آخر الأخبار

كتاب كل يوم جمعة : في فلسفة التاريخ (1/4) دراسة للتاريخ

 

 




 

د. وسام محمد عبده

غرة شعبان 1443 هـ

4 مارس 2022 مـ

 

 

في شبابي، كان التاريخ هو موضوعي المفضل، حتى كدت أن ألتحق بكلية الآداب رغبة في دراسة التاريخ، ثم اكتشفت أن ما يشدني لدراسة التاريخ هو ما كان يشدني لدراسة الرياضيات، الأنماط والسنن التي تختفي خلف الحوادث، وقادني هذا إلى بلاط صاحبة الجلالة الفلسفة، والتي عرفت يومئذ أنها مطلبي، ولكن بلاطها واسع، وإليه تختلف فروع المعرفة كلها، فكنت أجد سعادتي العقلية دائمًا في صحبة هؤلاء الذين يحاولون أن يكتشفوا تلك الفلسفة وراء حوادث التاريخ. وفي تلك الساعة من عمري ومن عصري، أجد العالم من حولي يضطرب حروبًا وثورات وأوبئة، بل تضطرب أفكاره، فيختلط العدل بالظلم، والحرية بالعبودية، والكبرياء بالخضوع، والديموقراطية بالفاشية، حتى ضاعت ملامح هذا العالم من حولي فبدا كأن ضباب ثقيل أحاط بي، فعدت إلى كتب فلسفة التاريخ، ألتمس فيها بعض سلوى وبعض عقل، فكان أول ما عدت إليه هذا السفر الجليل الموسوم بالاسم المتواضع (دراسة للتاريخ A Study of History) للمؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي.

 

وهذا العمل الموسوعي جمع فيه توينبي خلاصة فلسفته حول التاريخ، ونشره فيما بين عامي 1934 و1954 في عشرة مجلدات، ثم نشر المجلد الحادي عشر عام 1959 وضمنه أطلس للخرائط، ثم لحقه بالمجلد الثاني عشر والأخير عام 1961 وضمنه تصويبات وتصحيحات ومراجعات لما في المجلدات العشرة الأولى. ويحاول توينبي في كتابه أن يبني نموذج لتفسير التاريخ وفهمه، ويمكن أن نوجز أفكار توينبي الأساسية في فكرتين كما أرى، الأولى أنه لا يمكن دراسة التاريخ كموضوعات مستقلة عن بعضه البعض، فلا يمكن دراسة تاريخ أمة دون النظر في تاريخ الأمم المعاصرة لها والمحيطة بها، والثانية أن التاريخ أعقد من يختصر تفسيره في اعتبار مؤثر دون آخر، فيفسر ماديًا مثلًا دون اعتبار للمؤثرات الروحية، أو يعزى لبطل استثنائي وغض النظر عن بيئة هذا البطل؛ فالتاريخ كما يراه توينبي هو تاريخ أنساني لا تحده الجغرافيا ولا الإثنية ولا اللغة، وهو معقد تصنعه عوامل كثيرة ومتداخلة، ولذلك نراه يلجأ في كتابه إلى منهج تفكيكي يركن إليه في محاولته بناء نموذج التاريخ، فيجمع الظواهر التاريخية، ويصنفها، ويفككها إلى عناصرها، محاولًا معرفة ما يربط بين هذه العناصر، ومن ثم يحاول أن يرسم مخطط عام للظاهرة التاريخية.

 

انطلاًقا من تصوره حول التاريخ، ومنهجه الذي اختاره، نرى توينبي يقوم بتعريف المجتمع أو الحضارة كوحدة بناء التاريخ، فالتاريخ لدى توينبي ليس تاريخ أمم مثل التاريخ اليوناني أو التاريخ البريطاني، ولكنه تاريخ حضارة تصنعها روابط ثقافية في المقام الأول، وقد أحصى توينبي واحد وعشرين حضارة على مدى التاريخ، لم يتبق منها في رأيه إلى خمس حضارات؛ الحضارة المسيحية الغربية، والمسيحية الأرثوذكسية، والإسلامية، والهندية، والشرق آسيوية؛ إلى جانب بعض ما اسماها بالأحافير الحضارية ومنها اليهودية؛ ثم يراح يحلل هذه مسيرة هذه الحضارات محاولًا الإجابة عن ثلاث أسئلة شكلت محاور كتابه الثلاثة الأساسية.

 

كيف ولماذا تنشأ الحضارة؟

 

كيف ولماذا تتقدم الحضارة؟

 

كيف ولماذا تنهار الحضارة؟

 

وذهب توينبي إلى أن الحضارة يمكن أن تنشأ إذا صادفت تحديًا كبيرًا، يستجيب له جماعة من داخل هذه الحضارة تمتلك القدرات الإبداعية التي تسمح لها بقيادة هذه الحضارة إلى تجاوز هذا التحدي، وهذه الجماعة القائدة تمثل أقلية بالنسبة لمجموع المنتسبين للمجتمع، وتظل الحضارة في حالة ارتقاء وتقدم ما دامت هناك تحديات وما دامت الجماعة القائدة قادرة على إبداع استجابات لهذه التحديات، ثم تبدأ الحضارة في التدهور عندما تصاب الجماعة القائدة بالخمول وتصبح غير قادرة على الاستجابة للتحديات التي تهدد مجتمعاتها، وتتحول من جماعة قائدة إلى أقلية مستغلة ومهيمنة، وتتسع الفجوة بينها وبين باقي المجتمع، والذي يشعر بدوره أنه أصبح لا يدين بالولاء لهذه الأقلية بل ربما أصبح يضمر لها العداء، وهكذا تبدأ هذه الحضارة في التآكل من الداخل، إلى أن يزيلها تحدًا تفشل في تجاوزه. والحضارة قد تعجز عن الاستجابة للتحدي، فتتآكل وتنهار، ولكن مآلها ليس بالضرورة الفناء، وإن كانت هناك حضارات قد تعرضت للفناء بالفعل، ولكن الأغلب أن تخرج من الحضارة المنهارة حضارة جديدة تحمل بعض ملامح الحضارة الأم، ولكنها تتميز بفاعلية أكبر على مواجهة تحديات بيئتها إلى حين.

 

وطابع الحضارة تطبعه الجماعة القائدة، ويرى توينبي أن هناك ثلاثة طبائع عامة للحضارة، الأولى حضارة الإمبراطورية العالمية، وهي حضارة تنشأ عن مجتمع تحولت فيه الجماعة القائدة المبدعة إلى أقلية مسيطرة، فهي تقود هذا المجتمع إلى التوسع بحثًا عن مزيد من النفوذ، ولتحويل القوى العدوانية للمجتمع بعيدًا عنها، مما يؤدي إلى إعادة تجميع المجتمع حول هذه الأقلية المسيطرة؛ الثانية حضارة الكنيسة العالمية، ويعني توينبي بمصطلح الكنيسة العالمية الأديان العالمية العابرة للحدود والأجناس مثل الإسلام والمسيحية، لا المؤسسات الدينية، ويرى أن نشوء هذه الحضارات ناتج على غلبة جماعة قائدة تمثل ما اسماه البروليتاريا الداخلية، وما اسميه الجماعات المستضعفة، حيث يرى توينبي أن هذه الجماعات تقدم استجابة لتحدي روحي أكثر منه تحدي مادي، وأرى أن توينبي قد تأثر في تصوره هذا بتاريخ المسيحية خاصة فيما قبل اعتناق قسطنطين الكبير للمسيحية؛ والحضارة الثالثة حضارة البطولة، والتي تتشكل خارج إطارات الحضارات القائمة، من قبل من أسماهم البروليتاريا الخارجية، أو الجماعات المستضعفة من قبل الحضارات القائمة، ويشير توينبي إلى أمم مثل برابرة أوروبا باعتبارهم البروليتاريا الخارجية، وطبيعة الحضارة التي ينشئها هؤلاء هي تمجيد الهجرات العظمى والاجتياحات الكبرى والتي يقودها ابطال استثنائيين.

 

إن تشعب أفكار توينبي في كتابه دراسة للتاريخ من الصعوبة أن أحيط بها في بضع مئات من الكلمات هو ما يتوفر لي في هذا الموضع، كما أن الصعوبة تزيد إذا رغبنا في رصد وتحليل المؤثرات التي أسهمت في بناء تصورات وأفكار توينبي، والتي نحاول أن نوجزها، وإن كنا نعرف مسبقًا عجزنا عن جمع شتاتها. تعريفه للمجتمع باعتباره وحدة صنعتها الثقافة يبدو فيه متأثرًا بالرومانسية القومية الأوروبية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر، بينما نجده متأثرًا بصورة خاصة بابن خلدون ونظريته حول الاطوار التاريخية للدولة، وهو ما يصرح به في الجزء الأخير من كتابه ولا يتضمنه المختصر، أما تقسيمه المجتمع إلى مجموعات فلا غرو أنه قد تأثر فيه بالتقسيم الماركسي للطبقات، بينما تبدو فرضيته الأساسية القائلة بأن حركة التاريخ إنما هي نتاج تحدي واستجابة تعتمد على مفهوم اللا وعي الجمعي التي تناولها عالم النفس كارل يونج، وبينما يحاول توينبي مخلصًا التملص من نزعة المركزية الأوروبية، ويرتقي إلى مرتبة فلسفة التاريخ الإنساني المجرد، فإنه لا يزال أسير لهذه النزعة، فنراه وعلى الرغم من نقده لعمل سلفه المؤرخ البريطاني إدوارد جيبون (اضمحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانية)، فإننا نجد هذا العمل هو الأساس الذي نبع منه تصنيفه لطبائع الحضارة بحضارة الإمبراطورية العالمية وحضارة الكنيسة العالمية وحضارة البطولة، ثم ينطلق إلى تعميم هذه النتائج على مختلف الحضارات.

 

أثناء نشر توينبي لهذا العمل، أثار اهتمام العاملين بحقل الفلسفة والتاريخ وربما كذلك هؤلاء المشتغلين بالأنثروبولوجي والعلوم السياسية، ولكن في ستينات القرن العشرين تعرض الكتاب لهجمات النقاد، فأتهمه اليسار اتهاماته المعلبة التقليدية من عينة مؤرخ بورجوازي أو يميني، كما اتهم بعداء السامية لوصفه اليهودية بأنها أحافير حضارية، وعلى الرغم من انصراف الكثير من الباحثين عن الكتاب ظاهريًا، خاصة عقب ثورة 1968، إلا أن واقع انهيار سور برلين والاتحاد السوفييتي، أعاد الكتاب وأفكاره إلى الواجهة مرة أخرى، فوجدنا مثلًا المفكر السياسي اليميني الأمريكي صاموئيل هنتنجتون ينطلق من تعريف توينبي للحضارة وتصنيفه للحضارات، ليرسم ملامح نظريته السياسية التي نشرها في كتابه الموسم صدام الحضارات، ويستعير من توينبي فكرته حول أن غياب التحدي قد يؤدي إلى انهيار الحضارة، ليصل إلى نتيجة أن على الولايات المتحدة أن تجد عدوًا بعدمًا تخلصت من الاتحاد السوفييتي خصمها القديم، حتى يتثنى لها الاستمرار في التقدم والارتقاء، ناصحًا بالتركيز على الحضارة الإسلامية باعتبارها عدو محتمل، وكأنه يؤكد على تصور توينبي عن الإمبراطورية العالمية التي تقودها أقلية مسيطرة تبتز مجتمعها – في هذه الحالة اليمين الأمريكي الذي ينتمي إليه هنتنجتون – في محاولة لإحكام سيطرتها على مجتمعها بتوجيه قواه العدوانية نحو عدو خارجي؛ أما المفكر الجغرافي الأمريكي جاريد دايموند في كتابه (الانهيار Collapse) فتراه ينطلق من فكرة التحدي والاستجابة وتأثيرها على استمرار وانهيار الحضارات، ليبحث تأثير التحديات الطبيعية مثل التغيرات المناخية العالمية على مصير الحضارات.

 

لم يترجم هذا العمل الفلسفي العظيم كاملًا إلى اللغة العربية، وإنما ترجمت تلك النسخة المختصرة التي صنعها المؤرخ البريطاني دافيد سومرفيل، وكانت قد نشرت في مجلدين، صدر الأول عام 1946 وفيه اختصر المجلدات الستة الأولى من الكتاب، وهي المجلدات التي كان توينبي قد نشرها آنذاك، وصدر المجلد الثاني عام 1957 وضم المجلدات من السابع للعاشر، ثم أعاد نشرها بعد تنقيحها عام 1960 في مجلدين عن مطبوعات جامعة اوكسفورد، وكان المؤرخ والآثاري العراقي طه باقر أول من نقل مختصر سومرفيل للعربية، حيث ترجمها بعنوان (بحث في التاريخ) ونشر المجلد الأول منها عام 1955 ثم المجلد الثاني عام 1964، نشرتهما جامعة بغداد، أما فؤاد شبل فقد ترجم مختصر سومرفيل من طبعة 1960، وراجعها المؤرخ المصري محمد شفيق غربال ونشرت في القاهرة عام 1961 بعنوان (مختصر دراسة للتاريخ).

 

ولد أرنولد توينبي عام 1889 وتوفي عام 1975، درس الإنسانيات والتاريخ اليوناني في اوكسفورد، وعمل أكاديميًا وموظفًا في وزارة الخارجية ومراسلًا صحفيًا، وفي عام 1925 أصبح استاذًا في كلية لندن للاقتصاد وهو المنصب الذي شغله إلى أن تقاعد في منتصف الخمسينات، كما شغل في أربعينات القرن العشرين منصب مدير للمعهد الملكي للشئون الدولية التابع لكلية لندن للاقتصاد. حظي توينبي بشعبية كبيرة في العالم العربي لكتابته الإيجابية عن الحضارة الإسلامية، ولانتقاده حكومة بلاده لاشتراكها في العدوان على مصر عام 1956. ترجمت لتوينبي العديد من أعماله للغة العربية، منها كتابه (Mankind and Mother Earth: A Narrative History of the World) نقله نقولا زيادة بعنوان (تاريخ البشرية)، وكتابه (Hellenism: The History of a Civilization) ترجمه رمزي جرجس بعنوان (تاريخ الحضارة الهيلنية)، وكتابه (Greek Historical Thought from Homer to the Age of Heraclius) ترجمه لمعي المطيعي بعنوان (الفكر التاريخي عند اليونان).

 

 

 

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات