتحقق المعني مع الشكل وكأننا بصدد حالة تتكرر يوميا ولكن اللغة التى تعبر عنها لا تحتاج تقعرا :

 

لو شاري وجاي خلاص تسأل / بيتنا عنوانه الناحيه دي .

 

يصبح هنا تحدى اللغة ورشاقتها والقدرة الايحائية للفظ في سياقه المعنوي النفسى الذي يساهم في خلق حالة الفرح وكأن المتعة هنا سلاح مقاومة قادر على تجاوز كل المصاعب لتحقق الوظيفة الترويحية برقي لغوي ودون اجهاد عقلي .

 

وظيفة الحلم

 

جاءت نص من الحلم في الديوان كمعادل موضوعي لمفهوم فقد الحبيب ولكن ليحقق مفهوم التجاوز النفسي بقسوة فقد الأحباب.

 

وكأن التفاني في رسم تلك الصورة شبه المكتملة لحبيبة الحلم وكأنها تعكس تباين شعورى مع الواقع، وذلك لأن خريطة النفس لا يبدو منها للعيان الا قليلا من التضاريس ، ولعل ملامح التحقق المفقود قد تحقق في الفهم السياقي :

 

مسحت دموعي بسمتك / نورت ليلي بنجمتين/ وفتحت عيني لقيته حلم / ياريته ما خلص المنام

 

هنا يأتي الحلم وفكرة المنام كنوع من الخدعة الفنية في اللغة المتداولة كنوع من إبراز التمني علي استحياء ،ذلك الاستثناء كنوع من المقاومة المبطنة لقسوة العادات والتقاليد .

 

وتأتي تلك القصيدة (لقيته حلم )كتوطئة لطبيعة اللغة والبعد الميثولوجى لتلك الحبيبة التى تجاوزت قيمة الحلم لتصبح نوعا من التحقق الإنساني التجاوز حدود الجسد ليتم تكريمها لتصبح قيمة في حد ذاتها :

 

فارد جناح قلبى الشقي /في سماك لما تشقشقي / ونهاري بيفتح عيونه ويبتسم / لما لقاك في عز صيفه بتبرقي / وضياك فردوسي وبشاير مشرقي/ ونسايم العصر اللي حالف يحضنك .

 

ماذا حقق الشاعر بهذه اللغة الميثولوجية علي مستوي الطرح الشعري ؟

 

0- تطابق رحلة بطلة الحلم من الشروق للغروب هو نوع من المقاربة الذهنية لرحلة الشمس كي يساعد المتلقي علي قصدية تشبيهه لحبيبته مع فكرة الرحيل المادي المؤقت وهنا استدعاء لروح المصريين التي تري المحب روحا تجسدت في الأشياء المحيطة بها لخلق فكرة الاقتران بالوجود مما أدي لفكرة الخلود

 

الدلالة الخالية للضمير انت

يسيطر على الديوان فكرة انت المانح لمركبات السعادة والاشراق والوضوح وذلك عبر قصائد الديوان بأكملها إلى قصيدة مات الربيع ياتى الانسحاب مع رحيل الحبيب :

 

سبتيني ليه ؟ /مش كان متفقين سوا / فتح رحيلك / الجروح فيضان /وآلام جروحي /ما تداويها سنين .

 

ولكن الشاعر يتبلور في قصيدة اطلع مين ؟ ليحقق بذلك حيرة الوجود الروحي من خلال احتلال الراحلين أحلامنا حتي مع وجود الآخرين ماديا في حياتنا ولكن الام المخاض الروحي الأول تبقي لها لذتها لانها تواءم ولادة الذات وكأن قضية التواصل هي الهدف الرئيسى لحياة الإنسان وذلك بلورة نفسية البعد البيولوجي للجسم البشري ،وذلك من خلال رقة الوصف الشعري لحياة وحالات القلب وارتباط تلك الحالات بقضية التحقق الإنساني:

 

وناس عايشين بقلوب ماتت / وناس ماتت لكن عايشين / وناس حضنانا بقلوبها/ وناس جوا القلب ساكنين .

 

ومع رحلة التأرجح مع أحوال القلب يبقي السؤال كما هو :

 

وانا تايه في وسط الناس / ومش عارف راح اطلع مين

هنا فكرة الحاضر الغائب التي قامت عليها كثيرا من الأساطير المصرية التي لازالت تتناص مع العقل المصري القائم علي الإيقاع والحركة والحوار وهى روح الشعر الغنائي المصري .

 

قدم لنا الشاعر لغة يعروها البساطة ولكنها محملة بالدلالات المرتبطة بعمق المشترك مع المتلقي وهنا يمتلك ذلك الشعر أدوات خلوده.

 

أيها السادة نحن بصدد ديوان شعر متميز لشاعر خبر الغنائية المصرية فأجاد السباحة في دروبها، وهنيئا للعامية المصرية زئير فارس خبر الأرض فأنبتها خير الشعر وأعذبه.

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات