تلويح بوتين باستخدام النووي مؤخرا ؛ أكبر دليل على أن عملية إخضاع
أوكرانيا و انتزاعها من أحضان الغرب ، ليست نزهة كما توقع الكثيرون ؛ و ليس معنى
ذلك أن الروس سييأسون قريبا أو يتراجعون ؛ فهي مسألة -بالنسبة لهم- ترتبط بالكرامة
و تحديد المصير ؛ و لا يمكن التكهن في الوقت الحالي بالنتائج النهائية .
فلا شك أن القيادة الروسية دفعتها عوامل ملحة و حساسة دامت لعقود
أو ربما قرون !! و لا شك أن المقاومة العنيفة للأوكران أو مساعدة الغرب لهم أو حتى
تدخله المباشر؛ أو حتى الإخفاق في هذه الخطوة ؛ كانت كلها احتمالات قد طرحت على
طاولة القادة الروس قبل التخطيط للعمليات .
إن فكر و سياسة الغرب تجاه العالم و روسيا تحديدا على مدى فترة
زمنية ليست بالقليلة هي التي أدت بلا شك إلى بروز هذا الحدث ، وطفوه فوق كل
الأحداث على الساحة الدولية .
لكن كان على روسيا أن تعد الأوكران بالرفاهية و الثراء و بحد معقول
من الحريات و الميزات كشعب يمثل خط التماس لها مع الغرب الذي أغرقهم في تلك الأحلام
.. وليس بالقوة وحدها .
وإنه بدراسة التطورات الصناعية و الاقتصادية و العسكرية في بقاع
شتى جديدة على الأرض عبر تلك الفترة ؛ يتضح لنا كيف تولدت فكرة إعادة تشكيل وجه
العالم و ترتيب المواقع و تصحيح تدرجها ؛ فيرى جانب أنه أولى بالسيادة و يحاول
احتواء كل العالم بكافة الوسائل إستنادا إلى ميراثه من صراع القرن الماضي الذي عفا
عليه الزمن ؛ وآخرون يريدون بقوة أن يشاركوه تلك السيادة ؛ أو انتزاعها منه ؛ فقد
ولدت قوى جديدة فتية تحس بأنها أكبر من أن تبقى في مواقعها الحالية ذات التقييم
الأدنى مستوى ؛ أو تلك التي فرضت عليها التبعية دون مسوغ ؛ أو تلك التى عانت من
التهميش و التجاهل دون وجه حق في فترات سابقة .
هذه الرغبة لا تخص روسيا فحسب و إنما هي أحد الكيانات التي تحاول
الطفو و تجتهد في تغيير وجه هذا العالم ؛ و في هذا السياق يقول أحد العلماء من
المستشرقين الروس :
{ إن لروسيا أن تتبع سياسة خارجية مستقلة ؛ فروسيا الصاعدة لم تعد
قانعة بالتناقض المتنامي بين قدراتها المتزايدة والمسار الأحادي للدول الغربية
والمؤسسات التي تتجاهل بصورة متعالية موقع روسيا، وتتحاشى إقامة علاقات ثقة شبيهة
بعلاقات شراكة معها.
يضاف إلى ذلك استياء شريحة من النخبة السياسية
الروسية مما تراه هيمنة طاغية لعنصر "المواد الأولية" في
علاقات روسيا مع أوروبا وسياسة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، الهادفة إلى
التأكيد على وضعية روسيا الدولية كمصدر للمواد الأولية، فقط - لتكون بذلك مجرد ملحقللاقتصادات
المتطورة }
توقيع (البروفسور فيتالي نأومكين) *¹ أو نعومكين
👌 وفي تقديرنا نحن أن الحروب العظمى لا تندلع و لا تقوم إلا إذا
تبنى بعض قادة القوى العظمى نظرية ما لبعض الفلاسفة أو فكرة ما لبعض المفكرين ؛
واتخذها له دينا و ديدنا ؛ كما حدث ذلك بالفعل في الحربين السابقتين والثورة
البلشفية؛ سيتضح هذا في الجزء الأخير من هذا المقال .
من أين نبدأ ؟ ! هو أمر محير
فعلا !
يقول الأستاذ مروان اسكندر في كتابه "الدب ينقلب نمرا" :
{ إن نظرة الغرب إلى روسيا وشعبها وقيادتها غالبا ما تتأثر ببقايا
تاریخ مشترك وطويل من المواجهة }
و يشرح ذلك في إطار الخلفية التاريخية و الجغرافية فيقول :
{ غالبا ما تتسم نظرة الغرب اليوم ، إلى روسيا بالخشية والخوف،
والشك والسخرية، والقليل من التعاطف، إذ ينظرون إلى الروس على أنهم متوحشون أفسدهم
الإثراء السريع الناتج من -بيع- النفط والغاز. وفي أفضل الأحوال يعتبرونهم أناسا
صاخبين ويرى العديد من الأميركيين والأوروبيين وخصوصا البريطانيين والفرنسيين،
أنهم قساة، عنيفون ومدمنون على الكحول بشكل مفرط، وغالبا ما يكونون عدوانيين
ومبذرين وما من شك أنه من الممكن ملاحظة جميع هذه الصفات لدى بعض المواطنين الروس.
قبل عشرين سنة خلت، لم يكن الروس يتمتعون بحرية السفر، ولم تكن
لديهم الإمكانيات المادية للإنفاق خلال السفر. كان غالبهم يقتصر تقريبا على حدود
دول كتلة الاتحاد السوفيتي، لذلك لم تكن عندهم صناعة السياحة. وكانت معظم
الانطباعات عن روسيا غير واقعية، تتأثر بتصعيد التوترات الناشئة عن برنامج للرئيس
الأمير کي رونالد ريغان القومي الذي سمي «حرب النجوم».
كان الرئيس ريغان يطلق على الاتحاد السوفيتي لقب "إمبراطورية
الشر" ، إلى أن أتت الاجتماعات المتتالية بين الزعيم الروسي ميخائيل
غورباتشيف والرئيس الأميركي ريغان إلى تخفيف حدة خطاب الأخير في انتقاداته العلنية
للاتحاد السوفيتي خلال القرن العشرين، لم يكن زعماء العالم الذين يتعاملون عن كثب
مع الزعماء السياسيين والعسكريين الروس يشعرون بالراحة.أبدا.
وفي سياق منفصل، وفي مذكراته حول الحرب العالمية الثانية، عبر
إيزنهاور عن إعجابه بالروح القتالية التي تحلى بها الروس ونوه بولائهم وبسالتهم في
الدفاع عن وطنهم، وبعدها في شن الهجوم المضاد واحتلال ألمانيا والعديد من دول
أوروبا الشرقية والبلطيق على طول الطريق.
وبحسب قول إيزنهاور، فمن دون روسيا، لم يكن بالإمكان تحقيق الفوز
في الحرب، ولكنه قال بصراحة بأنه "عجز عن تفهم أهدافهم لأنهم يكرهوننا ".
ولربما ورد أشهر تقييم على لسان رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ونستون
تشرشل، الذي شارك في اجتماعات ثلاث قمم خلال الحرب العالمية الثانية، إلى جانب
الرئيس فرانكلين روزفلت والقائد السوفياتي جوزيف ستالين، والرئيس هاري ترومان بهدف
وضع تصور للعالم بعد هزيمة ألمانيا.
لخص تشرشل نظرته إلى روسيا بالقول إنها «لغز مغلف بالغموض، داخل
أحجية».
وانطلاقا من شکوکه حيال النوايا الروسية، نصح تشرشل الأميركيين،
بعد استسلام ألمانيا النازية في العام 1945، أن يتابع الحلفاء الحرب ضد روسيا فورا
لإسقاط الشيوعية.
غالبا ما شعر الزعماء الروس بالإهانة بسبب المواقف والتصريحات
الغربية، وقد عبر غورباتشيف عن ذلك بكل صراحة، وشدد على أن معظم زعماء الغرب لم
يكلفوا أنفسهم عناء التعرف على روسيا والاطلاع على نفسية شعبها.
في خلال عشاء جمعه بفريق مجلة «تایمز» في العام 2007م، أعلن الرئيس
الروسي فلاديمير بوتين أمام زائريه الغربيين : «أنتم لا تفهموننا ولا تحترموننا
وعندكم في نفوسكم عقدة تفوق».
وعبر بحماسة عن إيمانه بأن روسيا ليست متخلفة وأنها تتفوق على معظم
المجتمعات الغربية في المجال الثقافي، أما في مجال العلوم فهي تتخطاهم بأشواط عدة .
من المعلوم أن بطرس الأكبر، مؤسس وقيصر روسيا الحديثة، أمضى.حوالي
18 شهرا بنهاية القرن السابع عشر في زيارة لهولندا وإنكلترا وبولونيا، ومختلف
المقاطعات الألمانية، والنمسا، في رحلة.استطلاعية عرفت باسم «السفارة الكبرى»، وتوصل
إلى خلاصة واحدة حول الرأي العام الغربي السائد إزاء روسيا والروس، فقال :
" وينظر الغربيون إلى الروس على أنهم دبية معمدة " .
وعلى الرغم من المحاولات المتكررة التي قام بها بطرس الأكبر
وكاترينا الكبرى لرأب الصدع مع العواصم الغربية النافذة، فقد بقي بحر خفي من
التشكيك وانعدام الثقة يفصل روسيا عن فرنسا وبريطانيا وألمانيا . وبطريقة غريبة،
لا يزال هذا الحاجز الخفي بارزا ، وقد انضمت الولايات المتحدة اليوم إلى ركب القوى
الأوروبية هذه.
إن استيعاب توجهات وسياسات القيادة الروسية الجديدة يتطلب من ساسة
الغرب أن يدركوا أن بوتين والرئيسو مستشاريه هم تلامذة وأحفاد بطرس الأكبر
وكاترينا الكبرى الروحيين .
وبالتالي، من أجل التنبؤ بردود فعل روسيا إزاء المسائل الدولية
الكبرى، لا بد من استعادة تاريخ القائدین اللذين طبعا بختمهما نجاحات روسيا في
القرن الثامن عشر. }
إحصائيا تستقطب روسيا الفدرالية الاهتمام.فمساحتها هي الأكبر في
العالم، إذ تمتد أراضيها على مساحة قارة بأكملها وتنتشر على طول ۱۱ منطقة زمنية - ما يوازي ضعفي المسافة
بين باريس ونيويورك - من سان بطرسبرغ غربا إلى فلاديفوستوك في الشرق الأقصى، مرورا
فوق كوريا الشمالية.
وعلى رغم كونها دولة منتشرة على نسبة 15 في المئة من مجموع اليابسة
على الكرة الأرضية، فإن عدد سكانها لا يتعدى نسبة ۲٫۲ من مجموع سكان العالم .
وعلى الرغم من أن نسبة 80 % من الأراضي الروسية تقع في قارة آسيا،
فإن العديد من الروس يتوقون إلى اعتبارهم جزءا من أوروبا.
وجدير بالذكر أن صناعة النفط العالمية انطلقت من روسيا وليس من
الولايات المتحدة، وذلك بحفر أول بئر للنفط على بحر قزوین في العام 1846، أي قبل
ثلاث عشرة سنة من حفر أول بئر أميركية في ولاية بنسلفانيا .
وتتمتع روسيا بأكبر احتياط بوکسیت في العالم، وأكبر مخزون غاز،
وثاني أكبر احتياط من اليورانيوم، وثالث أو رابع أكبر مخزون نفط، فضلا عن احتياطات
كبيرة من الفحم والذهب والألماس والخشب.
كما تقع في روسيا أكبر بحيرة من الماء العذب في العالم، تمتد
على طول 600 كلم (*تحوي خمس المياه العذبة على الأرض) .
وكان من المتوقع بحلول العام 2010 ، أن يوازي متوسط معدل القوة
الشرائية الروسية مستوى معظم الدول الأوروبية، لو لم تقع الأزمة المالية
والاقتصادية العالمية التي أدت إلى تأخير هذه النتيجة لسنتين على الأقل .
إن روسيا الفدرالية هي البلد الوحيد في العالم الذي تحتوي صخوره
جميع المعادن الضرورية للبرامج الفضائية، وهي معادن تبيعها، إلى جانب اليورانيوم
المخضب، إلى الولايات المتحدة التي خاضت ضدها معركة عقائدية خلال السواد الأكبر من
القرن الماضي .
وهي تتمتع بقدرات في مجال علوم الفضاء تجعل الولايات المتحدة
تستعين بها حين تتعطل مركباتها الفضائية. وتملك تكنولوجيا النانو المتطورة وكفاءة
تضاهي بمستواها أي بلد أوروبي آخر. ولروسيا موقع ثابت في مجموعة الدول الصناعية
الثماني.
والأهم هو أن روسيا الفدرالية تتصدر قائمة الدول المنتجة للطاقة من
الغاز والنفط . وخلال 15 سنة، ستوفر روسيا ما نسبته 50 % من احتياجات أوروبا للغاز
بدلا نسبة 20% المئة توفرها حاليا، ومن المتوقع أن ترتفع الإمدادات باتجاه الصين
بشكل سريع لتبلغ مستويات عالية.
ومن الملاحظ أن المواقف من روسيا وقادتها ومؤسساتها تختلف بشكل
لافت ، فالدول الأوروبية الرئيسية مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، والمملكة
المتحدة بقدر أقل، ترحب بالتعاون معها وتقيم مشاريع مشتركة مع شركاتها العامة
والخاصة.
وفي المقابل، لطالما اتخذت الولايات المتحدة موقفا منتقدا إزاء
روسيا وقادتها وسعت إلى التشويش عليهم بشكل مستمر. وقد برز هذا الموقف جليا من
خلال معارضتها مشروع مد أنابيب الغاز والنفط من روسيا إلى أوروبا والصين، أو من
خلال تأجيج التوتر بين روسيا والأعضاء السابقين في الاتحاد السوفياتي في آسيا
الوسطى، أو جورجيا وأوكرانيا، أو الخلفاء الأبعد مثل بولونيا و جمهورية التشيك .
أما اليوم، فموقع روسيا السياسي والاقتصادي العالمي يكتسب أهمية
حيوية بالنسبة للاستقرار والازدهار الدوليين.
إن أي محاولة لفهم المواقف الأساسية للقيادة الروسية لا بد أن
تنطلق من استيعاب مدى الاعتزاز والكبرياء الروسية في الحياة العامة، وفي مقدمها
الاعتزاز بتاريخ روسيا، الإمبراطورية التي استمرت على امتداد قرون ثلاثة والتي
تضمنت جميع الأراضي المحيطة بالفدرالية الروسية القائمة اليوم.
فالروس مفعمون فخرا واعتزازا بإنجازات بطرس الأكبر وكاترين الكبرى،
وبالأعمال الأدبية التي وضعها دوستويفسكي وغوغول وتولستوي ومجد الإرميتاج، وباليه
البولشوي، والأعمال الباهرة التي نظمها الموسيقيون الروس من رخمانينوف إلى
تشايكوفسكي وسترافينسكي.
و يقال إنه إذا جرد الروس من كبريائهم وفخرهم ببلادهم، فسينال منهم
البؤس والميل إلى الانتحار، وهو تحديد ما حل بهم خلال حقبة يلتسين عندما هبت
الأصول الوطنية وبقي الجنود والأطباء والمتقاعدون والمعلمون من دون رواتب لأشهر
عدة.
لن يسمح الروس أبدا بأن تعاني بلادهم مجددا من السرقة والإهانات
على غرار ما حصل قبل خمس عشرة سنة.
ويطمح الروس إلى تبوء موقع هام بين قادة العالم، وتدفعهم
هذه.الرغبة إلى المساهمة في تطوير العلوم والطاقة والتبادل والثقافة والسفر والسلام
والازدهار. هذا الكتاب يسعى إلى تقويم إمكانيات جاحهم في هذه المهمة واحتمالاتها.
ولا بد من إعادة النظر في مستقبل روسيا في إطار الاقتصاد العالمي
المتحول، ومن المهم أن يتفهم الروس وسائر بلدان العالم بشكل واضح أهمية الدور
الإيجابي الذي يمكن أن تلعبه موسكو .*²
الفلسفة الأوراسية الجديدة ، والنظرية الرابعة !!
يقول أحد الكتاب :
إن الجغرافيا الروسية الواسعة أدت الدور الأهم في تشكيل تصورات
القوة العظمى لدى صناع القرار الروس ودفعتهم نحو التفكير بذلك، وربما يظهر ذلك
جليا في تصريح ألقاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد عامين من توليه الحكم حينما
قال: "نحن قوة عالمية، ليس بسبب أننا نمتلك قوة عسكرية عظمی وقوة اقتصادية
محتملة، ولكن نحن كذلك لأسباب جغرافية، سوف نظل موجودین سواء في أوروبا ، وآسيا ،
في الشمال والجنوب ، كما لنا في كل مكان بعض من الاهتمامات والمخاوف"
إن حقل الدراسات الجيوبوليتيكية في روسيا حقل عريق ومتميز أيضا عن
نظيره في ألمانيا مثلا أو الولايات المتحدة الأمريكية، إذ عرفت المدرسة الروسية
أسماء عديدة منذ الفترة القيصرية، كان لها منظورها الخاص في الطريقة التي ينبغي
على الحاكم أو صانع القرار أن يستغل بها الميزة الجغرافية التي في روسيا وتصوراتها
الإستراتيجية الكبرى كانت قد ارتبطت من قبل "دوما بالسيطرة على مساحة جغرافية
واسعة..
إذ يتحدث بعض المؤلفين عن حب الروس القديم للأراضي، الذي تشكل عبر
التطور التاريخي في سياق ضمان توسعة الأمة الروسية .
إن ذروة ما بلغه الأوراسيون التقليديون أيام الحرب الباردة، هو
فكرة أن السيطرة الجوية والفضائية خير وسيلة للسيطرة على الأرض وقد عملوا بشكل ملح
على دفع القيادة السوفيتية إلى الاهتمام بمناطق مصير حاسمة وبؤر تطور محددة"
في معاركهم الطاحنة ضد التالاسوكراتيا، وبالرغم من إخفاق هذه القيادة في الحفاظ
على مناطق نفوذها أيام الحرب الباردة وتسببها في تفكيك إمبراطورية ضخمة، إلا أن
العداء الجيوبوليتيكي الأوراسي لم ينته بانتهاء الحرب الباردة وإخفاق هذه القيادة
في تجسيد المشروعات الجيوبوليتيكية الأوراسية، فقد ظل هؤلاء يرون أن المنطق الجيوبوليتيكي
للحرب الباردة لا يزال مستمرا مسيطرا على المشهد العالمي على حد تعبير البروفيسور
سانتورو، رئيس معهد الدراسات السياسية العالمية في ميلانو، الأمر الذي أدى إلى
إعادة إنتاج الطروحات الأوراسية الكلاسيكية في شكل جديد متواكب مع النمط الجديد
الذي أخدته بنية النظام الدولي، فمع بداية
حقبة التسعينيات عرفت المدرسة الأوراسية تطورا ملحوظا عرف بالأوراسية الجديدة، وقد
مثل الأستاذ ألكسندر بنارین (Alexander Panarin) أحد أكثر وجوهها المعاصرة شهرة حسبما يذكر غوردون هان (Gordon Hahn) الذي يصف آراءه بالوضوح في مناهضة الولايات
المتحدة، إذ يرى في الجيش الأمريكي والهيمنة الثقافية لأمريكا أساس العولمة
التدميرية.
فأورواسيا بحسب رؤيته هي الطرف المواجه لهذه الثقافة التدميرية ؛
وتمثل الفكرة الأوراسية الجديدة عنده " بديلا عن العولمة التكنولوجية -
الاقتصادية" التي تهدد العالم .
أما بنارین فمقتنع بأن مستقبل روسيا يعتمد على رفض الحداثة
الاستهلاكية التنافسية المثالية التي يراها معبرة في أغلب الأحيان عن النموذج
الأمريكي.
إن إمكانية تأثير الفكرة الأوراسية في الفلسفة السياسية الرسمية
الروسية إلى هذا الحد تحدث فهم تاريخ النزعة الأوراسية، وكيف سمح هذا التاريخ
للفكرة أن تصير إيديولوجيا موحدة ممكنة للسياسة الخارجية الروسية مثلما يحاجج
بنارین.
لكن، وبالرغم من شهرة أفكار ألكسندر بنارين بين الأوراسيين الجدد
الروس إلا أنها لم تجد طريقا إلى الكرملين مثلما وجدت أفكار ألكسندر دوغين آذانا
صاغية هناك، فقد وضع الرجل أسسا جيوبوليتيكية صلبة ذات خلفيات فلسفية عميقة لمفهوم
الأوراسية الجديدة؛ لتكون بمثابة الأيديولوجيا السياسية الأكثر تأثيرا في روسيا
المعاصرة منذ مطلع القرن الحادي والعشرين.
ترجع الملامح الأولى "للجيوبوليتيكا الدوغينية" إلى سنة
1991، حينما نشر دوغين مقالا بعنوان: "حرب القارات (The War of The Continents) "، الذي تضمن
تصورات دوغين الجيوبوليتيكية الكبرى للعالم، حيث وصف فيه ذلك الصراع الجيوبوليتيكي
القائم آنذاك بين نمطين مختلفين من القوى العالمية: القوى البرية أو "روما
الخالدة" التي ترتكز على مبادئ عديدة، مثل: الدولة المستقلة، والجماعة
المحلية، والمثالية، وتفوق الخير المشترك. في المقابل توجد حضارات البحر، أو
"قرطاجة الخالدة" التي ترتكز على مبادئ مختلفة، مثل: النزعة الفردية،
والنزعة المادية، إضافة إلى ميزة التجارة.
وبحسب تصور دوغين، فإن "قرطاجة الخالدة" كانت قد تجسدت
تاريخيا في أثينا الديمقراطية، والإمبراطورية الألمانية والبريطانية كذلك، أما
اليوم، فهي ممثلة بالولايات المتحدة، في حين تجسدت "روما الخالدة" في
روسيا.
وبالنسبة له، فإن الصراع بين هذه النمطين من القوى سوف يظل قائما
إلى أن يتمكن أحد الطرفين من تدمير الآخر كليا، ولا يمكن لأي نمط من النظم
السياسية أو أي مقدار هائل من التجارة البينية بين الطرفين أن يتمكن من إيقاف هذا
الصراع.
( لذلك فمن الأفضل أن تسارع روسيا الخيرة إلى هزيمة أمریکا الشريرة
، كما ينبغي أن تأخذ الثورة المحافظة Conservative Revolusion مكانتها في التاريخ ) . مثلما يقول كانت تلك
هي الملامح الأولى لأوراسية دوغين الجديدة، التي قدمها بشكل مفصل سنة 1997، حينما
أصدر كتابه ذائع الصيت :
"أسس الجيوبوليتيكا: مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي" ،
و الذي كان بمثابة إنجيل الأورواسيين الجدد في القرن الجديد.
ویری دوغين أيضا، أن على طبيعة الجيش وشكله أن يكونا متوافقين مع
اتجاه السياسة الخارجية للبلد، وموقعه الجيوبوليتيكي.
أما فيما يتعلق بعلاقة روسيا بشعوب أوراسيا، ولاسيما شعوب الاتحاد
السوفيتي السابق، فيری دوغين أن بإمكان روسيا أن تدمج حضارات مختلفة كثيرة، وينبغي
أن يكون شكل هذه الرؤية الحضارية الأوراسية مشابها لنظيرتها في الإمبراطورية
المغولية الكبرى مع جنکیز خان.
في الحقيقة، الروس هم خلفاء الإمبراطورية المغولية، التي كانت
عابرة للثقافات والإثنيات بطبيعتها الخاصة يهتم الروس بحسب رؤية دوغين
بالإمبراطورية الأوراسية العظمى، ولا يهتمون برفاه دولة روسيا الصغيرة بمجموعاتها
الإثنية.
الخاصة.
علاوة على ذلك، لا يهتم الروس بمركزية هذه الإمبراطورية، كما يحاجج
دوغين بأنه في ظروف معينة قد يحيل الروس دور الزعيم الإمبراطوري إلى مختلف
الجماعات العرقية، في مثل هذه الحالة، فإن موت روسيا سيكون في نفس الوقت فعل
حياتي، سوف تموث روسيا فقط لأجل نقل مهمتها الإمبراطورية إلى شعب آخر .
وبالرغم من الدور العظيم للروس في بناء الإمبراطورية، فإنه إذا ما
ألغي الروس دورهم التاريخي فإن البلاد سوف تؤول إلى الزوال.
في الحقيقة، ومن دون إمبراطورية لا يمكن لروسيا أن وجد، سوف تنهار
ببساطة. إلا أن اختفاء روسيا لن يؤدي إلى نهاية فكرة الإمبراطورية الروسية العظمى،
سوف يتولى شعب (أوراسي) آخر زمام القيادة، ولا يمانع دوغين من رؤية الأوكرانيين في
موقع القيادة الأوراسية.
أخيرا، وإذا أردنا أن نميز أوراسية دوغين عن الأوراسية التقليدية
التي تبناها كثير من الجيوبوليتيكين الروس في سنوات العشرينيات والثلاثينيات من
القرن العشرين، فإن إيديولوجية دوغين إيديولوجية مناهضة للغرب، مناهضة لليبرالية،
هي إيديولوجية توليتارية، آیدوقراطية (Ideocratic) وتقليدية اجتماعيا.
قوميته ليست قومية سلافية التوجه ( بالرغم من أن الروس لهم مهمة
خاصة في الوحدة والأرض إلا أنها مرتبطة أيضا بالقوميات الأخرى لأوراسيا). كما أننا
نجده يروج لنظرة صوفية، روحية .
النظرية السياسية الرابعة: السياقات الفلسفية الكبرى للأوراسية
الجديدة :
كما ذكرنا آنفا، فإن الأوراسية الجديدة صارت مرادفا في روسيا لاسم
الفيلسوف والجيوبوليتيكي الروسي ألكسندر دوغين،...
ويعد كتابه " النظرية السياسية الرابعة" مثلما ذكره
دوغين: " الكتاب الأكثر طليعة من بين البحوث العلمية في الفلسفة
السياسية"، وقد ترجم هذا الكتاب إلى لغات عدة، وصاحبه يتولى منصب عميد كلية
السوسيولوجيا في جامعة لومونوسوف موسكو الحكومية، كما يعد مؤسس مرکز الدراسات
المحافظة، الذي ينظم بشكل دائم مؤتمرات، وورشات عملي، ويصدر منشورات مخصصة للنظرية
السياسية الرابعة.
ينطلق دوغين في هذا الكتاب من فرضية أساسية تتمحور حول إخفاق
المشروع الحداثي الغربي والمصير المأساوي الذي أنتجته إيديولوجياته الثلاث الرئيسة
: الليبرالية، والشيوعية، والفاشية، التي لم تتمكن من تحقیق مراد الإنسان من
الرفاهية والسلام،..
حيث أن الليبرالية دفعت بالإنسان إلى الاغتراب والوهم، وجعلت منها الولايات
المتحدة أداة لتحقيق مشروعها الاحتكاري العالمي .
أيضا، في المقابل، عرفت الشيوعية أزمة في مشروعها وانقسامات على
أساس دوغمائي وغياب أفق للمستقبل.
أما الفاشية ونازية هتلر - فلم تكن إلا " نزعة دولاتية"
محضة، فقد عملت على تعبئة المكونات الاجتماعية - أحيانا بمنهجية قسرية- لخدمة جهاز
الدولة.
لهذه الأسباب سعی دوغين إلى صياغة فلسفة متعالية أوجدتها نظريته
السياسية الرابعة التي تؤمن بعالم تعددي وأخلاقي، عالم يعترف بالشعوب الأخرى
وبحريتها، بعيدا عن قيم المركزية الغربية، ..
وجعل من ذلك عالما ممكن التشييد إذا ما تمگنت روسيا من إنتاج
إيديولوجية خاصة بها، تفيض بها السيادة الجيوبوليتيكية لقوي القارة الأوراسية، قوى
البر (أي روسيا، والصين، وإيران، والهند) ضد القوى الأطلسية ..
إذ أن أيديولوجية بديلة ذات نزعة محافظة ثورية هي وحدها قادرة على
معارضة مشروعات القوى الأطلسية الاحتكارية، فمشروع الأوراسية ينطلق من تعزيز ماضي
الشعوب لكبح مشروع الحداثة، وإعادة الفرد المستكين إلى "الروح" وإلى
"الجماعة" وإلى "الله"
قبل الحديث بالتفصيل عن المضمون الفلسفي لهذا الكتاب، من الجدير أن
نشير بداية إلى المرجعية الفلسفية التي نهل منها دوغين في شبابه، التي شكلت منطلقا
لأفكاره الفلسفية والجيوبوليتيكية أيضا فيما.بعد.
في أثناء سنوات التسعينيات ادعی دوغين بشكل متكرر أن غيونون (Guenon) هو أستاذه، إلا أن غيونون أو حتى
كوماراسوامي (Coomaraswamy) قليلا التأثير في
دوغين مقابل تأثير المتصوف الباطني الإيطالي البارون یولیوس إيفولا) (1974-1896) (Julius Evola) الذي يعد أكثر الوجوه
الراديكالية شهرة في مناهضة النظام اللبيرالي والديمقراطي، ومناهضة نظام المساواة
والنظام الشعبي في القرن العشرين)،..
إذ أثر إيفولا تأثيرا حاسما في دوغين الشاب من المحتمل أن لكتيب
إيفوك الصغير (Pagan
Imperialism)
تأثيرا تکوینیا بنيويا في دوغين الذي ترجم نقه من الألمانية إلى الروسية حينما كان
شابا يافعا في أواخر الحقبة السوفيتية.
ونتيجة لذلك، فإن إعادة تأويل إيفولا الغريبة للنزعة التقليدية
بدلا من نسخة غينون الأصلية لهذه العقيدة هي ما كان مستخدما في العديد من النصوص
التي كتبها اليمينيون الجدد الروس الملهمون من طرف توضیحات وتفسيرات دوغين الأولية
للنزعة التقليدية Traditionalism
وكثير من أعمال دوغين تعد خليطا بين المفاهيم التقليدية، ونظريات
إيفولا، والأفكار الجيوبوليتيكية، وإيديولوجية ألمانيا ما بين الحربين،
و"الثورة المحافظية.
يؤكد الباحث ليونید لوکس (Leonid Luks) أن كتاب إيفوك الصغير هذا وأثره التعليمي السوسيوسياسي كانا
حقيقة مصدرا مهما لعقيدة دوغين الأوراسية الجديدة.
ومثلما هو معروف فإن إيديولوجية "الثورة المحافظية"-
لكارل شمیدت، وأرثر مولير، وفان دین بروك، وإسفولد شبينغلر، وإرنست يونغر وغيرهم -
صارت شریگا سلبيا لحركة النازية في أثناء مرحلة جمهورية فيمار عبر المساعدة في
تقويض شرعية ديمقراطية ألمانيا الأولى بين جمهور القراء، بالرغم من دورها في
الحركة المناهضة للسلافية الأكثر فتكا في التاريخ، في الآونة الأخيرة، أحدثت
"الثورة المحافظية" عودة مثيرة للدهشة بين المثقفين الروس، ليس أقلها
الانتشار المستمر لأفکار دوغين في مقالاته وكتبه العديدة .
آمن دوغين دوما "بالأوراسية الجديدة" بوصفها عقيدة تحمل
خلاصا لكل المشكلات التي تعانيها روسيا، بل خلاصا لكل مشكلات الإنسانية، بنفس
الشكل الذي آمن به أتباع الماركسية أو الماوية... إلخ، بقدرة هذه العقائد على فعل
ذلك، بل وادعي أن الأوراسية الجديدة ستكون العقيدة القائدة في المستقبل، التي
ستجعل من روسيا قوة عظمى، ومع هذه النبوءة
آمن دوغين أن الأوراسية ينبغي أن تكون بمثابة "الأنوار الشمالية" للرئيس
فلاديمير بوتين ومساعديه، التي ستساعده جنبا إلى جنب مع القادة العالميين، على
صياغة إمبراطورية أوراسية وتشكيلها، كما أنه آمن بقدرة النظام الحالي على أن يكون
خارطة طريق لتجديد الشباب الروسي.
في سعيه لمواجهة طموحات الهيمنة الأمريكية العالمية، يدعو دوغين
روسيا لأن تتجنب التحول إلى مجرد ملحق للإمبراطورية الأمريكية، إذ عليها في نظره
أن تسعى إلى إيجاد مراکز متعددة للقوة، لا ينبغي أن تكون مرتبطة بالولايات المتحدة
وعولمتها، وأن ترى فيها مركزا، ولكن عليها خلق "فضاءات کبری" عديدة موحدة
عبر شبكة من التحالفات بين دول عديدة، ومثل هذا " الفضاء الكبير" من
شأنه أن ينتج مركزا جديدا للقوة.
يری دوغين هنا وجود العديد من مراكز القوة، أو ما يشبه
الإمبراطوريات الصغيرة الناشئة في المستقبل، يمكن أن تكون مثلا الاتحاد الأوروبي
أو اتحادات مختلفة، أو دولا منفصله في آسيا تشمل اليابان، والهند،
و"إسرائيل"، وتركيا، وبالطبع إيران التي يراها دوغين حجر الزاوية
لتحالفات أوراسيا، وأكثر حلفاء روسيا أهمية إن لم تكن الأهم على الإطلاق.
ينظر دوغين إلى الصين أيضا باعتبارها حليفا محتملا في مواجهة
الولايات المتحدة، إلا أنه ينظر للصين باعتبارها حليف الملاذ الأخير.
في الحقيقة، إن نظرة دوغين لعلاقات الصين مع أوراسيا نظرة ذات شك
بالرغم من الموقع الجيوبوليتيكي الأوراسي الواضح للصين. إن نشاط الصين التجاري
الكبير مع الولايات المتحدة إلى جانب إمكانية توسعها الديمغرافي في الشرق الروسي
البعيد وسیبیریا، كل هذه المسائل لا تزال تثير مخاوف دوغين.
مع ذلك، لا يزال دوغين يأمل أن تحدث ترتيبات جيوبوليتيكية ذكية، من
الممكن أن تجذب الصين إلى ائتلافي مناوئ لأمريكا ونشاطاتها الجيوبوليتيكية الخطرة.
على سبيل المثال، يقترح دوغين أن توجه الصين طموحاتها نحو الجنوب
بدلا من الشمال باتجاه روسيا. لذلك وبحسب دوغين، على أغلب دول أوراسيا أن تحشد
جهودها ضد هذا العدو المميت لكل شعوبها، وهو الولايات المتحدة، وأن تعمل على تشکیل
تكتلات دول، شبه إمبراطورية، ومنها تكتل الدول المسلمة، الذي سيكون إمبراطوريات
قوية، مستقلة ونووية؛
وعلى روسيا أن تساعد هذه "الإمبراطوريات النووية"، وأن
تعمل على نقل أسلحتها النووية إليها. *³
------------------------------------------------------------------
*¹ مستشرق روسي ڤيتالي ڤياتشيسلاڤوڤيتش ناؤمكين (بالروسية: Вита́лий Вячесла́вович Нау́мкин) ولد 21 أيار 1945 أحد
الوجوه اللامعة في مدرسة الاستعراب الروسية المعاصرة. وقد انتخب في مايو/أيار 2009
بمنصب مدير معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية.
*² الدب ينقلب نمرا الفصل الأول روسيا الولادة الجديدة طبعة رياض
الريس .. مكتبة فلسطين
*³ الطليعة العربية روسيا بوتين الجغرافيا السياسية
0 تعليقات