آخر الأخبار

الدولة الحمدانية فى الموصل وحلب (1)

 

 



 

يرتبط اسم هذه الدولة كثيرا بأشخاص بارزين و أحداث دامية أليمة وأخرى جميلة رائعة دوما هي في وجدان الأمة لا تنقص ولا تتبدد ذكراها !!

 

و أول مايتبادر إلى الأذهان عند ذكر اسمها ؛ هو شخصية الفارس البطل الهمام ؛ الشاعر الأديب : الأمير سيف الدولة الحمداني على بن عبد الله بن حمدان.. ولن تستطيع أن تذكره دون ذكر شاعره المقرب أبي الطيب المتنبي الذي مايزال حيا في أدبياتنا و كتبنا المدرسية و في ألسنة العامة والخاصة .. و الحق أن شهرة هذه الدولة و بطلها سيف الدولة و حتى أحداثها و أعداءها مدينون لأشعار المتنبي بخلودها و حضورها ..

 

وثالث من سيلازمهما ذكره هو الفارس الشهم والشاعر صاحب العاطفة الجياشة و البطولات أبو فراس الحمداني ابن عم سيف الدولة .. ورابعهم هو عدوهم اللدود الإمبراطور البيزنطى نيقفور الثاني أو (نيقفورس فوكاس ) ..

 

لقد جمع بلاط سيف الدولة جمعا جما غنيا من كبار الأدباء و نوابغ العلماء و أهتم بالثقافة و العلوم أيما اهتمام حتى صارت حلب في زمانه محط أنظار العالم المتطلع للرقي والتحضر ...

 

وليس أدل على ذلك ؛ من أن نيقفور البيزنطي أعجب بما يدور في ندوات سيف الدولة و حاول أن يقلده فألف قصيدة يهجو بها الخليفة العباسي و الإسلام و المسلمين؛ ويتوعدهم فيها و يفخر بجرائمه التي يرتكبها بحق مسلمي الثغور ! و قد ترجمها له شعرا بالعربية بعض المستعربين الأرمن ..

 

ومن الأحداث البارزة التي ستصاحب ذكر هؤلاء هو حصار حلب و تدميرها و نهب كل مافيها و إحراق قصر سيف الدولة من قبل البيزنطيين ..

 

إن ذكريات القرن العاشر الميلادي أليمة الوقع على الأمة الإسلامية خاصة في منطقتنا العربية .. ففي ذلك القرن تحديدا ولدت فكرة الحروب الصليبية لأول مرة ؛ و ماكانت غارات و غزوات البيزنطيين الغاشمة وعملياتهم العسكرية الإنتقامية المتوالية ؛ على ثغور و أقاليم الخلافة العباسية و احتلالها و نهبها و تدميرها ؛ إلا حربا صليبية مبكرة كما يقول أصحاب التواريخ .. ولولا نهضة السلاجقة في القرن التالى له و دحرهم البيزنط إلى حدود البسفور و بحر مرمرة ثم لم يعودوا حتى زوال دولتهم و سقوط القسطنطية ؛ و لولا قضاؤهم على البويهيين لأكلت الروم الخلافة و لابتلعت منطقة الشرق الأوسط كاملة .. ناهيك عما كان سيحدث فوق ما جرى في القرون الثلاثة التالية من حملات أوربا الصليبية و اجتياح المغول ..

ولقد شهد ذلك القرن سقوط هيبة الخلافة العباسية و دخولها في طور من الضعف الشديد و الوهن ؛ بالخضوع للبويهيين الشيعة الفرس ؛ الذين سيطروا بالكامل على مقاليد الأمور و بات منصب الخليفة العباسي مجرد منصب شرفي ؛ لا يتجاوز حكمه حدود حديقة قصره !!

 

على الجانب الآخر من العالم الإسلامي كانت دعوة المهدي عبيد الله المسمى زورا بالفاطمي قد انتعشت و صارت دولة قوية تنافس الخلافة العباسية و تهددها بالزوال و القضاء على المذهب السني .. وكان القرامطة في الوقت ذاته ينخرون في جسد الأمة و يعيثون فسادا في العراق و الجزيرة و الشام ..

 

لقد حوصرت الخلافة العباسية تماما من جهات أربع !! و تجرأ الروم البيزنط بهذه الدرجة الفجة و القبيحة على الخلافة مهددين بتدميرها و محوها من الوجود .. و كانت الخلافة عاجزة مكبلة لا تستطيع الرد و لا حتى الدفاع بأية حال لانفصال أقاليمها و سيطرة بنى بويه على مركزها ؛ وهم لم يشهروا سيفا في وجه الروم ولم يجاهدوا عدوا و انصرفوا لجمع المال و التمتع بالثروات وقمعوا أهل السنة على حد قول المؤرخين ..

 

في تلك الأوقات العصيبة برز من بين هذا الضباب الكثيف و من غمار هذه المحن ؛ سيف براق يلمع ويخيف البيزنط على قوتهم ؛ و يحاول بكل ما أوتي من قوة أن ينافح عن الخلافة العباسية ؛ و أرومة العرب و الإسلام ..

 

إنه سيف الدولة العباسية على بن حمدان .

 

🔹 الدَّولَةُ الحَمَدَانِيَّةُ أو الإِمَارَةُ الحَمَدَانِيَّةُ أو دَوْلَةُ بَني حَمدَان، هي إمارة إسلاميَّة شيعيَّة ؛ أسَّسها أبو مُحمَّد الحسن بن أبي الهيجاء الشهير بِلقب «ناصر الدولة» في مدينة الموصل بِالجزيرة الفُراتيَّة، وامتدَّت لاحقًا باتجاه حلب وسائر الشَّام الشماليَّة وأقسامٌ من جنوب الأناضول ..

 

دامت هذه الدولة ثلاثا و سبعين سنة فقط من سنة 930 م إلى سنة 1003م ...

 

وتنحدر الأسرة الحمدانية من أصل عربي صميم ، هو قبيلة تغلب ، التي يعود نسبها إلى وائل بن قاسط بن هنب بن أفعی بن دعي بن جديله بن اسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان ...

 

ومن بطون تغلب : بنو مالك بن بکر بن حبیب ، وانحدر من صلب أسامة بن مالك : حمدان بن حمدون جد الأمراء الحمدانيين ، ومنهم كذلك بنو شعبة بالطائف وبنو حمدان بالموصل .

 

ولقد كانت ربيعة في الأصل سكنت وسط شرق الجزيرة و جهة اليمامة و كبقية القبائل العربية الأخرى قد هاجرت إلى الشمال بحثا عن الكلأ والمرعی ، فاتجهت في سيرها نحو الشمال ، حتى استقرت في هضاب نجد والحجاز وتخوم تهامه فكان لهم ولرعي أنعامهم ما أرادوا من السهل والجبل ..

 

الا ان ربيعة ما لبثت ان انقسمت على نفسها ودب فيها الشقاق ، مما أدى إلى ضعفها وتفرق بطونها ، فنجد أن بكر وتغلب انفصلتا عن ربيعة ، وعاشتا في نجد جارتين متسالمتين تحت راية كليب وائل بن ربيعة ، حتى وقعت بينهما حرب البسوس، في منطقة نجد في مستهل القرن الخامس الميلادي..

 

واستمرت هذه الحرب فترة طويلة، وكان الانتصار دائما لتغلب ، إلا أنه بنهاية الأمر هزمتها بكر ، فانتشرت مع حلفائها باليمامة والبحرين وأطراف العراق ،حتى نزلوا شمال الجزيرة الفراتية . وفي نفس الوقت بدأت تغلب تتجه نحو الشمال الى أطراف الجزيرة الفراتية ، ، وما أن ظهر الإسلام حتى كانت قد استقرت في المنطقة التي عرفت فيما بعد باسم ديار ربيعة .

 

🚩 سيف الدولة الحمداني في مواجهة نيقفور فوكاس

و صليبية القرن العاشر .

 

وَقَفْتَ وَما في المَوْتِ شكٌّ لوَاقِفٍ

كأنّكَ في جَفنِ الرّدَى وهْوَ نائِمُ

تَمُرّ بكَ الأبطال ُ كَلْمَى هَزيمَةً

وَ وَجْهُكَ وَضّاحٌ وَ ثَغْرُك َ باسِمُ

تجاوَزْتَ مِقدارَ الشّجاعَةِ و النُّهَى

إلى قَوْلِ قَوْمٍ أنتَ بالغَيْب ِ عالِم ُ

ماقبل ذلك التاريخ العجيب !!!

بسقوط الدولة الأموية سنة 132هـ , وانتقال الحكم إلى العباسيين .. تسلم المسؤولية خلفاء أقوياء أمسكوا بمقاليد السلطة ؛ وكان الجيش أيضا متماسكا يضمر كامل الولاء لهم ؛ وكان ذلك الرعيل الأول من بني العباس قيادات تمتاز بالحنكة والمرونة والدهاء .

 

استطاع الخلفاء (السفاح , والمنصور .. والرشيد.. والمأمون ..ثم المعتصم ) أن يجهضوا كل الانتفاضات التي انطلقت ضدهم و قد وقف البيزنط عند الخط الذي رسمه لهم العباسيون لا يجاوزونه؛ و لما تطلع ثيوفيلس إلى توجيه بعض الضربات للثغور العباسية على حدودة أدبه المعتصم بتدمير أنقرة و عمورية مسقط رأسه ..

 

ثم سيطر قادة الجند الأتراك فترة من الزمن على الخلافة وتنافسوا على مراكز الوزارة .وما يستتبع ذلك من نزاعات وحروب .. مما أدى للقضاء على تماسك الدولة وتوازنها وبدأ الولاة في الأمصار استقلالهم بولاياتهم .و أتيحت الفرصة لدعوة الباطنية القرامطة و العبيديين .

 

وكانت النتيجة الأسوأ من ذلك ان الروم البيزنطيين تحولوا من سياسة الدفاع إلى الهجوم ,فاندفعوا يغيرون على الثغور الإسلامية فيسلبون وينهبون ويقتلون ويسبون ويهدمون ويحرقون المزروعات ...

 

ففي سنة 313 كتب ملك الروم الى أهل القرى والمدن الحدودية يأمرهم بحمل الخراج إليه فرفضوا فسار اليهم وأخرب البلاد, ودخل "ملطية" فأخربها وسبى منها ونهب .. ولمارأى أهل ملطية ما حل بقراهم قصدوا بغداد مستغيثين فلم يغاثوا وعادوا بغير فائدة ..

 

🔹و في هذا الجو السياسي المكفهر ولدت الدولة الحمدانية على يد " أبي الهيجاء الحمداني " الذي عينه الخليفة المكتفي واليا على الموصل سنة 293هـ .

 

و في هذه الأثناء كانت إمارة حلب تعيش حالة من الاضطراب والفوضى فقد تعاقب على حكمها في فترة قصيرة عدد من الحكام المتشاحنين مما دفع ببعض العقلاء من الزعماء الاتصال به ودعوته لتسلم حكم حلب و كان هو أيضا متطلعا إلى ذلك فاستجاب سيف الدولة لهذه الدعوة ودخل حلب دون مقاومة سنة 333هـ .

 

وهناك عايش مرارة الأطماع و الأهداف الحقيقية للدولة البيزنطية .. مع ظهور روح صليبية توسعية دعاها المؤرخون باسم " صليبية القرن العاشر الميلادي " ..فأخذوا يتحفزون لغزو واسع للبلاد الإسلامية وإعادة أمجاد هرقل والرومان الى الشرق .

 

وقد وضع سيف الدولة خططه التي ركزت على ميدانين:

 

🔽 توحيد الجبهة الداخلية وتجنيد كل الطاقات المادية والمعنوية لمواجهة الخطر الصليبي الداهم .

 

فبالرغم من كونه شيعي المذهب ؛ فقد أشاع الحرية الدينية وعامل الجميع بالتساوي فلا فرق بين سني وشيعي ...

 

لا في الحقوق ولا في الواجبات ...

 

وبفعل هذه السياسة المرنة لم تشهد حلب في أيامه أية منازعات مذهبية كتلك التي كانت تجري آنذاك في شوارع بغداد وغيرها .

 

ولقد تمثل تسامحه الديني هذا بأن عيّن الفقيه الحنفي أحمد بن اسحق ( الملقب بأبي الجود ) قاضيا على حلب . وشمل تسامحه أصحاب الديانات الأخرى .

 

 

🔽 أما الميدان الثاني فهو مواجهة الخطر البيزنطي :

 

وقد أخذ يذكي روح الجهاد المقدس في نفوس المسلمين ، لهدف مواجهة الغزو الصليبي المتكرر على الحرمات والمقدسات الإسلامية . وأعد العدة المادية والبشرية ونظم الحملات العسكرية إلى بلاد العدو فبلغ عدد غزواته ضد الروم أربعين غزوة وحقق انتصارات مبهرة على القائد البيزنطي (الدمستق كبير القادة) ما أدى إلى تغييره بقائد آخر فتقاعد ذلك وترهبن .

 

وكانت أولى غزواته سنة 312هـ المُوافقة لِسنة 924م ، حين خرج لِصد الدمستق يُوحنَّا كوركواس عن آمد وسُميساط، غير أنَّهُ فشل في مُهمَّته، ودخل الدمستق سُميساط، ونصب خيمته في مسجدها الكبير، وقرع النصارى النواقيس وسبوا وانقلبوا عائدين، فطاردهم المُسلمون واستردُّوا بعض الغنائم وأسروا نسيب الإمبراطور البيزنطي وأرسلوه إلى بغداد.

 

و في 26 ذي القعدة 326هـ المُوافق فيه 24 أيلول (سپتمبر) 938م، خرج سيف الدولة إلى حصن زياد بِأرض أرمينية بين آمد وملطيَّة، فأقام عليه تسعة أيَّام حتَّى شارف على فتحه، لولا أن هاجمه يُوحنَّا كوركواس بجيشٍ كثيف،..

 

فاضطرَّ سيف الدولة إلى الانسحاب، إلى سُميساط، فطاردتهُ القُوَّات الروميَّة، ففرَّ إلى ضيعةٍ تُعرف بِـ«المُقدَّميَّة» حيثُ أعاد تنظيم قُوَّاته واستعدَّ لِجولةٍ أُخرى مع البيزنطيين، ثُمَّ انتقل إلى مكانٍ مُلائمٍ لِلقتال بين حصنيّ زياد وسلام في أرمينية، وجرى اللقاء بينه وبين يُوحنَّا كوركواس في هذا المكان وأسفر عن انتصارٍ واضحٍ لِلمُسلمين، ووقع سبعون قائدًا أسرى في يد سيف الدولة، الذي استولى أيضًا على سرير الدمستق وكُرسيه.

 

وفي سنة 328هـ المُوافقة لِما بين سنتيّ 939 - 940م، خرج سيف الدولة غازيًا أرمينية، فنزل ملاذكرد يُريدُ قاليقلا من نواحي خلاط، وكان الروم قد بنوا بِجوارها مدينة سمُّوها «هفجيج»، فلمَّا علموا بِمسيره أحرقوها وغادروا المنطقة،

 

فعاد سيفُ الدولة إلى أرزن، ومكث فيها حتَّى انحسار الثلج، ثُمَّ خرج إلى خلاط وتوغَّل فيما وراءها، واضطرَّ كُلٌ من ملك أرمينية آباص الأوَّل وخُرذان ملك الكرج إلى الاعتراف بِسيادته، ..

 

ثُمَّ اجتاز الأراضي التي خضعت له، وظهر في بلاد الأرمن البيزنطيَّة، فهاجم موش، من ناحية خلاط، فخرَّبها، وهدم قلاعًا منيعة، ووطئ أماكن لم يطأها أحد من المُسلمين قبله؛ ما أثار الإمبراطور البيزنطي، فكتب إليه مُتوعدًا ومُنذرًا، فردَّ عليه سيف الدولة بِمُهاجمة قلونية في آسيا الصُغرى، وأحرق ربضها واستولى على ما في ضياعها،.

 

وكتب إلى الإمبراطور من هُناك ما أفزعه، فأرسل جيشًا لِصدِّه ولكنَّهُ تعرَّض لِلهزيمة من سيف الدولة، وبدا أنَّ سيف الدولة سوف يُسيطر على كامل أرمينية ويُعيدُها غير أنَّ ما حدث من نزاعاتٍ داخليَّةٍ في عاصمة الخِلافة والصراع مع الإخشيديين في الشَّام ؛ وضعف موارد سيف الدولة منعهُ من المضيّ في غزواته، ما أعطى الفُرصة لِبيزنطة لِمُهاجمة الأراضي الإسلاميَّة، فاقتربت قُوَّاتُها بقيادة الدمستق الجديد نيقفور في سنة 330هـ المُوافقة لِسنتيّ 941 - 942م من حلب، فنهبت وخرَّبت وسبت نحو خمسة عشر ألف نسمة من حمشوش.

 

إن مواجهة الروم لم تكن رحلة سهلة وممهدة في ذلك الوقت بالذات .. لأن الدولة البيزنطية كانت قد بلغت أوج قوتها على يد أباطرة أقوياء في تلك المرحلة...

ولم يثن ذلك سيف الدولة عن واجبه فكانت له جولات ومواقف شجاعة سجلها له التاريخ بأحرف من نور ومع ان النصر لم يحالفه في كثير من معاركه نظرا لحشود الروم العظيمة ..

 

إرسال تعليق

0 تعليقات