د. وسام الدين محمد
الترشيحات في هذا الشهر سوف يكون موضوعها أهم الأعمال العلمية
والموضوعية للمستشرقين التي تناولت بعض جوانب الحضارة الإسلامية، ونبدأ هذا
الأسبوع مع كتاب (الدعوة إلى الإسلام: بحث في تاريخ نشر العقيدة الإسلامية)
للمستشرق البريطاني (سير توماس آرنولد).
وكان بعض من المستشرقين قد
أشاعوا أن الإسلام قد انتشر بالسيف، وهي دعوى يمكن أن تقبل من المستشرقين إذ أنهم
ينتمون فكريًا وعقائديًا إلى بيئة ظلت في حالة صدام مع الإسلام منذ ظهور الإسلام،
بل أن وظيفة الاستشراق نفسها كانت دراسة الإسلام بغرض المساعدة في الجهود الرامية
لحرب الإسلام واستعباد شعوبه؛ ولكن أن يكرر مثل هذه الدعوى بعض المبهورين بالغرب
والاستشراق من أبناء جلدتنا، فهذا هو المستهجن! وتراه يكرر هذه الدعوى كأنها من
بنات فكره، دون أن يستند إلى مصدر أو إلى منهج، اللهم إلا إيمانه المطلق بأن كل ما
جاء من الغرب هو الحق والخير والجمال! ومن هنا تأتي أهمية كتاب (الدعوة إلى
الإسلام)، لأن مؤلفه مستشرق، وقد ظل مسيحي تقي حتى وفاته، كما عمل إلى جانب عمله
الأكاديمي في وزارة المستعمرات البريطانية، فالرجل لا يمكن أن يتهم بأنه متعاطف مع
الإسلام أو أنه يحابي المسلمين؛ وقد تتبع (آرنولد) في كتابه تاريخ انتشار الإسلام
في الأقطار المختلفة، مستندًا إلى كم كبير من المصادر، ولم يعتمد على المصادر
الإسلامية فحسب، وإنما اعتمد كذلك على مصادر كثيرة متنوعة، مثل الوثائق البيزنطية
والأرمينية وتلك المتعلقة بالكنيسة الكاثوليكية والكنائس الشرقية، ممحصًا في الوقت
ذاته عشرات المراجع التي كتبها كبار المستشرقين؛ ملتزمًا في كل سطر وكل كلمة في
كتابه بمنهج علمي موضوعي صارم؛ وتراه في هذا الكتاب يناقش كثير من المسائل التي
تعتبر اليوم حساسة، مثل مفهوم الجهاد والجزية وحقوق الأقليات الدينية تحت حكم
المسلمين.
الكتاب في ثلاثة عشر فصل؛ الفصل الأول يقدم فيه (آرنولد) مفهومه عن
الإسلام مؤكدًا على أن خطاب القرآن الذي يحض على الدعوة إلى الإسلام هو نفسه
الخطاب الذي يمنع الإكراه ويضمن حرية الاعتقاد؛ وانطلاقًا من هذه الرؤية ينتقل
(آرنولد) إلى الفصل الثاني، والذي يعني فيه بتتبع الوقائع التي تثبت رؤيته في سيرة
الرسول صلى الله عليه وسلم، مقارنًا بين القيم التي أتى بها الإسلام، وتلك القيم
الجاهلية التي أعلنت الحرب على الإسلام؛ تمثل الفصول من الثالث وحتى السادس وحدة
واحدة موضوعها انتشار الإسلام في أقطار غلبت عليها المسيحية، ومن ثم اهتداء أهل
البلاد المسيحين إلى الإسلام، حيث يتناول في الفصل الثالث انتشار الإسلام في منطقة
الشام والعراق، وأسباب تحول المسيحين في هذه الأقطار إلى الإسلام؛ بينما في الفصل
الرابع يناقش انتشار الإسلام في مصر؛ أما في الفصل الخامس فيناقش انتشار الإسلام
في الأندلس بين أبناء البلاد الأصليين، كما يتطرق إلى تحريض الكنيسة المحلية في
الأندلس اتباعها ضد المسلمين؛ وفي الفصل السادس يناقش انتشار الإسلام في تلك
الأقطار الأوروبية التي حكمها الأتراك العثمانيين؛ ونأتي إلى الفصل السابع حيث
يتناول بلاد فارس واسيا الوسطى إلى الإسلام؛ وإذا كانت معظم الفصول السابقة تتناول
انتشار الإسلام في بلاد مفتوحة، فإن الفصول من الثامن إلى الثاني عشر تتناول
انتشار الإسلام في أقطار لم تبلغها عساكر الفتح، بل كان الإسلام في بعضها هو
المغلوب، فترى المؤلف في الفصل الثامن يتناول انتشار الإسلام بين المغول، ومن
المعروف أن هؤلاء قد هزموا دول الإسلام وأزالوا الخلافة العباسية؛ وتراه في الفصل
التاسع يتناول انتشار الإسلام في الهند، وهي بلاد لم تشهد فتحًا عامًا ولم تثبت
فيها راية للمسلمين؛ بينما في الفصل العاشر يتناول انتشار الإسلام في الصين؛ وفي
الفصل الحادي عشر يناقش انتشار الإسلام في أفريقيا جنوب الصحراء على يدي التجار
والصوفيين، وهم أنفسهم الذين يحملون الإسلام إلى أرخبيل الملايو في شرق آسيا على
نحو ما يناقشه في الفصل الثاني عشر؛ ومن ثم يبلغ المؤلف نهاية الكتاب في الفصل
الثالث عشر الذي أوقفه على مناقشة مشاكل الدعوة الإسلامية في زمانه.
يمكن أن نوجز وجهة نظر (توماس آرنولد)، تلك التي بناها بعد استقراء
وقائع تاريخ انتشار الإسلام من المصادر الأصلية لهذا التاريخ، في عدة نقاط؛ أولًا
توسع الإسلام كان ضرورة تاريخية وحضارية، فالحضارات التي واجهت الإسلام كانت قد
تجمدت في الزمن، وأصبح استمرارها عالة على ابناءها، ومن ثم كان انهيارها
واستبدالها بحضارة أخرى تتميز بنسق أخلاقي انساني جامع مسألة وقت، وهو ما يضرب له
مثلًا دخول الإسلام إلى مصر وإلى الأندلس؛ ثانيًا التشظي المستمر للمسيحية والصراع
بين الطوائف أفقد كثير من أبناء المسيحية خاصة في الشام وشمال إفريقيا الثقة في
الرؤية التي تطرحها الطوائف المسيحية حول العالم والانسان، فكان اهتداء الكثير من
أبناء المسيحية إلى الإسلام، هو سعيًا لرؤية مستقرة ونقية للعالم والانسان؛ ثالثًا
مثل الإسلام عامل قلق لملوك الدول البربرية، تلك الدول التي قامت على أنقاض
الإمبراطورية الرومانية، إذ كان أبناء القبائل البربرية الذين انشئوا هذه الدول
يلعبون دور النبلاء في تلك الدول بينما استعبدوا أبناء البلاد الأصليين، فنظر
أبناء البلاد الأصليين بعين الغبطة إلى المساواة والتسامح الذي يعيش فيه أقرانهم
في الأندلس، ومن ثم أجتمع الملوك مع الكنيسة الكاثوليكية على منع وصول صورة
الإسلام إلى أقنان الأرض، والتحريض بينهم ضد الإسلام، وأيهامهم أن الملوك والكنيسة
تحميهم من الإسلام وتهديده، وهو ما تصاعد فيما بعد إلى درجة حشد هؤلاء في الحرب
الصليبية ضد الإسلام؛ رابعًا أن المثال الأخلاقي اذي ضربه المسلمين، فاتحين وتجار
ومتصوفة، للشعوب التي عانت الانهيار الأخلاقي للجاهلية كان الباب الذي دخلت منه
هذه الشعوب دين الله افواجًا، وليس السيف كما ادعى بعض المغرضين وأصحاب الهوى
والسطحيين.
أود الإشارة إلى جهود المترجمين الذين قاموا بترجمة الكتاب إلى
اللغة العربية وعلى رأسهم العالم المؤرخ (حسن إبراهيم حسن)، والذي كان تلميذًا
للمؤلف، نظرًا للمجهود الهائل الذين قاموا به ومراجعة مئات الاقتباسات في مصادرها
الأصلية في اللغات المختلفة، واثبات الاقتباسات مرجعيًا في هوامش الكتاب، على نحو
أصبح يندر في ترجمات القرن الحادي والعشرين.
ختامًا ولد (توماس آرنولد) في بريطانيا عام 1864، واهتم في مطلع
حياته بدراسة اللغات الشرقية، ثم أنتقل للتدريس في جامعات الهند، كما عمل لفترة في
مكتب الهند في وزارة المستعمرات البريطانية، وختم حياته العلمية استاذًا في جامعة
لندن، وتوفي في عام 1930، ومن أهم أعماله إلى جانب كتابنا المذكور، كتابه الخلافة،
كما شارك في تحرير دائرة المعارف الإسلامية.
تقبلوا مودتي.
0 تعليقات