بقلم/ علي أبوالخير
من السير الشعبية المشهورة والمنتشرة في مصر، سيرة الظاهر بيبرس أو
السيرة الظاهرية نسبة للملك الظاهر بيبرس البندقداري، رابع سلاطين المماليك في مصر
والشام، وتم تخليد السيرة في أعمال درامية إذاعية وتليفزيونية في مصر وسوريا، كما
يوجد حي كامل كبير في وسط القاهرة اسمه حي الضاهر، نسبة إلى الظاهر بيبرس، وتم
تحوير حرف الظاء إلى ضاد لسهولة النقل الشعبي المتواتر.
ولا غرابة في ذلك، لأن الضمير الشعبي المصري له خصوصية في تكريم من
يراهم أبطاله، يضفي علي السيرة هالات من البطولة الخيالية، والقداسة المعنوية،
وليس من قبيل المصادفة أن لا نجد من يسمّي أولاده معاوية أو يزيد، ولكنهم يسمون
محمدا وعليا ومصطفى وطه وزينب ونفيسة ورقية وزهراء وفاطمة، كما يسمون حسنا وحسينا
بل وحسنين ليشمل الحسن والحسين عليهما السلام، وهم يكرمون الأولياء الصالحين
ويزورون ويتبركون بأضرحة ومراقد أهل بيت النبي في مصر ... السيدة زينب والسيدة
نفيسة وأم الغلام والسيدة رقية وغيرهم كثيرون وقبلهم الإمام الحسين عليهم السلام
جميعا، ولكن المصريين لا يتبركون على سبيل المثال بقبور محمد علي وأولاده من
الملوك المدفونين في جامع الرفاعي بجوار القلعة بالقاهرة.
وللمصريين في ذلك مقاييس شعبية روحية، ينحازون لمن يروه بسيطا
قريبا منهم، لو حقق قدرا من العدالة الاجتماعية، فنراهم حتى الآن يرفعون صور
الرئيس جمال عبد الناصر ويزورون قبره كل عام، لأنهم يرونه بسيطا لم يتربح من حكمه،
وتصدى للاستعمار وكفل عدالة اجتماعية، فهو بطل بالنية الحسنة والسلوك القويم،
وينسون الرئيس أنور السادات، لأنه جاء برأسمالية الأغنياء، وتلك مقاييس شعبية
اقتصادية قبل أن تكون دينية أو اجتماعية...
بهذه المقاييس خلّد المصريون الظاهر بيبرس دون صلاح الدين، صلاح
الدين الأيوبي بطل معركة حطين ونموذج الانتصار الذي يستدعيه المسلمون جميعا ليقوم
مثيله باستلهام روحه فينتصر على الغرب، يظل صلاح الدين بطلا حربيا قادرا على
الانتصار، ولكنه مهزوم في السلام..
في الوجدان الشعبي، تناساه المصريون تماما، وفي نفس الوقت خلّدوا
الظاهر بيبرس، فكتبوا سيرته، وتغنوا بها، اختلط فيها الخيال بالحقيقة، جعلوا من
بيبرس نموذجا فريدا في البطولة، ذهب ماشيا إلى غالبية دول الإسلام، رحل شمالا
للبحر المتوسط، ووصل للجزر البريطانية، في ملحمة وصل عدد صفحاتها 16 ألف صفحة
مكتوبة باللهجة المصرية بخيال خصب، وتتخلل السيرة أشعار وأزجال وأمثال شعبية
وعبارات دينية، غنّاها الزجّالون في الموالد والمقاهي القاهرية، فجذبت آذان جمهور
المستمعين، حتى وصلت إلينا، كل هذا حدث للظاهر بيبرس، رغم أنه قتل سيف الدين قطز،
قاهر المغول في عين جالوت.
فلماذا حدث ذلك، ولم يحدث لصلاح الدين، بل جاءت أمثال تحط من
الأيوبيين بصفة عامة، مثل "آخره الغز علقة"، والغز هم الغزاة، والعلقة
بفتح العين وسكون اللام وفتح القاف يعني الضرب الشديد، والغز هم الأتراك والأكراد،
وسخروا من وزير صلاح الدين، الخصي (المخنث) بهاء الدين قراقوش، واتخذوا من اسمه
لعبة الأراجوز الشهيرة، التي انثرت مع تنامي وسائل الاتصال الحديث، وقد أُلف
الأسعد بن مماتي كتاب "الفاشوش في أحكام وحكايات قراقوش "، سخر فيه من
قراقوش ومن كل الأيوبيين بمن فيهم صلاح الدين.
وهذا تبدو المقارنة بين تخليد سيرة بيبرس، وتجاوز سيرة صلاح
الدين.. فما الأسباب ؟
عند البحث عن الأسباب في تلك المقارنة التاريخية، نجد أن المصريين
رأوا في شخص صلاح الدين البطل المنتصر في الخارج، القاتل في الداخل، كرموه عسكريا،
وتجاهلوه وأدانوه شعبيا.
صلاح الدين قتل من المصريين الآلاف عندما قضى على الدولة الفاطمية،
التي كانت تُعرف بالدولة المصرية، ففي ثورة مدينة قفط بصعيد مصر، أرسل صلاح الدين
أخاه العادل على جيش فقتل من أهلها ثلاثة آلاف وصلبهم على شجرها بعمائمهم
وطيالسينهم، كما جاء في تاريخ ابن تغري بردي، ويروي شهاب الدين المقدسي في كتابه
الروضتين في أخبار الدولتين: " اجتمع جماعة من دعاة الدولة المصرية(يقصدون
الدولة الفاطمية) وتزاوروا فيما بينهم خيفة وخفية وأحكموا الرأي والتدبير وتبيتوا
أمرهم بليل، وبعد أن أوشى بهم زين الدين علي، أمر السلطان بإحضار مقدميهم
واعتقالهم لإقامة السياسة فيهم، وصلب يوم السبت ثاني شهر رمضان جماعة منهم في حي
"بين القصرين" منهم عمارة اليمني، وأفنى بعد ذلك من بقي منهم.
قال ابن الأثير في كتابه الكامل فى التاريخ " إنّ صلاح الدين
أحرق وخرّب ونهب هو وجنوده المدن التالية : عسقلان، الكرك وشوبك وطبرية، وأرسل إلى
ولده الأفضل يأمره أنْ يُرسل قطعة صالحة من الجيش إلى بلدة عكا، ينهبونه
ويُخرّبونه، ونهب جنود صلاح الدين ما جاورهم من البلاد، وغنموا وسبوا وعادوا
سالمين " .
وصادر صلاح الدين أراضي المصريين ووزعها على أسرته، فأفقر
المصريين، وصاروا مزارعين بعد طردهم من أراضيهم، وكان الفاطميون ملّكوا الأراضي
للشعب، قال المؤرخ المقريزى "وأما ما كان في أيام صلاح الدين إلى أيامنا هذه
فإنّ أراضى مصر كلها صارت تُقطع للسلطان وأمراؤه وأجناده، مصداق ذلك إقطاعه أباه
الإسكندرية ودمياط والبحيرة، كما أقطع أخاه شمس الدين توران شاه قوص وعيذاب، وأقطع
أخاه العادل حلب والكرك والشوبك والبلقاء فضلا عن بعض قرى مصر، وأقطع أبناء عمه
أملاكهم من أبيهم أسد الدين شيركوه، فكانت الفيوم لهم، ووزعت باقي الأراضي على
القوّاد وباقي الأمراء".
وعندما أنهي الدولة الفاطمية، اضطهد الشيعة والأحناف والحنابلة
والمتصوفة، وظل الجامع الأزهر مغلقا مهملا طوال العصر الأيوبي، كما قتل الفلاسفة،
منهم الفيلسوف الصوفي شهاب الدين السهروردي، بتهمة الزندقة، وهي أسهل تهمة قُتل
الفلاسفة، فضلا عن قيامه بحرق المكتبة العالمية الفاطمية، وجعل من أغلفة الكتب
أحذية للجنود، مما أثار بغضاء النخبة والعوام جميعا.
ظل صلاح الدين يحارب المصريين ثلاثة عشر عاما منذ استقلاله بمصر
بعد وفاة نور الدين محمود عام 1174 وحتى خروجه لمعركة حطين عام 1187، حتى قال عن
نفسه كما روى ابن الأثير في كتابة التاريخي الكامل: "هيا بنا نناجز الفرنجة
لأنهم يقولون عنّا ليس له همُّ إلا قتل الإسلام وأهله".
غفر المصريون لصلاح الدين بعد انتصاره، ولكنهم لم ينسوا ما فعله
بهم، وخاصة أنه أفقرهم، وجعلهم خدما للأكراد والترك، فدخل هذا كله في اللاوعي
المصري الشعبي التلقائي، تناقلوه جيلا بعد جيل.
ويمكن القول إن مجرد إهمال سيرة صلاح الدين هو إدانة شعبية ودينية
له، رغم فيلم "الناصر صلاح الدين" المشهور بطولة الفنان أحمد مظهر،
والذي أنتج في فترة المد القومي في الستينيات بقيادة الرئيس عبد الناصر، والفيلم
في النهاية كان دعاية ودعوة للقومية العربية أكثر من مدح شخص صلاح الدين، هذا
بالإضافة إلى أن اسم "الناصر" أشتهر بعد الفيلم، واسمه الحقيق
"يوسف بن أيوب"، وجاء اسم الفيلم "الناصر" اسقاطا على الزعيم
"جمال عبد الناصر"
لكن المصريين جعلوا من الظاهر بيبرس أسطورة، رغم أنه كان مستبدا
كعادة كل الخلفاء والسلاطين والأمراء والرؤساء، ولكن من ضمن ما خلّده في الضمير
الشعبي المصري، أنه جعل من مصر مركزا للخلافة العباسية ولو أسميا فقط، بعد أن كانت
ولاية، وكانت نهاية الصليبيين والمغول في الشام على يد بيبرس ثم قلاوون وأبنائه،
وقبل ذلك كان لبيبرس الدور الأكبر في معركة "المنصورة"
ضد الصليبيين في الحملة السابعة عام 1250 ، وتم أسر الملك الفرنسي "لويس
التاسع" ومكث أسيرا في بت القاصي "فخر الدين بن لقمان" والذي مازال
متحفا للمدينة التاريخية "المنصورة"، ثم دوره في معركة "عين
جالوت" ضد المغول التتار، كان قائدا للجيش، ثم توالت انتصاراته على المغول
والفرنجة بعد توطيد حكمه .
وأحيا بيبرس التصوف، وسمح للسادة الأشراف من أهل بيت النبي من
الاستقرار في دولة المماليك في مصر والشام والحجاز واليمن يعد المطارات التي
شهدوها في العصرين الأموي والعباسي، فلا غرابة أن نجد معظم شيوخ أهل التصوف
والأشراف، جاؤوا من الغرب، وليس من الشرق الإسلامي، فجاء إليها خلال العصر
المملوكي من المغرب أبو الحسن الشاذلي والسيد أحمد البدوي والمرسي أبو العباس
والأباصيري ومحي الدين بن عربي وسيدي بشر وسيدي كرير وغيرهم كثيرون، استقروا في
مصر والشام، وجعل المماليك لهم الزوايا والتكايا، وأجروا عليهم الأرزاق.
كما عاش الشعب في بحبوحة اقتصادية نسبية، ولم يضطهد العلماء ولا
الأشراف، ولم يقتص من سلطان العلماء العز الدين بن عبد السلام، وهو الذي أصر على
بيعه مع غيره من المماليك في آخر العصر الأيوبي، بل جعله مستشاره، رغم أنه قال بعد
موت العز : "الآن استقر ملكي "، كناية عن شده معارضة العز له، واحتمال
بيبرس ذلك منه.
كما شهد عهده نهضة معمارية وتعليمية كبيرة، فقد أنشأ العديد من
المدارس في مصر ودمشق، وأعاد افتتاح الجامع الأزهر، وبرز المعمار المصري في العصر
المملوكي مثل جامع السلطان حسن وسبيل برقوق ومئذنة الغوري للجامع الأزهر، وظلت
الدولة المصرية تعيش في ثراء، فكانت تحصّل المكوس والضرائب على البضاعة القادمة من
أوروبا إلى الهند، وبالعكس، لكل ذلك حمد المصريون لبيبرس جهوده فخلدوه، وصارت
سيرته تّروي في الشوارع والساحات، واشتهر مثل السير الشعبية الأخرى، مثل السيرة
الهلالية، أو سيرة بني هلال وسيرة سيف بن ذي يزن.
وفي النهاية نجد أن ضمير الشعوب ينحاز للحاكم حتى لو استبد إذا
تحقق نوع من العدالة والتكافل، ونوع من الحرية، وهو لم يتحقق مع صلاح الدين
خلفائه، الذين توارثوا العرش الأيوبي، وأفقروا مصر فالتاريخ يعلمنا أن الفقر يجلب
النقد والحقد، إن لم يجلب الثورة.
هذا في الوقت الذين لم يوّرث الظاهر بيبرس الملك لأحد من أسرته.
والنظام المملوكي بصفة عامة له سمة خصوصية لا مجال لذكرها الآن، ،
ولكن أيضا عدم توريث بيبرس لذريته الملك، جاء ليصب في حب المصريين له وتخليد سيرته
.
إن ضمير الشعوب عادة لا يخطئ حتى لو طال الزمان وتغير المكان ..
0 تعليقات