عاطف معتمد
حتى عام 1910 كانت كتب الجغرافيا والرحلات لا تتعامل مع مصطلح
العالم "الإسلامي" إلا بشكل استثنائي، وكانت شعوبنا توصف في أغلب هذه
الكتب بـ "المحمديين".
المحمديون في الثقافة الغربية حتى مطلع القرن العشرين هم أتباع
"محمد". وقد انقسم الباحثون في بلادنا إلى فريقين تجاه هذا المصطلح:
- فريق يرى أنه لا بأس مع المسمى، ليس لأننا فقط "أتباع
محمد" (كما يستهل خطيب المسجد خطبته كل جمعة) بل لأننا نسمى المسيحيين بنفس
التسمية بمعنى "أتباع المسيح".
- فريق رفض
التسمية ورفض المقارنة وقال إننا وإن كنا أتباع محمد حقا إلا أن ديانتنا هي
الإسلام وبالتالي فمصطلح "محمديون" خطير غرير لا يجب أن نتبعه، والأصح
"مسلمون" ذلك لأن "الدين عند الله الإسلام".
انتصر الفريق الثاني انتصارا واسعا بفضل عاملين: داخلي وخارجي. كان
العامل الداخلي من مصلحته تدعيم الهوية بالدين الإسلامي والوعي القومي، وكان
العامل الخارجي من مصلحته تجسيد"نا" كعدو متجانس في عالم واحد من الصين
إلى المغرب، ومن آسيا الوسطى إلى خط الاستواء، ورؤيته لنا وفق رؤية استشراقية
واستعمارية متكاملة.
ومن تبعات هذا الانتصار لصالح "المسلمين" بدلا من
"المحمديين" أن انتصر أيضا مصطلح شهير هو "العالم الإسلامي"
وقد جرَّ ذلك مشكلات خطيرة غررت بالكثيرين.
لمصطلح العالم الإسلامي سطوة لغوية على من يتداولوه، وهي سطوة
إلزامية بوحدة المشترك العقائدي والمصير الإنساني وهذا أمر محمود ونبيل وكريم.
تبدأ المشكلة حين يريد الذين يعيشون في المركز الإسلامي الاهتمام
بالأطراف الإسلامية وفق مفاهيم إمبراطورية، بينما قدراتهم الجيوسياسية لا تتجاوز
عملاء بالوكالة !
المقصود بالقدرات الإمبراطورية أنك في بلاد المركز العربي (حيث مهد
الإسلام) عليك وفق وحدة "العالم الإسلامي" أن تهب لنجدة المستجيرين بك،
فلو تعرض المسلمون في الصين لحملة تعسفية أقرتها الأمم والهيئات الدولية أن يرسل
المركز الإسلامي "تجريدة" عسكرية تنتصر لهم وترد لهم حقوقهم.
لكن لأن مركز العالم الإسلامي في المشرق العربي خرج من
"الاستعمار إلى التبعية" أي حصل على استقلال شكلي وصار تابعا للقوى
الإمبراطورية الأقوى فإن دوره متواضع للغاية وانتكس إلى مجرد "مقاول
نزاعات" أو ممول إقليمي لحروب بالوكالة.
وسأضرب هنا مثالين من مكان واحد على الخريطة وهو
"الشيشان" في القوقاز الشمالي التابع حاليا لسيادة روسيا الاتحادية.
لماذا يرفض الجغرافي القومي فكرة الخلافة الإسلامية؟
(1)
نشر المؤرخ اليهودي "موشي غامير" كتابا مهما قبل ربع قرن
عن المقاومة الإسلامية في الشيشان ضد القياصرة الروس. ومن بين الوثائق المهمة التي
عرضها غامير في كتابه خطابا جاء إلى قائد المقاومة الشيشانية "الإمام
شامل" من السلطان العثماني يخبره فيه أن يبقى صامدا مقاوما للأعداء الروس حتى
تأتيه قوات "إبراهيم بن محمد علي باشا".
كان إبراهيم باشا قد حقق نجاحا في حروب شبه الجزيرة العربية لإخماد
تمرد الحركة الوهابية على السلطان العثماني.
لم يكن محمد علي يضرب الحركة الوهابية لمشروع مصري خالص، ولا
لاهتمام مصري باحتلال شبه جزيرة العرب وقد وقف علماء مسلمون في مصر ضد محمد علي
ورفضوا حملته باعتبارها ضد أخوة لنا في الدين ومهد الرسالة الإسلامية.
كان محمد علي "مقاول عسكري" ينفذ أوامر خليفة المسلمين
العثماني وإلا عزله عن ولاية مصر وأرسل واليا آخر مكانه.
الدولة العثمانية ضعيفة آنذاك وحين رأت نجاح محمد علي بالجيش المصري
الوليد في جزيرة العرب أرادت تكرار التجربة بإرساله إلى جبهة روسيا، وهي تجربة
موازية لتجربة الاستنجاد بالأسطول المصري لمحاربة روسيا في البحر الأسود، والتي
تحطم على إثرها الأسطول المصري بتحالف أعداء الدولة العثمانية.
غرر النجاح الساحق في حملة نجد في جزيرة العرب بالسلطان العثماني
الذي طلب من محمد علي أن يرسل ابنه إبراهيم لمناصرة الشيشان ومسلمي القوقاز .
وفقا للمؤرخ موشي غامير وصل الخطاب الوثيقة إلى الإمام شامل بأن
"يبقى صامدا أمام الروس لأن إبراهيم في الطريق إليكم".
لأسباب عدة لم يصل إبراهيم باشا ولم يتمكن الجيش المصري من الوصول
إلى القوقاز وتلقى الإمام شامل وحركة المقاومة الشيشانية والداغستانية هزيمة ساحقة
واستولى الروس على أرضهم منذ ذلك التاريخ إلى اليوم.
(2)
المثال الثاني من الشيشان أيضا لكنه أحدث عمرا، من زمن الحرب
الشيشانية الثانية التي وصل معها بوتين إلى حكم روسيا في عام 2000.
منذ عام 1996 وحتى عام 2000 استخدمت القوى الغربية دولا عربية
سلفية لتمويل انفصال الشيشان عن روسيا بإرسال دعاة وخبراء عسكريين مروا من حدود
دول معادية لروسيا مثل جورجيا على البحر الأسود.
في عام 2001 شهد العالم أحداث الحادي عشر من سبتمبر وانقلبت
الولايات المتحدة على الدول السلفية وانتهز بوتين الفرصة وأبدى – في حركة
براغماتية ماكرة - استعداد بلاده لمساعدة الولايات المتحدة في حربها في المشرق
العربي وأفغانستان.
كان بوتين يعرف أنه سيخسر بهذا لكنه كان يريد طرد كل حروب بالوكالة
من الجنوب الروسي وبالفعل تمت التسوية مع الولايات المتحدة وتوقفت فجأة في عام
2003 و 2004 كل أشكال العمل بالوكالة من المركز العربي الإسلامي لدعم الشيشان.
فجأة وجد الشيشانيون أنفسهم وقد غرر بهم وصاروا دون غطاء عربي سلفي
ولا غربي ولا تركي، ودهستهم العسكرية الروسية ولم يسمع لهم صوت إلى اليوم.
النتيجة في الحالتين هي وبال وقتل وتشريد لإقليم من أقاليم الأطراف
الإسلامية وقع في تغرير المركز الذي لديه طموحات إمبراطورية بدولة الخلافة، بينما
قدراته أن يقوم فقط بدور مقاول عسكري أو حرب بالوكالة.
على هذا النحو فإن جمال حمدان أو أي مفكر مثله حين يتحفظ على مصطلح
الخلافة الإسلامية ليس بالضرورة جبانا ولا متقاعسا ولا ضد الدين.
حين قال جمال حمدان إن فكرة الخلافة الإسلامية هي فكرة "ضد
الإسلام" لم يعط تفسيرا وأمثلة عديدة على مقولاته المطلقة لكنه كان ينادي
بذلك حرصا منه على ألا يستغل الدين الإسلامي في إيقاع ويلات على عالم المسلمين.
-----
800 كلمة تكفى هذه المرة ..إلى لقاء في مقال جديد بإذن الله
0 تعليقات