آرام كيوان
أنهيت قراءة كتاب صديقي الفذ مارك مجدي "أزمة الليبرالية في
مصر" وهو كتاب واضح ومتقن ومترابط وموسوعي، وغني عن البيان العمق التحليلي
الّذي يتميز به مارك.
كنت مهتمًا بموضوع الليبرالية العربية وقراءة كل ما يتعلق
بالموضوع، وكنت على قناعة تامة بأن البهلوانات الفكرية الّتي نراها هنا وهناك تحت
مسمى ليبراليين هم مجرد أفراد بائسين لا قيمة لهم، وأن تيارًا ليبراليًا عربيًا لم
يتكون في أي دولة ناطقة بالعربية، والليبراية في المنطقة حتى اليوم هي حالة فردية.
أذكر أنني ولتطوير نفسي في الموضوع طلبت من مارك مجموعة مراجع حول
الموضوع ولم يخيب ظني بكم وجودة المراجع الّتي بعثها، ولكن ما أفرحني أكثر هو ما
أردفه في نهاية حديثه: "عما قريب سيكون لي كتاب عن الموضوع".
يبدأ مارك في الفصل الأول من كتابه بوضع تعريف وعرض تاريخي لمفهوم
الليبرالية ومفكريها ونشأتها أوروبيًا في ظروف تفكك النظام الإقطاعي وكيف عبرَت
الليبرالية عن رؤية البرجوازية الثورية في أوروبا الّتي ترسي نظامها الرأسماليّ،
ومن ثم يعرج على التغيرات التاريخية الّتي طرأت في أوروبا وصولًا إلى
"النيوليبرالية" ويناقش ظهور النيوليبرالية كرد على الكينزية.
الفصل الثاني من الكتاب يقدم عرضًا وتحليلًا لتطور الرأسمالية
المصرية منذ عهد محمد علي واختلاف التكوينة الرأسمالية المصرية عن نظيرتها
الأوروبية، فقد كانت الرأسمالية الّتي نشأت في مصر عبارة عن رأسمالية زراعية
تشابكت مع بنى العالم القديم بعكس الأوروبية التي قامت بتفكيك البنى التقليدية للمجتمع،
إلّا أن البيئة الاجتماعية-الاقتصادية الجديدة في مصر شكلت مناخًا مناسبًا لظهور
أفكار جديدة بدأت بدعوات الإصلاح الديني انطلاقًا من جمال الدين الأفغاني، حتى
تشكل فضاء فكريّ مستقلٍ عنه في الحقبة البرلمانية حيث اكتسحت الأحزاب
"الليبرالية" المشهد السياسي في تلك الحقبة.
في الحقبة الملكية-البرلمانية تصدرت الأحزاب الليبرالية المشهد
ممثلة بحزب الوفد بالدرجة الأولى، ولكن أثر التكوينة الرأسمالية المفصومة بقي
عالقًا عند الوفد بعكس حزب الأمة الّذي قاده أحمد لطفي السيد، فعلي سبيل المثال في
قضية الشيخ علي عبد الرازق كان الوفد يغازل المزاج الرجعي للريف بينما اتخذ حزب
الأمة موقفًا ليبراليًا مبدئيًا.
عجز النظام البرلماني عن حل القضايا العالقة للمصريين تسبب بصعود
تنظيمات فاشية على شاكلة مصر الفتاة والإخوان، وعزوف الرأسمالية المصرية عن المسار
التنموي أفضى في النهاية إلى صعود الحداثة السلطوية ممثلة في الناصرية.. أعجبني
للغاية التشريح الّذي قدمه الصديق مارك للنظام الناصريّ وأقطابه، والذي في التحليل
الأخير استبعد الليبرالية من المشهد السياسي-الاجتماعي.
الفصل الثالث (وهو الأهم بالنسبة لي) مفتاح فهم واقع الدّولة
والنظام المصري الحالي، يعرض أسباب عزوف الرأسمالية المصرية عن تبني المشروع
الليبرالي وتحالف الدّولة والإسلاميين منذ عهد الانفتاح الاقتصادي والبترودولار في
عهد السادات الّذي مثل يمين الناصرية.
الكتاب هو مرجع مهم للغاية ولكن لدي ملاحظتان نقديتان:
1. عدم التوسع في دور الحروب في التكوينة السياسية-الاجتماعية
المصرية، رغم التحديد الصحيح لدورها في التطور الاجتماعي، ولكن مصر (الناصرية
تحديدًا) خاضت حروبًا مدمرة منذ العدوان الثلاثي (1956) حتى نكسة 67 وحرب
الاستنزاف وحرب اليمين، يجب التوسع في أثرها أكثر، اقتراحي هو إضافة عنوان مستقل في
الطبعة القادمة "أثر الحروب في التكوينة السياسية المصرية".
2. عدم ذكر انعكاس ما يحدث في مصر على المنطقة الناطقة بالعربية،
مصر هي مركز الدعوة الجذرية للحداثة في المنطقة والدعوة الجذرية الرافضة للحداثة
(الصحوة)، كلما ابتعدنا عن مصر تقل حدة صراع الحداثة-رفض الحداثة لتصل درجة
الميوعة والانعدام في أماكن معينة. وهذا ينطبق على كل المجالات أيضًا فإذا ما
أخذنا النضال ضد إسرائيل كمثال، فإنَّ دول المنطقة عاجزة عن دخول مواجهة حقيقية مع
إسرائيل منذ خروج مصر من المشهد في أعقاب اتفاقية إسطبل داوود.
ختامًا، ألف عافية لمارك على هذا المرجع المهم الذي وضع به قدمًا
مع المفكرين الكبار وأعتذر على الإطالة.
0 تعليقات