إعداد وكتابة: ناصر سعد
و/ رأفت رضا أحمد
يتَّفق جميع أو مُعظم عُلماء الوقت الحالي على أنّ الكتابة تمّ
اختراعها بشكل مُستقلّ في أربعة أزمنة وأماكن مُختلفة على الأقلّ؛ بأرض مصر، وأرض
سومر، والصين، وأمريكا الوسطى، بمعنى أنّ المناطق الأربعة هذه لم تؤثّر ولم تتأثّر
ببعضها أبداً في الطابـع اللغوي والكـتابي البدائي، ومن بـين أنظمة الكتابة
الأصليّة هذه، تُـعتبر المـصريّة والسـومريّة هُما أقـدم الأنظمة الكتابيّة
المعروفة بالعالم، ومن المُحتمل جداً أنّ جميع أنظمة الكتابة الأُخرى اللاحقة إمّا
مُشتقّة، أو مستوحاة من الأنظمة الأربعة هذه، والهيروغليفيّة-السينائيّة مِثال على
ذلك، حيث اشتقّت الأبجديّة الفينيقيّة من الهيروغليفيّة المصريّة بشكل مُباشر،
ورُبّما تُجبرنا الأبحاث المُستقبليّة على زيادة أو تقليل هذا الرقم -أي الأربعة
أنظمة الكتابيّة المعروفة- إذ لا يتمّ حالياً إدراج نصّ هارابان الغير مُفكّك
لحضارة وادي السِند (منتصف الألفية الثالثة قبل الميلاد) نظراً لوضعه كنظام
كِتابة، هل كان مُستقلّ، أم تأثّر بالكتابة المسمارية لبلاد الرافدين، فهذا غير
مؤكّد إلى اليوم.
-
لطالما كانت ولا زالت أيـضاً نَشـأة الكِـتابة المـصريّة القديمة
محلّ جدل لدى المُـتخصّصين، ولسـنوات طَـويلة تناقل بين العُلماء فِكرة تأثير بلاد
ما بَـين النـهرين في الخطّ المُسماريّ السومريّ على الخطّ الهيروغليفيّ والكتابة
المصريّة القديمة بشكل عام، وأنّ الكتابة السومريّة انتقلت إلى مصر القديمة، وبُني
هذا الاعتقاد بدون أدلّة أركيولوچيّة، لكِنَّها كانت مُجرّد فِكرة توصّلوا إليها
من خلال أقدم الأدلّة الكتابيّة التي كانت وقتها مُكتشفة، وهي الكتابات السومريّة
البدائيّة في مراحل نضوجها الأولى، حيث لم يكُن هناك أدلّة كتابيّة أخرى تُعتبر
أقدم من الأدلّة التي اُكتشفت في بلاد الرافدين.
-
توارث هذا الاعـتقاد بين القارئين مُعـتمدين على الدراسات،
والاكتشافـات القديمة، وأيـضاً على كتابات العُلماء الآثاريّين بكتبهم القديمة،
ولكن عِلم الآثار عند الأكاديميّين، يُعتبر عِلم مُتجدّد الاكتشافات والدراسـات
والأبحاث العلميّة، فلا يبقى الحال كما هو عليه، فإن تمّ العثور على أثراً ما يدلّ
على أنّه الأقدم من نوعه، ليس بالضرورة أو بالإجزام أبداً أنّه سيظلّ الأقدم، فكما
أسلفنا، عِلم الآثار، هو عِلم مُتجدّد الاكتشافات، والدراسات، والتحاليل، والأبحاث
العلميّة لدى المُتخصّصين.
-
اعتمدنا في هذا البحث والمـقال على عِدّة مراجع، من بينها، أحد
أفضل المراجع الأكاديميّة للمُتخصّصين في عِلم اللُغات: Visible Language: Inventions of Writing
in the Ancient Middle East and Beyond ..
هذا المَرجع الهام صـادر عن جـامعة شيكاغو الأمريكيّة، أول إصدار
منه كان في عـام 2010، ثُمّ أُعيد طباعته من جديد في عام 2015، مـع تصـحيحات
وإضافات طفيفة، وقد قام بكتابة هـذا المَـرجع، البروفـيسور كريـستوفر وودز بمشاركة
نُخبة من الأسَـاتذة في عِلم الآثـار، والـبروفيسور كريستوفر وودز، هو أستاذ في
العِلم والكـتابة السومريّة، ومدير المعهد الشرقي للأبحاث، وحالياً مدير متحف
الآثار والأنثروبولوجيا بجامعة بنسلفانيا.
-
تسبَّبت وسـائل التواصل الاجتماعي في حُريّة النشر والآراء، لكن
يستخدم البعض هذه الحُريّة في نشر معلومات مغلوطة، الهدف منها، هو محاولة تشوية
تاريخ حضارة للرفع من قيمة وشأن تاريخ حضارة أُخرى، ومن بين الأمور التي تُثير
الجدل، هو اختراع الكتابة، الذي يعتـبره بعد الأخوة بالعراق احتكاراً للحضارة
السومريّة، وأنّ الحرف الأوّل انطلق من هناك لجميع الشعوب والحـضارات، وهـو أساساً
ما يرفـضه العقل البشري، ناهيك عن رفض العِلم الأكاديمي لهذه الإدّعاءات التي
لطالما انتشرت فقط بـوسائل التـواصل الاجتماعي، وبعض المواقع الموجودة على
مُحرّكات البحث العاديّة، والويكيبيديا.
وفي مقالنا المتواضع هذا سنردّ على هذه الإدّعاءات بدون تجريح
لأحد، كما يفعل البعض في مُقارناتهم الساذجة.
-
مُنذ بداية عام 1988م، تـغيّـرت مفاهيم أصول الكتابة لدى
المُتخصّصين، وأُعيدت صَفـحات التاريخ من جديد بكتبهم، وهي السنـة التي اكتـشف
عـالم الآثار الألماني چونتر دراير فيها عن مقبرة أم الجعـاب بجبّانة أبيدوس في
مصر، ولم تتسبّب هذه المقبرة فقط بتغيير مفاهيم أصول الكتابة لدى الآثاريّين، بل
أيضـاً في إعادة صياغة وكتابة سطور جديدة بالتاريخ المصري القديم في عصر ما قبل
التوحيد.
يقـول البروفيـسور كريسـتـوفر وودز أسـتاذ العِلـم السومري
والكِتابة السومريّة: «ومع الاكتشافات الحديثة من أبـيدوس في صعيد مصر، والتي قد
لا تتحدّى فقط أولويّة الكتابة في بلاد ما بين النهرين، بل إنّها أيضاً -تهدم- الافتراضات
الشائعة حول أصول وتطوّر الكتابة، والتـي أيضاً قد أرجأت التاريخ الكتابي في مصر،
وقَضَت على الافتراض القديم القائل بأنّ الكِتابة نشأت في مصـر تحـت تأثيـر
السومريّين».
-
قبل اكتشاف مَـقبرة أم الجعـاب في الـسنة المذكورة، كان الشائع عند
الأكاديميّين في أبحاثهم أنّ أقدم الأدلّة الكتابيّة التي تمّ العثور عليها وجدت
في بلاد الرافدين، تحديداً في مدينتيّ أوروك وكيش (تنقيبات 1912-1939)، حيث وجد أثناء
هذه التنقيبات أقدم الكتابات البدائيّة في بلاد ما بين النهرين (السومريّة) خاصّة،
وفي العـالم عامّة آنذاك، وعلى الأرجح أقدم هذه الألواح، هو المعروف باسم (لوح
كيش)، حيث يؤرّخ إلى ما بين عامي (3300-3100 قبل الميلاد)، والنسخة الأصليّة لهذا
اللوح كان يُحفظ بالعراق، ولكن لم يُعرف عنه شيء بعد هجمـات جـماعة داعِـ.ـش على
آثار ومتاحف العراق، ولحُسن الحظّ ان اللوح كان قد صُنع منه نسختين؛ إحدهما بمتحف
أشموليان بإنجلترا، والأخرى في المتحف البريطاني، ويحمل رقم: 1924,0616.1، والبعض
يؤرّخه إلى سنة 3200 ق.م، حيث أنّ التأريخ الكربوني لا يستطيع أن يُحدّد تاريخ
دقيق وثابت، لذا هو غير معروف على وجه التحديد ما هو التأريخ الدقيق لهذا اللوح،
كما أنّ الأكاديميّين لا يعتمدون عليه بأهميّة كدور في نشوء الخطّ المُسماري،
نظراً لأن الرموز التي نُقشت لم تدخُل في عمليّة نشوء الخطّ المسماري وحـروف
الكتـابة السـومريّة اللاحقة، لكن يُشير اللوح على الأرجح إلى استخدام الأرقام.
-
وبحسب علماء الآثار، فإنّ أقدم لوح من بلاد الرافدين يُعتقد أنّه
يُمثّل الكتابة يرجع إلى عام 3200 قبل الميلاد، وهو لوح من فترة أوروك الرابعة،
ويتكوّن اللوح من بضع علامات فقط لا تحتوي على كلمات واضحة وصـريحة يُمكن تفسيرها،
لكن العلماء رجّحوا أن اللوح رُبّما لـه عـلاقة بتجارة بضاعة ما، أمّا أقدم
الألواح التي وجدت في بلاد الرافدين التي احتوت على كلمات كاملة وحروف دخلت في
المسمارية، والتي قد مكّنت العلماء من تفسيرها، فهي ترجع إلى عام 3100 قَبل
الميلاد، وبحسب العالم كريسـتوفر وودز، فـإنّ هـذه الألواح تتحدّث عن إحصاء عدد
العَـبيد المملوكـين لشخصً ما، وعن خدمة مجموعة من العَبيد لعائلة ما.
-
على الجانب الآخر، وبحسب العُلماء المُتخـصّصين، فإن أقدم مؤشّرات
للكتابة المصريّة –بطريقة غير مُباشرة– فهي ترجع لفترة نقادة الأولى (3750-3500
قبـل الميلاد)، وأبرز الأمثلة على ذلك، تقع بالصحراء الشرقيّة على طول الطرق
الرئيسيّة المؤدّية إلى البحر الأحمر (مثل وادي الحمامات)، وبالصحراء الغربـيّة
على طـول الطُرق البـرية المُـهمة (مـثل طريق طيبة الصحراوي).
-
أمّا أقدم الكتابات المصريّة المعروفة، والتي تمّ تفسيرها من قِبَل
العُلماء، والتي دخلت مباشرة في الكتابة الهيروغليفيّة، فهي التي اُكتشفت عام 1988
بمقبرة أم الجعاب بأبيدوس، والمعروفة أكاديميّا برقم (Tomb U-J)، وتعدّ هذه المقبرة هي الأكبر من نوعها في
عـصر ما قبل الأسرات المـصريّة، ورُبّما بالعالم القديم في ذلك الـوقت، وهي مقـبرة
مستقيمة بُنيت من الطوب اللَبِن بها 12 غُرفة مُتّـصلة ببعـضها البعض، وقد ظلّت
المقبرة واقعت تحت الدراسة لـ10 سنوات تقريباً، قبل أن يُعلن عن تفاصيلها كاملة
مُكتشفها چونتر دراير في نشره عام 1998 الذي حمل اسم:
Umm el-Qaab - Dreyer, Hartung, and
Pumpenmeier 1998.
وبنـفس السنة يوم 19 ديـسمبر 1998 في تصريحات خاصّة لهم بعد أن أدلى
بها چونتر دراير، أعلنت مجلّة نيويورك تايمز: «إكتشاف نقوش تُشير إلى أنّ
المصريّين قد يكونون أوّل من يكتب».
-
بعد هذا الإعلان وهذا الاكتشاف التاريخي، تغيّرت الكثير من مفاهيم
أصول الكتابة القديمة وأُعيدت صياغتها وترتيبها من جديد، لأن ما تمّ العثور عليه قد
-هدم- لكثير من الآثاريّين كُل أفكارهم وافتراضاتهم القديمة، حيث وجد بالمقبرة
العديد من الآثار المُختلفة التي احتوت على أولى النصوص الكتابية في مصر القديمة،
والتي تم تأريخها في الدراسات الأكاديميّة إلى عام 3320 قبل الميلاد، وتعدّ هذه
النصوص أقدم كلمات يمكن قراءتها في تاريخ مصر، وفي تاريخ العالم على الأرجح أيضاً،
إذ تعد أقدم كلمات واضحة يُمكن قراءتها وتفسيرها من بلاد ما بين النهرين ترجع إلى
عام 3100 قبل الميلاد كما أسلفنا.
-
ورُبّما وبحسب عُلماء الآثـار تكـون أوّل إرهـاصات كتابية في مصر
قد دخلت في الهيروغليفية ترجع إلى قبل ذلك بقرون، وتحديداً في عام 3600 قبل
الميلاد، حيث في المقبرة رقم 1610 بجبّانة نقـادة، وجـد السير فلنـدرز بيتري كسرة
فُخّار من جرّة من النوع ذي القمة السوداء، ونُقش عليها رمز التاج الأحمر 𓋔 (علامـة: ن) بالهيروغليفـيّة، وهـي إحـدى
التيجان التي ترمز إلى الملكيّة المصريّة، وتُحفـظ هذه القطعة تحت كود رقم: AN1895.795، بمتحف أشموليان، أكسفورد، فإنّ وجود هذا
النقش الذي يُمثّل التاج الأحمر (دشرت) في هذا الزمن المُبكّر من عصر ما قبل
الأسرات له دلالتان: الأوّل أنّ رموز الملكية المصريّة وأصولها تعود إلى بدايات
نقادة الأولى على أقلّ تقدير، وأنّ هذا الرّمز نفسه بلا شك كان مُستخدماً لتعريف
الحاكم/الملك، وهو هنا يستخدم رمزيّاً للإشارة إلى التاج كبداية مُبكّرة
للهيروغليفيّة، ودلالة على وجود عصر ملكي حقيقي قبل الزمن الذي كان مُتعارف عليها.
في القرون اللاحقة منذ بدايات ظهـور الكتابة المصريّة، بدأ
المصريّين القدماء بالإهتمام بالكتابة، فاخترعوا مهنة للكَتَبة، وقد كانت أرقى
الأعمال التي قد يحصل عليها المصري بذلك العصر القديم، فكان المصري القديم يسعى
ليكون كاتباً سواء كاتب ملكي، أو إداري، أو غيـر ذلك، ودعى الكـاتب فى مصر القديمة
بلفظ (سغ)، وبلـفظ (سش)، ولم تـكُن مهنة مُقتصرة على الذكور فقط، فقد مارستها كذلك
الفتيات، وعلى الأرجح كانوا متميّزين في جميع عصورهم، حيث الوثائق الاشوريّة من
بلاد الرافدين تؤكّد ان البلاط الآشوري احتوى على كتبة مصريّين.
وعلى الأرجح فإنّ أقدم التماثيل التي تُمثّل السطرة والكَتبة في
العالم تأتي من مـصر القـديمة، من بينـهما تمثال الكاتب الجالس (2620-2500 قبل
الميلاد)، وتم تصنيفه من متحف اللوڤر على إنه من أفضل روائع المتحف الأربعين.
-
لاحقاً من عصر الملك نعرمر (3200-3150 ق.م)، بدأت بوادر النصوص المصريّة
القديمة توضح شيئاً فشيء، وظهور أسماء أشخاص على ألواح ونقوش مُختلفة، كما لأوّل
مرّة رُبما في التاريخ تظهر كلمة «الوزير» على صلاية الملك نعرمر، وظهور اسم الملك
على أكثر من أثر داخل مصر، وسيناء، وفلسطين، وهو مما لا شكّ فيه يدّل على أن مصر
في القرن الـ32 قبل الميلاد، كانت دولة مترامية الأطـراف من الجنوب بالصعيد (مسقط
رأس نعرمر) إلى غرب مصر (حيث انتصاره على القبائل اللوبية)، إلى وسط مصر (حيث
تأسيس العاصمة ممفيس)، إلى شمال مصر (حيث انتصاره على مملكة الشمال وإعلان
التوحيد)، وأخيراً إلى الشرق في سيناء وفلسطين، وهذا يدعم رواية الكاهن المصري
مانيتون الذي ذكر أنّ الملك نعرمر قد قام برحلة استكشافيّة أجنبيّة نال على إثرها
شهرة كبيرة.
-
وأخيراً يـأتي أقـدم دليل للكتابة الأبجـديّة في الـتاريخ من
الألفية الثانية قبل الميلاد في سيناء ومصر، وهي الأبجديّة التي عُرفت لدى الآثاريّين
باسم الأبجديّة السينائيّة الأوّلية، وأيضاً باسم الهيروغليفيّة-السينائيّة، والتي
اكتشـفها السير فليندرز بيتري عالم الآثار في عام 1905م، وهذه الأبجدية مُعظم
حروفها أو رموزها إن لم يكن كُلّها، تطوّرت وتأثّرت بالرموز الهيروغليفيّة
المصريّة (رُبّما الهيراطيقيّة)، كما ذكر العلماء، ومن هذه الأبجديّة
الهيروغليفيّة-السينائيّة انشقّت منها الأبجديّة الفينيقيّة، كما أنّ الأبجديّة
السينائية لم تكُن مستخدمة فقط في منـطقة سيناء، بل حدث اكتشاف آخر زلزل عالم
الأبجـديّات في عـام 1990م على يد عالم الآثار چون دارنيل، الاكتشاف كـان عِـبارة
عـن نـصّ كـتابي عُرف باسم (نصّ وادي الهول)، تمّ العثور عليه في الأقصر، يرجع
تاريخه إلى عام 1900 قبل الميلاد، وتم تسجيله بموسوعة چينيس على أنه أقدم نصّ
أبجديّ معروف في العالم.
ما ذُكر وتمّ توضيحه بهذا المـقال لا يـعني أن المصريّين هُم الذين
علّموا السـومريّون الكـتابة، فأنا شـخصيّاً أرفض ذلك، بالرغم من أقدميّـة الأدلّة
الأركيولوچيـة، إلّا إنّي أتفـق تماماً بدون شكّ أنّ الكتابة السومريّة والمـصريّة
قد تمّ اختراعهما في أزمنة مُتـقاربة، وبـدون أن يؤثّر إحـدهما على الآخر، بل
اُخترعت الكتـابة بشكل مُسـتقلّ كمـا أسلفنا في أول المقال، ونرجوا أنّ لا يقرأ
أحد هذا المـقال بعين واحدة، أو بعصبيّة، فكُلّ سطر هام ذُكر بالمقال، مبني على
أدلّة علميّة وأكاديميّة من مُتخصّصين في علم اللغات والآثار فالحضارة المصرية،
والحضارة السومريّة هُما أعظم حضارات العالم القديم.
0 تعليقات