آخر الأخبار

لماذا يرفض الجغرافي القومي فكرة الخلافة الإسلامية؟

 



 

عاطف معتمد

 

قطعت على نفسي وعدا أن أعلق على فكرة الوحدة الإسلامية في مقابل الوحدة القومية عند جمال حمدان. وسأفعل ذلك في أكثر من مقال. وفي مقال اليوم أستهل الحكاية بأربع وقفات ..

 

(1)             من هو الجغرافي القومي؟

 

الجغرافي القومي هو ذلك المفكر الذي يهتم بثلاثة أبعاد في رؤيته الفكرية:

 

- الخصوصية المكانية لبلاده حتى يعرف مواطن قوتها وضعفها. لا يمكن أن تجد جغرافيا صاحب مشروع وطني في بلد صغير متواضع الجغرافيا. مصر بلد متوسطة في الأبعاد الجغرافية، ليست في حجم دولة عظمى لكنها ليست دولة قزمية تائهة بين البلاد.

 

- المجال "الحيوي" لحدود الوطن خلال الفترات التاريخية التي تفوق فيها الوطن على البلاد المجاورة. في حالة مصر مثلا فإن التفوق جاء في عصور بناء دولة قوية سابقة على غيرها من الشعوب في الحداثة والفنون والإدارة، وكانت أكثر فترات قوتها حين بنت دولة إقليمية امتدت من الشام أو جنوب تركيا إلى منابع النيل (القوة الصلبة)، أو حين نشرت التعليم والثقافة في نفس الإقليم من دون اشتباك وحرب (القوة الناعمة). هنا ينتقل الجغرافي من مستوى المحلي أو الوطني إلى "القومي" معتبرا أن الشعوب التي دانت لبلاده او تأثرت بها في وقت ما هي جزء من مشروعه "القومي".

 

- عهود خضوع الوطن للاستعمار والاحتلال والإذلال، وعادة ما ستكون الدول التي استعمرت مصر هي أكثر البلاد التي يشعر تجاهها هذا الجغرافي بموقف رافض، وفي التاريخ القديم فإن "فارس" أذلت مصر وقت الاحتلال، كما أن تركيا العثمانية وإنجلترا الأوربية فعلتا ذلك. وستكون هذه الدول أكثر الدولة ذات الحساسية السلبية تجاه أي جغرافي يضع نفسه في خانة الجغرافي القومي. ولولا تقديس حمدان لفكرة القومية العربية لسار على نهج من سبقوه معتبرين أن الغزو العربي لمصر كان وبالا على هويتها.

 

الجغرافي القومي إذن لا يمكن أن يقبل بفكرة الخلافة الإسلامية لأسباب عديدة أولها أن الخلافة ستعطي شرعية لدولة المهد الإسلامي وهي شبه الجزيرة العربية بالمعنى الجغرافي أو السعودية بالمعنى السياسي.

 

الجغرافي ذو المشروع القومي (وكل قومية فيها تحيز وتعصب) لن يرى في مصر حصان رهان في فكرة الخلافة، مصر ليست مركزا دينيا إسلاميا، بل هي محطة عبور في انتشار فكرة الإسلام.

 

وإذا استخدمنا مصطلحات علماء الاستشراق فإن لدى مصر نسخة من "الإسلام المصري"، هذه النسخة لا تعجب الدول السلفية في المركز العربي التقليدي ولا تراها إسلاما صحيحا.

 

وفي المقابل فإن النسخة المصرية من الإسلام غير مفتونة بالمرة بقوقعة الصحراء، الإسلام المصري محب لعالم البحر المتوسط ومفتون به، كما أن هذه النسخة من الإسلام المصري (بتعبير المستشرقين) استمدت أهم عناصر تميزها من أساطير وعقائد نهر النيل وهي العقائد التي تراها السلفية الإسلامية عناصر من موروثات الوثنية القديمة ومصادر هرطقة .

 

باختصار ليس في الإسلام المصري ذلك التعصب والشدة الذي يضمن لها أن تكون قائدة لعالم إسلامي او زعيمة لمركز خلافة مترامية الأطراف، فأي جغرافي قومي إذن سيكتشف بكل سهولة أن الخلافة الإسلامية لا تضمن لمصر أية زعامة، ولو كان جمال حمدان يضمن أن قدرات مصر الإسلامية تضمن لها القيادة والزعامة لوقف خلف هذه الفكرة ودافع عنها بكل ما تمكن من صياغة الحجج وتدشينها بطريقة بالغة البراعة.

 

الجغرافي القومي إذن مهموم دوما بالزعامة، ومشغول دوما بوضع بلاده في الصدارة، وأن تكون لبلاده الكلمة الأولى واليد العليا. وفي ستينيات القرن العشرين لم يكن لمصر نصيب من الزعامة إلا من بوابة القومية العربية الواسعة المشحونة على طبول المواجهة مع اليهود في فلسطين الذين جاءوا بثنائية قومية دينية في آن. وهي نفس الفترة التي تأججت فيها المشاعر القومية للثورة على الإمبراطورية العثمانية.

 

(2)             عن أية حدود قومية نتحدث؟

 

من أسفٍ أن الجغرافي القومي يحمل في طيات مشروعه عناصر تناقضه ومقومات تفكيك نظريته. فلو سألنا الجغرافي القومي ما هي حدود "الوحدة القومية" التي تتحدث عنها فسنجده يقصرها على مجال محدود للغاية يشمل مصر والنيل والشام، وقد يرضى بانضمام ليبيا والسعودية شريطة أن يكون دورهما تمويليا تابعا لا مشاركا أو منازعا، ولو رضي بانضمام العراق فلابد أن تكون العراق تابعة لمصر أو في أفضل حال شريكة بمقدار الثلث وليس النصف.

 

الجغرافي القومي قد يرفع شعار الوحدة العربية لكنه لا يستطيع أن يحدثنا عن انضمام موريتانيا لمشروعه، أو اهتمامه بموقف العروبة في تشاد، أو الهوية القومية والعروبة في عُمان أو الكويت، وهو غير قادر على فهم صياغة نظرية تضمن انضمام المغرب العربي بكل كرنفال هويته ومهرجان مغربة وجزائره إلى هذه القومية ذات النزعة المركزية في مصر الشام.

 

الجغرافي القومي يحدثنا عن القومية العربية والوحدة العربية حديثا نظريا بحتا غير قابل للتطبيق، وإذا ضرب لنا أمثلة فإن التطبيق لا يتجاوز خريطة الإمبراطورية المصرية القديمة في أوج اتساعها من الشام شمالا إلى السودان ومنابع النيل جنوبا.

 

يقع الجغرافي القومي في نفس الخطأ الذي يقع فيه الجغرافي الذي ينادي بالخلافة الإسلامية، فكل منهما يقدم لنا خطبة عصماء في الوحدة، وهذه الوحدة في الحقيقة والتطبيق أمر بعيد المنال، مستحيل التطبيق، وكل ما يمكن أن يحققه كل منهما لا يتجاوز تدشين "حجج منطقية رائعة بلغة رنانة ووعود مدهشة للإخاء والتعايش والتكتل والتآزر ومواجهة المصير المشترك"، أي تدشين بناء بلاغي عظيم الإحكام من الصياغة النظرية والإبداع الأدبي.

 

(3)             الذات والموضوع

 

لا يمكن فصل الذات عن الموضوع في رؤية الجغرافي الإسلامي والجغرافي القومي. يتربى الجغرافي الإسلامي على مفاهيم المجتمع الحاضن، والفرقة الضامة، والجماعة الحامية، ويتدرب على التفكير المشترك أو الاستماع للأوامر الإرشادية أو الأبوية، الجغرافي القومي قد يعيش مرحلة شبيهة في التنظيمات القومية لكن المدهش أن لدينا حالة مثل حالة المفكر العبقري جمال حمدان التي لم يشترك فيها في أي عمل جماعي، ولم يكن عضوا في أي تنظيم قومي أو وحدودي، ولم يشترك في أي عمل يمكن توصيفه بأنه عمل أثقلته التجربة الفعلية على الأرض.

 

صاغ حمدان نظرية عظيمة تتفق في جزء منها مع عظمة شخصيته وهي "التفرد" والـ "الأحادية" والعمل "الفردي" و"العزلة" و"الخلوة المثمرة"، تلك الخلوة التي تبعد عن غوغاء وصداع "الجماعة" الإنسانية المحيطة به، وتتحرر من التزاماتها، وتفكر بشكل حر طليق مفرد، ولكنه تفكير غير قابل للاختبار، تفكير محلق في السماء، لا يمكن اختباره ويصعب رفض حججه محكمة الحبكة المنطقية.

 

لو تأملت في أعظم أعمال جمال حمدان ستجد كتابه الموسوعي عن شخصية مصر وهو عزف منفرد في تقديس الوطن، الوطن بحدوده الضيقة وليس القومية العربية التي فشلت فشلا ذريعا في عهد السادات وأوائل عهد مبارك حين ظهر الجزء الرابع والأخير من موسوعته.

 

وإذا كان حمدان قد شن في نهاية الستينيات وأوائل السبعينيات هجوما كاسحا على "الضلال المبين" لفكرة الخلافة الإسلامية وقدم مديحا عظيما في فكرة القومية إلا أنه لم يعترف في أي كتاب جديد بهزيمة الفكر القومي.

 

جمال حمدان لا يعترف بخطأ النظرية أو فشل تطبيقها ولا يحدثنا عن مراجعة نظرياته، فلديه أحكام نهائية وأجوبة قاطعة يطلقها كرصاصات مضيئة في عتمة الليل ..ثم لا يعود إلى نقاشها لاحقا.

 

وإذا كان حمدان تحاشى تأليف كتاب عن فشل المشروع القومي إلا أنه قدم اعترافا في صيغة غير مباشرة وهي عزفه المنفرد وسيمفونيته الرباعية الكبرى في أربعة آلاف صفحة عن المشروع "الوطني" المصري المسمى "شخصية مصر..دراسة في عبقرية المكان".

 

هنا يظن البعض أنه يقدم مديحا متصلا في الوطن ويصنع منه قدس الأقداس حتى أن الأمر ليعجب بعض المفتونين بحمدان ويصفونه وصفا ركيكا مسكينا حين يقولون "عاشق الوطن الذي جعل مصر معشوقته!".

 

الذين قرأوا جمال حمدان بتركيز وتمهل سيعثرون حتى في شخصية مصر على بعض سطور "أفلتت منه" كتبها بعد انتهاء المشروع يكاد يبكي فيها المداد على تراجع المشروع "الوطني".

 

لا يضع حمدان تهمة فشل المشروع الوطني في عنق الحاكم وحده بل تفلت منه واحدة من المرات النادرة التي تصيبه فيها روح اليأس من الشعب المصري فيقول إن "أفضل عقاب لهذا الشعب ما هو فيه" !

 

هل يعني هذا أنه لو امتدت الأعمار بجمال حمدان لانتقد المشروع القومي، ثم المشروع الوطني؟

 

هل يعني هذا أن الرجل منذ عام 1984 وهو تاريخ آخر ما خطت يداه وحتى عام 1993 تاريخ وفاته كان يتأمل ويتدبر فقط ويعيد التفكير في المشروع كله في حقبة جديدة إبان عهد مبارك وبعد اغتيال السادات؟

 

درس حمدان الجغرافيا على يد معلمين أجانب ومصريين في نهاية أربعينيات القرن العشرين في جامعة القاهرة، ثم سافر لبعثة إلى انجلترا تلقى فيها أسسه الفكرية الرئيسة وهناك تعرف على كتاب كيريل فوكس "شخصية بريطانيا"، وحين عاد إلى مصر كانت مصر قد حصلت للتو على استقلالها وتطرد الملكية.

 

لم نقرا أي شيء لحمدان يهاجم فيه الملكية وهذا أمر فريد مدهش أيضا، على أية حال لم يضع حمدان وقته بعد البعثة فسرعان ما تبنى لغة العصر، في تلك الفترة كان التحرر عن الاستعمار هو "روح العصر:" فكتب حمدان بحوثه الشهيرة عن "استراتيحية الاستعمار والتحرير" ثم "العالم الإسلامي المعاصر" و"بترول العرب": و "قناة السويس" و "فلسطين" .

 

(4)             هل حقا فلسطين قضية عربية؟

 

بعد أن شن حمدان هجومه الكاسح على فكرة الخلافة وقدم مديحا لفكرة القومية إذ به يقع في تناقض مدهش كثيرا ما يقع فيه كل من يروج لفكرة عاطفية حتى لو استخدم فيها المنهج العلمي.

 

ينصحنا حمدان أن نعتبر قضية فلسطين قضيتنا الكبرى للوحدة العربية، ويقول لنا إنه بغض النظر أن إسرائيل تعتبر نفسها دولة دينية إلا أننا يجب أن نبقي فلسطين قضية عربية قومية!!.

 

الحقيقة ان اهتمام حمدان بفلسطين هو اهتمام براغماتي بحت بمصر، اهتمام غارق في الهوية الوطنية المصرية ومحور قوتها وضعفها، ولو كانت فلسطين عند الجزائر أو عند اليمن وعُمان او قرب تشاد ما دعانا حمدان لأن نعتبرها قضيتنا الكبرى ولبحث عن قضية مصرية مصيرية أخرى.

 

هذه هي طبيعة المفكر القومي ولا يوجد كاتب أو مفكر متحرر تماما عن الأيديولجيا، ولا يوجد كاتب أو مفكر حر طليق من التحيزات.

ولا يجب أن يزعجنا ذلك، فعلى الجانب الآخر لو نزعنا العقائد من الكتاب والمفكرين لأصبحنا أمام كائنات آلية تحفظ الأرقام والجداول والإحصاءات وتعيش 50 سنة تؤلف بحوثا لا يهتم بها أحد ولا يسمع بها أحد، يكسبون أموالا طيبة ويعيشون حياة هادئة وهم حولنا الآن كثر وهم الأغلبية الكاسحة من المنخرطين في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

-----

تجاوزت اليوم 1400 كلمة في سابقة من نوعها على صفحتي، سأتوقف هنا وأعود لإكمال القصة في مقالات مقبلة بإذن الله.

 


هل كان حمدان على صواب حين قال لا للخلافة نعم للقومية ؟

إرسال تعليق

0 تعليقات