آخر الأخبار

عن القرية الذكية

 

 

 


علي الحفناوى

 

مشروع بدأته سنة 2000 وتركته سنة 2010، ومع ذلك يسألني البعض حتى الآن: "ما هي القرية الذكية؟" أو "لماذا لا تكتب عن تجربتك في القرية الذكية؟"، وأيضا "لماذا يتم تجاهل هذا الصرح إعلاميا؟" وغيرها من الأسئلة حول تلك القرية المختلفة عن مفهوم "القرية" الدارج بين الناس... وكلها أسئلة لها وجاهتها ولا يمكن الرد عليها في عدة أسطر أو ببعض الجمل الإنشائية.

 

وإلى أن أجد القدرة على سرد تلك التجربة المهنية المتميزة - إن وجدتها يوما - سأكتفى بالرد على سؤال تلقيته من أحد شباب المهندسين المصريين عندما قال لى: "ما هي المعايير الهندسية لتصميم قرية ذكية ناجحة إن أردنا يوما إنشاء قرى أخرى في مصر؟". فأقول له:

 

1- حجم القرية الذكية يجب ألا يزيد عن حجم أي قرية أخرى من حيث المساحة والتعداد، وإلا فستتحول إلى مدينة بما للمدن من مشاكل في الطرق والمرافق والخدمات.

 

2- مفهوم الذكاء في القرية نابع من الطبيعة التكاملية بين مكوناتها التي تتصل ببعضها فتتكامل أنشطتها لخدمة بعضها معتمدة على بنية أساسية تكنولوجية رفيعة المستوى، تشمل الشق المعلوماتى، كما تشمل الشق الاتصالاتى من التجهيزات الهندسية، سواء من خلال الشبكات اللاسلكية أو شبكات الألياف الضوئية.

 

3- لا يكتمل مفهوم القرية الذكية بدون وجود النشاط التدريبى لاعداد الكوادر القادرة على الابداع والاختراع. ويتم ذلك باحتضان الشباب القادر على ذلك فيما يسمى بالحضانات التكنولوجية؛ حيث تقدم لهم كل وسائل الابداع والإنتاج، ومرافقتهم فنيا وماليا حتى وصولهم لمرحلة اخراج منتج قابل للتسويق. وتأتى بعد ذلك مرحلة تحول بعض هؤلاء الشباب إلى أرباب أعمال في شركات ناشئة (Start-up)، أو إلى تعيينهم في الشركات التكنولوجية الكبرى العابرة للقارات.

 

4- يجب أن يكون المكون البيئى للقرية الذكية محفزا لخيال الشباب، ومحفزا لقدراتهم على الابداع؛ فالقيمة المضافة في المنتج المنتظر، سواء كان منتج فنى أو خدمى، يمثل أعلى عائد اقتصادى من أي منتج آخر، حيث تكون تكلفته الربحية مثالية لأنها ناتجة من فكر وابتكارات رواد القرية. ويتمثل المكون البيئي في إطار عمرانى قليل الكثافة البنائية، مرتفع في الاطار الخضرى من حدائق وبحيرات، وملاعب، وأماكن ترفيه، واسترخاء.

 

5- التناغم في التصميمات المعمارية للمنشآت المقامة في القرية من العناصر الهامة في تحقيق أهداف القرية بإضفاء شعور الراحة النفسية لكل من يعمل بها، فتصبح في نظر الجميع كوحدة واحدة تؤدى رسالة مشتركة. لذلك، وعند تصميم القرية الذكية بالقاهرة، كانت المعايير الانشائية مثل قانون البناء الخاص بها: فيمنع زيادة الارتفاعات عن 15 متر (أرضى + 3)، يستخدم نفس الألوان في كل الأبنية (حوائط بيضاء لا تزيد عن 40% من الواجهات، وزجاج أزرق عاكس للحرارة على الفتحات لا يقل عن 60% من الواجهات)، تحديد المساحة البنائية من أرض القرية بنسبة 10% فقط على أن يستخدم الباقى في الطرقات والحدائق العامة، ومنع استخدام أجهزة التكييف على المباني (تم عمل محطة تكييف مركزية لخدمة كل منشآت القرية)، إنشاء ثلاث طوابق أسفل المباني موقفا للسيارات، أرصفة متسعة تتوسطها مساحة منزرعة بالزهور... إلخ.

 

6- يراعى في تشغيل القرية الذكية الالتزام بمواعيد العمل لكل الرواد، مع استثناء من يقتضى عمله التواجد ليلا (مراكز النداء)، كما يراعى قيام إدارة القرية بصيانة ونظافة كل المنشآت بمواعيد محددة وملزمة، وكذلك بالنسبة لصيانة المرافق. كما يراعى تأمين مداخل ومخارج القرية بمنظومة شديدة الدقة، ويراعى وجود الخدمات الاسعافية والخدمات الغذائية بالمطاعم وقاعات المؤتمرات بمستوى راقى وأسعار مقبولة. كما يراعى الالتزام بمنع أي إعلانات بأى حجم على أو خارج المنشآت، باستثناء اللافتات باسم الشركات المتواجدة بكل مبنى. وبالنسبة لخدمة الانتقالات، يتم تشغيل أسطول موحد من الأوتوبيسات المتميزة لخدمة كل أحياء وضواحى العاصمة.

 

كانت هذه بعض المعايير التي وضعتها عند إنشاء القرية الذكية في القاهرة، فكان النجاح والانبهار من قبل كل الزائرين... وعندما أدخل إليها الآن، وبعد أكثر من عشر سنوات منذ تركها، لا زلت أراها مشروعا ناجحا كما تصورته، ولكن، نسبة الالتزام بمعايير الانشاء والتشغيل قد تكون عانت من بعض التسيب، كما يحدث في مشروعات عديدة بمصر. فأراها قد تحولت إلى مشروع شبيه بالمشروعات العقارية حيث معيار المكسب والخسارة قد سيطر على المعايير الأخرى.

 

لا يفوتنى أن أشكر كل الفريق الذى عمل معى طوال عشر سنوات لإنجاح القرية الذكية، ولا يفوتنى أن أشكر رئيس الوزراء الأسبق، الدكتور أحمد نظيف الذى كان دعمه للمشروع وفقا للمعايير العلمية من أهم أسباب نجاحه.

 

أتمنى أن يكون بمصر قرى ذكية عديدة، على ألا تتحول مع الوقت إلى مشروعات عقارية بحتة، فشباب مصر من المبتكرين والمبدعين هم رصيد ورأس مال الوطن لبناء مستقبل هائل مليئ بالرخاء الاقتصادى والاجتماعى.

 

إرسال تعليق

0 تعليقات