آخر الأخبار

نظرية الثورة العربية (2)

 


 

 

الدكتور عصمت سيف الدولة

 

 

 

2- مشكلة المنهج :

 

يبدو أن الأمر قد أصبح سهلأ . فما علينا إلا أن نحشد مجموع الوقائع التي نعرفها ونسميها منطلقاً ، ثم نحشد مجموع أحلامنا لتكون غاية ، ثم نحشد مجموع الخطط التي نتصورها لتكون أسلوبا . ولوفعلنا لكان الأمر كله عبثاً . لأن بحثنا عن ” نظرية تغيير الواقع ” يفترض أننا لا نريد ان نهدر طاقاتنا- مرة أخرى- فيما لا جدوى منه. وأننا حريصون- هذه المرة على تجنب الفشل وتوفير ضمانات النصر .

 

وهي لا تتوافر لأي نضال الا إذا كانت نظريته صحيحة ، وبقدر ما تكون صحيحة . صحيحة في المنطلق وفي الغاية وفي الأسلوب جميعاً . فليس كافيأ لحل مشكلة ” نظرية تغيير الواقع ” انتقاء نظرية، أية نظرية. لا بد لنا من ان نعرف أولا كيف اهتدينا الى تلك النظرية ، والى تلك النظرية بالذات دون غيرها. نحن إذن في مواجهة مشكلة ” المنهج ” التي لا بد من حلها ، قبل حل مشكلة النظرية. ومع ان كل مقولة في المنهج هي ايضاً نظرية ، الا أننا سندخر- بقدر ما يمكن- كلمة نظرية للتعبير عن المقولة التي تحدد لنا منطلق وغاية وأسلوب تغيير واقعنا ، مكتفين بكلمة منهج للتعبير عن المقولة التي تحدد لنا قوانين التغيير ذاته أو ” منطق ” التغيير .

 

الواقع ظاهره ونحن نريد ان نغيره . فهل هذا ممكن؟

هذا سؤال أولي لا تخفى خطورته. إذ لو كان الواقع غير قابل للتغيير فان أي حديث عن تغييره لا بد من أن ينقطع . أما اذا كان الواقع قابلأ للتغيير فهنا فقط يصح الحديث عن منطلق التغيير وغايته وأسلوبه. بدهي . ومع هذا فانه أكثر الأسئلة تجاهلأ في الكتابات العربية العامرة بما يجب ان يكون من تغيير في الواقع العربي بدون بيان لماذا اذا كان الواقع العربي قابلاً للتغيير أم لا، ولمـاذا هو قابل للتغيير . ومنهم من يدعون الى التغيير على أسس فكرية لو صحت لكان التغيير مستحيلاً كما سنرى .

 

وما دمنا في نطاق البدهيات الأولى ، التي نتجاهلها كثيراً ، فينبغي ان نقول ان التغيير لا يعني قبول أو متابعة التحولات التي يقدمهما الواقع تلقائياً ، بل يعني تحقيق مضامين نريدها ونعمل على تحقيقها لأنها غير متوقعة الحدوث في الواقع بدون تدخلنا . بدهي ايضاً . ومع هذا فانه أكثر الأمور تجاهلاً في الكتابات الماركسية العامرة بالحديث عن التطور الحتمي وقوانينه بدون تفرقة بين التغييرات التلقائية التي تحدث في الواقع ولا يتوقف حدوثها على إرادة الناس وعملهم وبين التغييرات التي ما كانت لتحدث لولا أن أحدثها الناس بإرادتهم وعملهم .

 

على أي حال فمهما يكن مضمون التغيير الذي نريد أن نحدثه في الواقع فهو إضافة ليست قابل للتحقق تلقائيأ بدون عمل الإنسان . أو هذا هو ما نعنيه بعملية تغيير الواقع . فهي قطع للاستمرار التلقائي للواقع ولو لم تكن إلا كلمة نقطع بها الصمت أو ثورة نقطع بها العبودية . من هنا نكتشف انه مهما يكن ما نريد أن نحققه فانه لا يتحقق إلا في المستقبل . بعد الواقع ولو بلحظة من الزمان لا بد منها لتتحول الفكرة في رؤوسنا إلى كلمة على ألسنتنا، أو ما هو دون هذا زماناً . بهذا الاكتشاف البسيط لعنصر الزمان في الحركة نلتقي بأول وأخطر شروط التغيير . إذ ما دمنا نبدأ من الواقع لنغيره في المستقبل فإن إمكان هذا التغيير لا يكون متوقفاً على مجرد إرادتنا وعملنا بل- قبل الإرادة والعمل – على ما إذا كانت الأشياء والظواهر التي يتكون منها الواقع منضبطة في حركتها من الماضي إلى المستقبل بقوانين أو نواميس حتمية أم لا . إذا لم يكن الكبريت قابلاً للاشتعال حتماً في الظروف التي تتفق مع مادته لما استطاع أي واحد منا أن يقول انه سيشعل عودأ من الثقاب وأن يشعله فعلاً . ولو لم يكن كل شيء خاضعاً في حركته لقوانين أو نواميس حتمية لما استطاع الناس أن يعدوا بالنزول على سطح القمر وان يصمموا ويصنعوا أداته المتفقة مع ظروفه وأن ينزلوا عليه في الموعد الذي حددوه … الخ . وهكذا يكون انضباط الأشياء والظواهر في حركتها من الماضي إلى المستقبل بقوانين أو نواميس حتمية شرطاً أولياً ” لإمكان ” تغيير الواقع . نقول شرطاً ” لإمكان ” تغيير الواقع ولا نقول سبباً لتغييره حتماً . ذلك المفهوم الفج الذي يحاول البعض الصاقه بالحتمية لتبدو كما لو كانت نوعاً من ” الجبرية ” تغير الواقع حتماً سواء أراد الناس وعملوا أم لم يريدوا و لم يعملوا . إن حتمية القوانين أو النواميس التي تضبط حركة الأشياء والظواهر لا تعلمنا أكثر من انه ” إذا حدث كذا…حدث كذا ” أو ” إذا لم يحدث كذا… لا يحدث كذا “. وهو أمر يعرفه الفلاحون الذين يعملون اليقين انهم إذا لم يرفعوا الماء من النهر إلى مزارعهم جفت الأرض ، وإذا جفت الأرض مات الزرع ، وإذا مات الزرع لا يحصدون شيئاً ، وإذا لم يحصدوا جاعوا… الخ . هذه الحتمية لازمة ليتصور الناس المستقبل الذي ينتظرهم ” إذا ” لم يتدخلوا في تغييره ، وليغيروا شروط فعاليتها ليحققوا المستقبل الذي يريدون . أما أن يقع هـذا المستقبل فعلاً أو لا يقع فذاك متوقف على عملهم واحترامهم حتمية تلك القوانين او النواميس . المهم انه بدون وجود علاقة حتمية تؤدي بالسبب إلى النتيجة وتربط بين العلة والمعلول ، لا يمكن لأحد أن يغير من الواقع شيئاً مهما كان ضئيلاً . ولما كان تاريخ التقدم الإنساني كله هو تاريخ نجاح الناس في تغيير واقعهم، كما ان كل الانجازات العلمية ليست إلا حصيلة اكتشاف واستخدام القوانين أو النواميس التي تضبط حركة الأشياء والظواهر استخداماً قائماً على التسليم بحتميتها فلا بد أن كل شيء منضبط بقوانين تحكم حركته حتماً، سواء عرفنا كل تلك القوانين أو النواميس أم لم نعرف إلا بعضها . وبالتالي فهو قابل للتغيير . وبقدر ما نعرف وما نحترم حتمية القوانين أوالنواميس التي تضبط حركة الواقع نستطيع ان نغيره .. فإن عجزنا عن معرفة كيف نغيره لا نتراجع بل نبذل جهداً آخر حتى نعرف فنريد فنعمل فنغيّر .

 

أما الذين لا يعرفون تلك القوانين أو النواميس ، أو الذين لا يحترمون حتميتها، فسيبذلون جهودأ عشوائية لتغيير واقعهم أو يستسلمون لقدرهم . وإذا كان الاستسلام للمصير الذي يؤدي اليه الواقع تلقائيأ لا يغير من الواقع شيئاً ، إلا ان محاولات التغيير العشوائية قد تصيب وقد تخيب . ومن المهم ان نلاحظ انها قد تصيب . أي قد تتحقق الغاية بدون ان يعرف أحد كيف تحققت ولماذا تحققت . ذلك لأنه من بين عديد من المحاولات العشوائية قد تأتي إحدى المحاولات متفقة مع القوانين ين أو النواميس التي تضبط حركة الأشياء والظواهر فيتحقق الأثر ” صدفة ” . والصدفة لا تعني ان الأثر قد تحقق بالمخالفة للحتمية أو استثناء منها بل تعني العكس تمامأ . تعني ان النتيجة الحتمية للمؤثر قد تحققت بدون توقف على معرفة الناس كيف تحققت . وهكذا تكون الصدفة تأكيداً للحتمية. ومنها نتعلم أمرين هامين لإمكان تغيير الواقع :

الأمر الأول هـو أن وجود القوانين أو النواميس التي تضبط حركة الأشياء والظواهـر. وحتميتها، لا يتوقفان على معرفتنا.. انها موجودة ” موضوعياً ” سواء عرفناها أم لم نعرفها . وحتميتها موضوعية أيضاً لا نستطيع أن نلغيها حتى لو أردنا . ومن هنا تكون مهمتنا مقصورة على اكتشافها واستخدامها لا أكثر.

 

الأمر الثاني هو ألا ننخدع في مقدرتنا على تغيير الواقع عندما نجد ان بعض ما كنا نريده قد تحقق عن غير الطريق الذي أردناه . أي نتعلم كيف نحذر من النصر يأتي مصادفة حيث لا نتوقعه . ان النصر يأتي مصادفة يكشف لنا، من ناحية، اننا كنا أبعد ما نكون عن النصر يوم أن تحقق .

 

ويكشف لنا ، من ناحية أخرى ، أن الظروف الموضوعية كانت ناضجة لتحقيقه بدون ان نعرف . ناضجة الى درجة أن قد تحقق حيث لا نتوقعه .

 

عندما نلتزم النظرة الموضوعية الى الأشياء والظواهر ، ونفلت من خديعة النصر يأتي مصادفة ، يصبح انتصارنا في تغيير الواقع إلى ما نريد متوقفاً على مدى علمنا بالقوانين أو النواميس التي تضبط حركة الواقع ، وشروط فعاليتها ومقدرتنا على استخدامها استخداماً صحيحاً . ولو عرفنا كل هذا ومارسناه لحققنا ما نريد حتماً .

 

3- مشكلة الإنسان :

 

إذا كان كل هـذا – فيما يبدو- صحيحا فلماذا يفشل بعض الناس في تغيير واقعهم ؟ .. هناك ، أولاً ، قصور المعرفة بالقوانين أو النواميس التي تضبط حركة كل الأشياء والظواهر . فمع أن محاولات اكتشاف تلك القوانين أو النواميس قد شغلت الإنسان منذ أن وجد على الأرض ، وما تزال تشغله ومع أن تقدم البحث العلمي قد كشف عن القوانين أو النواميس ” النوعية ” لكثير من عناصر الطبيعة ، إلا أن الطبيعة ما تزال عامرة بقوانين أو نواميس لم تعرف بعد . آية هذا أن العلم يكتشف كل يوم جديداً كان مجهولاً .. وآيته الثانية أنه يصحح في كل يوم ما اكتشفه من قبل . وهكذا بينما يستطيع بعض الناس ، اليوم ، تغيير الواقع كل يوم كما يريدون تماماً في مجالات عديدة ، ما يزال كثير مما يريدون تغييره بعيداً عن متناول مقدرتهم . ويتخذ بعض الناس من هذا القصور الجزئي المؤقت حجة للزعم بعدم انضباط حركة الأشياء والظواهر بقوانين أو نواميس حتمية . ويقولون ان العالم ” لا متحدد ” وانه لاشيء في الوجود حتمي . وهي حجة داحضة لأنها قائمة على ان مالا نعرف قانون حركته تكون حركته غير خاضعة لقانون .

 

غير ان هناك ، ثانياً ، المشكلة الأساسية التي يطرحها تغيير الواقع الاجتماعي .

 

فالواقع هنا ظاهرة . ولكنها ظاهرة من بشر . عنصرها المميز هو الإنسان ، والإنسان متميز عن غيره من الكائنات بأنه كائن ذكي . له مقدرة خاصة به على إدراك الواقع وعلى تصور المستقبل وعلى إرادة التغيير وعلى اختيار ما يريد وعلى العمل لتحقيق ما أراد واختار .

 

ومع تفرّد كل واحد من البشر بالذكاء والمقدرة على العمل تبدو محاولة إخضاع البشر في حركتهم من الماضي الى المستقبل لقانون أو ناموس حتى غير متفقة مع حرية إرادة الإنسان . ومن هنا يقبل الكثيرون حتمية القوانين أو النواميس التي تحكم حركة الأشياء والظواهر المادية ولكنهم لا يقبلون أن يكون الإنسان منضبطاً في حركته بقوانين أو نواميس حتمية ، ويعتبرون هذا نوعاً من ” الجبرية ” التي تهدر حرية الناس في الاختيار . ولا شك في ان هذا اعتراض على قدر من الجدية . فمقدرة الإنسان على الاختيار أمر لاشك فيه . ثابت بالملاحظة ويمكن إثباته بالتجربة والاختبار . ومن ناحية أخرى قد عرفنا أن التغيير هو تلك الإضافة التي يحدثها الناس في الواقع رفضاً لما هو متوقع منه . فتغيير الواقع الاجتماعي ذاته يفترض المقدرة على الاختيار بين ما هو كائن وما يجب ان يكون . وهذا غير ممكن إلا بتدخل ايجابي من إنسان ” حر ” . فحتى لو صح ما قلناه من أن أول وأخطر شروط التغيير هو أن تكون الأشياء والظواهر منضبطة في حركتها من الماضي الى المستقبل بقوانين او نواميس حتمية ، ولو صح بالإضافة الى هذا أن الأشياء والظواهر منضبطة حركتها ، فعلاً ، بتلك القوانين أو النواميس الحتمية ، فإن كل هذا لن يعني شيئاً ذا قيمة في تغيير الواقع الاجتماعي إذا صح – بالمقابل – إن الانسان غير قابل للانضباط في حركته بقوانين أو نواميس حتمية . إذ تستحيل – حينئذ – معرفة ما إذا كان سيغير الواقع أم لا ، ومتى يغيره ، وما هو مضمون التغيير الذي سيحدثه . كما يستحيل على أي إنسان أن يثق بتغيير الواقع على ما يريد لأنه لا يستطيع أن يتوقع ما يريده أو يفعله الناس الآخرون . ولما كان المجتمع ، أي مجتمع ، هو من ناس يعيشون معاً فإن مستقبل التغيير الاجتماعي يكون غير قابل للمعرفة وبالتالي تستحيل معرفة نظرية تغيير الواقع : منطلقه وغايته واسلوبه. ولا يبقى إلا أن يترك لكل انسان أن يفعل ما يشاء على ما يريد وأن نقبل مصيرنا التلقائي ونكف عن المحاولات العقيمة لمعرفة كيف يتغير الواقع الاجتماعي او عن محاولات تغييره .

 

غير ان جدية الاعتراض لا تخفي ما ينطوي عليه من تهافت . إذ يبدو به كما لو كان كل هذا الوجود من أول الذرات، الى الجماد، الى النبات، الى الحيوان، الى الأرض، الى السماء ، الى الكواكب والشموس والمجرات…، كل هذا ، منضبطأ في حركته بقوانين حتمية أو نواميس لا تتبدل ، معروفة أو تمكن معرفتها، ثم يأتي هذا الكائن المسمى ” انساناً ” استثناء شاذأ من حركة الوجود كله. كما لو كان الانسان هو ” الفوضوي ” الوحيد في كون محكم النظام . اذن لسقطت دلالة اطراد التقدم الاجتماعي الذي يمثله، تاريخ البشرية منذ البداوة الأولى حتى عصر الفضاء والعقول ” الالكترونية “. إذ أن هذا الاطراد يشير- على الأقل – الى أن ثمة قانونأ ” ما ” يحدد اتجاه التغيير الاجتماعي ويجعل منه عملية نمو وإضافة مستمرة . والواقع ان الذين يقبلون هذا الاعتراض ويستثنون الانسان عن الانضباط بقوانين أو نواميس – حتمية لا يفعلون شيئأ سوى العودة الى تلك المقولة الخاطئة : ما لا نعرف قانون حركته تكون حركته غير خاضعة لقانون . او انهم يفعلون ما هـو اكثر من هذا غرابة . انهم يجردون كل ما يقولونه عن تغيير الواقع الاجتماعي من أية قيمة . وهذا أولى بالانتباه في الكتابات العربية بوجه خاص . حيث ترفض الحتمية بتسرع ثم يسرع رافضوها في الدعوة الى تعبئة الجماهير وتحريضها على الثورة من أجل ” الوحدة العربية ” مثلأ . إن الدعوة هنا تبدو عابثة. إذ كيف يمكن- بدون عبث- ان نحرض الناس على الثورة من أجل غاية اجتماعية نحددها إذ كنا مدركين منذ البداية أن تحقيقها- ولو بالثورة- ليس حتميأ . على أي اساس توقعنا النصر إذن … اذا كانت حتى الثورة ، ذلك العمل الإنساني الجبار، غير قابلة لحتمية النصر ؟..

 

إن الثورة هنا تبدو مخاطرة أو مغامرة ما دام دعاتها لا يستطيعون أن يتوقعوا نهايتها . وهم لا يستطيعون إلا إذا كانت مسيرتها الانسانية قابلة منذ البداية للانضباط بقوانين أو نواميس حتمية تكفل لها توقع النهاية . بل كثيراً ما يتجاوز الأمر حدود العبث الدعائي لينتهي بأصحابه الى منزلق خطير . لأن الاصرار على التغيير الاجتماعي مع التسليم ، في الوقت ذاته بأن حرية الانسان في الاختيار غير قابلة للانضباط بقوانين أو نواميس موضوعية ، معروفة أو تمكن معرفتها ، يحيل ” حرية الناس ” عقبة أساسية على طريق التغيير الذي يريده أصحابه ويصرون عليه . وفي مواجهة الخوف من أن يختار الناس غير ما اختار القادة يكون هم القيادة هو كيفية ضبط حرية الناس حتى لا يختاروا لأنفسهم غير ما اختير لهم . وبدلاً من القوانين الموضوعية المنكورة تقوم القوانين الوضعية الملزمة بحكم القهر البوليسي . وتلك هي ” النظرية ” – او إحدى النظريات الكامنة وراء الاستبداد والديكتاتورية . ومنها نعرف اننا عندما نتحدث عن ” الحتمية ” لا نطرح قضايا فكرية مجردة بعيدة عن واقع الحياة ، بل نعالج واحدة من أخطر القضايا التي تمس الحياة . وانه لابد من حل مشكلة المنهج قبل حل مشكلة النظرية .

 

كل أي حال فان كثيرين ايضأ يرفضون ” اللاحتمية ” في عالم الإنسان . ولا يقبلون ان يكون الإنسان شاذآ عن نظام الكون وأحكامه.

ويرون انه ، كأي كائن آخر في الوجود الذي يشمله ، لا بد له من أن يكون منضبطأ في حركته بقوانين أو نواميس ، إن لم تكن معروفة فهي قابلة للمعرفة . ومن هنا اتجهت جهود العلماء والمفكرين منذ وقت مبكر الى محاولة اكتشاف تلك القوانين . واسفرت جهودهم عن مجموعة كبيرة من النظريات التي رأينا أن نسميها ” مناهج ” للدلالة على أنها نظريات في حركة الاشياء والظواهر والمجتمعات او ” منطق ” حركة الأشياء والظواهر والمجتمعات . وقد أصبح نجاح او فشل اية محاولة تغيير في واقع أي مجتمع متوقفاً الى حد كبير على صحة او خطأ المنهج الذي تهتدي به كل محاولة ، أي على صحة أو خطأ معرفتها قوانين تغيير الواقع في المجتمعات الانسانية . أما الباقي فيتوقف على ما يبذله أصحاب كل محاولة على حدة في تغيير الواقع في مجتمعهم .

 

4- تعدد المناهج :

 

ولسنا نريد أن نعرض كل ما نعرفه من مناهج التغيير ، فتلك معرفة تلتمس في مصادرها المتخصصة . انما نريد أن نشير إلى ما يهمنا منها للوصول بهذا الحديث الى غايته . وغايته – حتى لاننسى – أن نعرف نظرية تغيير الواقع العربي . وأول ما يهمنا من المناهج ان نعرف انها متعددة . متعددة بقدر تعدد اجتهادات الناس في حل مشكلة تهمهم جميعاً . ومع تعددها تنقسم الى مناهج علمية ومناهج غير علمية .

 

أما المناهج العلمية فهي التي كانت حصيلة بحث علمي أي وصل اليها أصحابها عن طريق مراقبة الظاهرة الاجتماعية ، ورصد حركتها ، واستخلاص قانون تلك الحركة من اطرادها على قاعدة واحدة في الظروف المتماثلة . واما المناهج غير العلمية فهي التي لم تكن محصلة بحث علمي في ذات الظاهرة فهي تسند حركة الظواهر الاجتماعية الى قوة غير قابلة للمعرفة عن طريق التجربة والاختبار .

 

ثم يكون المنهج العلمي صحيحاً أو غير صحيح . مع ملاحظة أن نصيب كل منها من الصحة أو الخطأ قد لايكون كاملاً . بمعنى انه لايلزم أن يكون المنهج صحيحاً كله أو خطأ كله . إذ المنهج يتضمن قانوناً أو اكثر من قوانين الحركة . وقد يصدق الاكتشاف في قانون ولا يصدق في قانون آخر . والغالب أن يتضمن كل منهج قدراص من الصواب وقدراً من الخطأ يتفاوتان من منهج الى منهج تبعاً لصحة البحث العلمي الذي أدى اليه والذي يتأثر بدوره بنمو المعرفة العلمية على المستوى الانساني . وقد تظل نظرية في المنهج مأخوذة على انها صحيحة سنين طويلة الى أن يتقدم البحث العلمي فيكتشف أنها قاصرة او خاطئة. والمحك في النهاية هو صدق النتائج التي يؤدي اليها المنهج في الممارسة . صدقها مع المنهج ذاته. إذ الممارسة هـي اختبار مستمر لصحة النظرية . فاذا جاءت حصيلة الممارسة متفقة مع المتوقع كما حدده المنهج الذي نتخذه دليلأ صح المنهج . أما إذا جاءت حصيلة الممارسة مختلفة كلياً ، أو جزئياً ، عن المتوقع كان المنهج الذي اتخذناه دليلاً غير صحيح كلياً او جزئياً . وهذا يعني أن ثمة حاجة الى مزيد من البحث العلمي لتصحيحه . ولكنه لا يعني – على أي وجه – انه ليس منهجاً علمياً . غذ ليس كل ما يؤدي اليه البحث العلمي يكون صحيحاً . نقول هذا وننبه اليه بقوة حتى لا نلغي تاريخ التقدم العلمي الذي هو – في الوقت ذاته – تاريخ تصحيح واستكمال الاخطاء العلمية وقصور المعرفة عن طريق مزيد من البحث العلمي . وحتى نفتش في كل فكرة عن القدر الصحيح ونقبله ولا نصد أنفسنا عنها لأن فيها قدراً من الخطأ . وحتى لا نحيل كلمة ” العلم ” أو ” العلمية ” شعاراً كهنوتياً يحتكره كل واحد لمذهبه . وحتى نتعلم التسامح في ميدان البحث العلمي من ناحية ولا نشل مقدرتنا عليه خشية الخطأ من ناحية أخرى . ذلك لأنه من الخطأ أن نخلط بين أسلوب المعرفة وبين ما يصل اجتهاد الناس الى معرفته عن طريق هذا الاسلوب . وأن نتعصب لما نعرف فنهرب من اختبار صحته الى الترديد ” الببغاوي ” : ما دامت أفكارنا علمية فهي صحيحة . أو نهرب من الالتزام المحدد فننسب أفكارنا الخاصة إلى ” النظرية العلمية ” بدون بيان لماهية تلك النظرية العلمية كأن ليس في التراث الانساني إلا نظرية علمية واحدة . ولو كان كل العلماء في التاريخ قد اتخذوا هذا موقفاً لما تقدم العلم خطوة واحدة ، ولأبقانا التعصب في جاهلية البداوة الأولى . ولو اتخذناه اليوم موقفاً لجمدنا في مواقفنا ، ولما أجدانا شيئاً ان نتهم ركب التقدم الذي يتركنا وراءه بأنه ركب غير علمي . ولكان علينا عندما نفلت من الجمود ان نلهث وراء الذين لم يوقفهم التعصب فسبقونا . وكثيراً ما يكون اللحاق بهم – حينئذ – قد فات أوانه .

 

ان هذا لايعني أن نشك دائماً في صحة أفكارنا ، بل يعني ان نكون قادرين دائماً على اكتشاف الخطأ فيها وتصحيحه . فلا نقع في التناقض الطفولي ، باسم العلم ، فنظن ان كل شيء متغير إلا أفكارنا فهي خالدة لا تتغير . وكم من نظريات علمية سادت قروناً ولم يكتشف الناس قصورها إلا بعد قرون . سنتحدث فيما يلي عن بعض منها وان كان غيرها كثير . ونبدأ بواحدة منها كانت أعمقها أثراً في تاريخ البشرية . وما يزال الحديث عنها متردداً في كل بحث يدور حول تغيير الواقع الاجتماعي ونظرياته . تلك هي الليبرالية .

 


نظرية الثورة العربية … (1)

إرسال تعليق

0 تعليقات