آخر الأخبار

كتاب كل يوم جمعة في فلسفة التاريخ (2/4) تدهور الحضارة الغربية

 

 


 

 

د. وسام محمد عبده

8 شعبان 1443 هـ

11 مارس 2022 مـ

 

 

كان الثاني على قائمتي بين هؤلاء الذين بحثوا في فلسفة التاريخ، الألماني أزفالد إشبنجلر، وكتابه (تدهور الحضارة الغربية)، والذي نشره للمرة الأولى عام 1918 مع نهاية الحرب العالمية الأولى، ومنذ ذلك الحين وهو موضوع مناقشة في الأوساط الفكرية، ومؤثرًا سلبًا وايجابًا في أفكار الكثيرين ابتداء من رجل الشارع البسيط الذي يعجزه أن يفهم اقتران التقدم الحضاري للإنسان بكم البؤس والشقاء الذي يشهده العالم، وصولًا إلى الفلاسفة والمفكرين السياسيين مثل فتجنشتاين وهنتنجتون. حاول إشبنجلر في كتابه (تدهور الحضارة الغربية) أن يصل من خلال قراءه عامة لتاريخ الإنسان ككل، إلى نموذج مجرد موضوعي لحركة التاريخ، وقد دفعه ذلك إلى البحث عن إجابات أساسية في الفلسفة التاريخية عما هو التاريخ والحقبة التاريخية، محاولًا رسم مفهوم الحضارة كوحدة بناء التاريخ، ومن ثم رسم دورة حياتها.

 

يعتبر إشبنجلر تقسيم التاريخ إلى حقب متمايزة أو إلى تواريخ قطرية يقضي على الفهم العالمي والإنساني للتاريخ، فمن خلال النظرة الإنسانية الواسعة للتاريخ، يستطيع الإنسان أن يفهم هويته وثقافته بصورة أفضل؛ كما يعتبر الفهم العالمي للتاريخ ميزة لما يصفه بالثقافات المنفتحة تاريخيًا، أي تلك الثقافات التي استطاعت أن تمارس عن وعي وإرادة دور تاريخيًا باستمرار، في مقابل الثقافات المصابة بالانكفاء التاريخي، حيث يشعر المنتمين لهذه الثقافات بأنهم لا يحتاجون للتواصل مع غيرهم من الثقافات؛ وعلى الرغم أن إشبنجلر ضرب مثلًا للثقافات المنكفئة تاريخيًا بالثقافة الهندية، واعتبر الثقافة الغربية من الثقافات المنفتحة تاريخيًا والتي تعتبر نفسها جزء من العالم والتاريخ، إلا أني أرى أن لم يكن موفقًا في اعتباره الثقافة الغربية ثقافة منفتحة تاريخيًا، فهو في نقده للتصور التاريخ التقليدي المقسم لحقب، والذي ابتدأ منها بحثه في معنى التاريخ، يعيب على الثقافة الغربية نفسها أنها تعتبر أنها العالم، ضاربًا أكثر من مثل على عمق هذا التصور في الثقافة الغربية منذ زمان اليونان إلى زمانه، أي أن الحضارة الغربية وسلفها اليوناني/الروماني حضارة منكفئة تاريخيًا على حد تعبيره.

يحاول إشبنجلر في كتابه تتبع دورة حياة الحضارة، إذا يتصور الحضارة كائن حي، في بداياته تغلب عليه البنية البدائية المتمايزة، أفراد متمايزين، عشائر ...، ولكنه هذه البنى المتمايزة يجمعها ما أطلق عليها إشبنجلر اسم الثقافة والتي تتمثل في الأساطير والقيم وطرق العيش بصورة أساسية؛ وفي هذه المرحلة الأولى من دورة حياة الحضارة، فإن الكائن المسمى بالحضارة يتصف بصفتين؛ الصفة الأولى غلبة المنتج الفكري والروحي والأخلاقي على هذه المرحلة، ففي هذه المرحلة تكتب الأدبيات والملاحم الشعرية والأعمال الروحية، فالكلاسيكيات الأدبية اليونانية/الرومانية مثل الإلياذة والأدويسة هي وليدة تلك الفترة الأولى؛ والصفة الثانية نزوع الحضارة الناشئة للتوسع على حساب محيطها معللًا ذلك بأن الحضارات القديمة في هذا المحيط تحاول أن تحجم الحضارة الناشئة وحاجة الحضارة الناشئة إلى مجال يوفر لها احتياجات النمو، ويضرب مثلًا على ذلك التوسع الروماني على حساب قرطاجه، والفتوح الإسلامية في صدر الإسلام، وحركة الكشوف وبناء الإمبراطوريات الغربية في القرون من الخامس عشر للثامن عشر. تنمو الحضارة ككائن حي، وتصبح بنيتها أكثر تركيبًا وتخصصية، فتظهر الطبقات والتنظيمات، وفي هذا المرحلة من دورة الحياة التي يتتبعها إشبنجلر ينضج كائنه الحي ويصبح الحضارة، فتتبدل صفات هذا الكائن، فيبدأ الإنتاج المادي والاحتفالي مثل العمائر وأقواس النصر يهيمن بينما ينحدر الإنتاج الفكري، كما أن الحضارة تتوقف عن التوسع، وتقبع خلف حدود ثابتة تحميها من محيطها.

 

وفي إطار مقارنته ما بين مرحلة الثقافة ومرحلة الحضارة الناضجة، نجد إشبنجلر يلجأ إلى مثال القرية والمدينة، فالقرية وسكانها يمثلون مرحلة الثقافة في دورة حياة كائن الحضارة، بينما المدينة هي المرحلة الأخيرة من هذه الدورة؛ سكان القرية أكثر تقديرًا للقيم الأسرية والقيم الروحية يعتمدون على المعايير الأخلاقية لتقييم الأعمال والأفراد، وهم أيضًا أميل للتواصل مع الطبيعة وجمالياتها ومتعها، في حين أن أهل المدن ينزعون للفردية، ويعتمدون على قيم مادية صرفة في تقييم الأعمال والأفراد، واستبدلوا العناصر الطبيعية في مدنهم بالمسارح والمكتبات وقاعات الاحتفالات والأندية الرياضية.

 

تشكل الثقافة، المادة الأولى للحضارة، عدة مؤثرات؛ منها العرق والذي يربط بينه وبين الثقافة بعلاقة جدلية، فالناس يصنعون الثقافة، والثقافة تغير تصورات الناس وطريقة عيشهم؛ كما ينظر بشكل خاص إلى تأثير الدين في تشكل الثقافة ونمو الحضارة، حيث يقوم الدين بتشكيل الثقافة، ولكنه مع تحول الثقافة إلى حضارة، يفقد الدين حقيقته ووظيفته، ويتحول إلى شعائر فارغة المعنى ومؤسسات احتفالية، ومن ثم تبرز الحاجة للإصلاح الديني والمتزامنة مع حركة تشكك في الدين وجدواه ودعوة لمادية صرفة لا مكان للدين فيها، وهذه الدعوة الأخيرة لابد وأن تؤدي من حالة من الخواء الروحي تستدعي انبعاثه جديدة للدين، إلى فترة قبل أن تتكرر تلك الدورة من جديد. وهذه الصراع الجدلي ما بين الدين والمادي هو في الواقع صراع ما بين الثقافة والحضارة، وغلبة الأول يعني استمرار نمو الحضارة، وغلبة الثاني تعني احتضار الحضارة.

 

وقد خلص إشبنجلر في دراسته لتاريخ العالم إلى أن هناك ثماني حضارات راقية عبر التاريخ، البابلية والمصرية والهندية والصينية والمايا/الأزتك واليونانية/الرومانية والعربية والغربية، اهتم بالحضارات الثلاثة الأخيرة على وجه الخصوص حيث اعتبرها حضارات منفتحة تاريخيًا، أي أنها كانت ذات طبيعة عالمية وإنسانية لفترة طويلة من التاريخ. وكأي كائن حي، أو حتى كإنسان، فإن كل حضارة في تصور إشبنجلر لها طابع عام، فطابع الحضارة اليونانية/الرومانية طابع أبوللوني، يحتفي أناني بالقيم الحسية واللحظة الحالية ويجعل من هذه الحضارة مركز العالم والوجود، فإذا كتب يوناني التاريخ، فلا تاريخ قبل اليونان، وإذا فعل ذلك روماني، فلابد أن يكون كل من سبق الرومان برابرة. كان نيتشه، والذي تأثر به إشبنجلر، يرى في كتابه (مولد التراجيديا) أن الحضارة اليونانية/الرومانية كانت صنعتها نزعتان متعارضتان، وصف أحدها بالأبوللونية والأخرى بالديونيوسية، الأول تمثل العقل والانضباط والالتزام، بينما تمثل الثانية باللاعقلانية والفوضوية والجموح، فغلب إشبنجلر الأولى على الثانية حتى وصف بها الحضارة اليونانية/الرومانية كلها. أما الحضارات العربية، وهو يجمع تحت مظلتها اليهود والنصارى العرب، إضافة إلى المسلمين عربًا وغير عرب، ويصف هذه الحضارة بالكلمة الألمانية magisch والتي ترجمت إلى الإنجليزية magian، أما في الترجمة العربية فقد استخدم المترجم كلمة المجوسي للتعبير عن هذا اللفظ، وفي رأي فإن هذا مثال على جناية الترجمة على النصوص الفلسفية، فالفيلسوف إذ يعبر عن رأيه إنما يستخدم اللفظ في سياق بيئته لحظة أن صاغ رأيه كلمات وعبارات، وما كانت كلمة magisch الألمانية أو magian الإنجليزية، تعني مجوسي بمعنى من يتبع الدين المجوسي، استخدمت لتعني ما هو روحاني وما هو عرفاني، أو الاعتقاد بأن خلاص الروح يأتي عبر اكتساب المعرفة الكونية عن طريق الكشف والوحي والتأمل، وليس عن طريق الممارسة التجريبية أو الفلسفية، وفي هذا السياق نجد إشبنجلر يصور الحضارة العربية الإسلامية في صورة إنسان يعيش في كهف/قبة المسجد، حيث يحصل عن إجاباته عن العالم الخارجي عبر الصلاة والوحي، ولا يخفي رمزية الكهف في الأدبيات الفلسفية الغربية. بينما يرى إشبنجلر أن الحضارة الغربية بدأت صعودها في القرن العاشر، حيث انطلقت حركتها التوسعية على حساب الحضارة اليونانية/الرومانية، وبحلول القرن العشرين كانت قد سادت العالم كله، إلا تلك البقاع الذي هيمن عليها الإسلام وتصوراته حول الوجود والانسان والطبيعة والتاريخ، ويصف إشبنجلر الحضارة الغربية بأنها طُبعت بطابع فاوست، الشخصية التي يستعيرها إشبنجلر من شاعره المفضل جوته، وفاوست في الثقافة الألمانية رمز للإنسان الذي تخلى عن روحه من أجل المنفعة المادية والقوة والمعرفة.

 

ينتقد إشبنجلر قيم الحضارة الغربية الأساسية، الديمقراطية والرأسمالية وحرية الإعلام، فالديموقراطية والإعلام في الحضارة الغربية، وفقًا لوجه نظر إشبنجلر، مستخدمتين من قبل رأس المال، فالديمقراطية في الواقع هي الإطار الذي يمكن من خلال رأس المال الهيمنة على العملية السياسية، ومن يستخدم رأس المال المؤسسة السياسية من أجل مصلحته، فواقع الديمقراطية الغربية كما يصوره إشبنجلر أنها مختطفة من قبل رأس المال وخدعة للسيطرة على المواطنين؛ ويلعب الإعلام دورًا اساسيًا في عملية إخضاع المواطن الغربي، فيستبدل صناعة الرأي عن طريق الحوار بين أفراد المجتمع والذي كان سائد في عصر ما قبل الطباعة والصحف، إلى صناعة الرأي بالتوجيه من أعلى من خلال تكريس نخبة مستخدمة من قبل رأس المال لتوجيه الرأي العام. ويعطف إشبنجلر في نقده لقيم الحضارة الغربية، على نقد مؤسساته فنجد ينتقد في سياق نقده للديمقراطية المؤسسات السياسية الغربية وعلى رأسها الأحزاب، كما ينتقد المؤسسات التعليمية دون الجامعية والجامعية.

 

يخلص إشبنجلر إلى أن الحضارة الغربية قد بلغت مرحلة الاحتضار، مستدلًا على ذلك بأدلة منها عجزها عن التوسع، سواء التوسع جغرافيًا بالاستيلاء على مزيد من الأرض، أو ثقافيًا بالهيمنة على مزيد من العقول وفرض تصوراتها وقيمها خارج نطاقها الجغرافي؛ ومنها غلبة المادي المطلقة عليها واندثار الروحي، وما صحب ذلك من حالة من الخواء الروحي بين أبناء الحضارة الغربية؛ ويذهب إشبنجلر إلى أننا نشهد آخر أيام ازدهار الغرب وأولى لحظات اندثاره، ولكنه يشدد في الوقت نفسه على أن مرحلة الاندثار هذه لا تحدث في مدة جيل أو جيلين، بل تستغرق بضعة قرون، وقد تستطيع الحضارة الغربية تأجيل مصيرها خلال هذه القرون باسترجاع حيويتها الثقافية.

 

ربما يكون إشبنجلر قد بدأ تأليف كتابه في عام 1910 وانتهى منه عام 1914، ولكن المؤكد أنه نشر للمرة الأولى عام 1918، بينما كانت بلده ألمانيا في سبيلها للهزيمة المذلة في الحرب العالمية الأولى، وقد رحب المجتمع الثقافي الألماني بالكتاب، ربما لأن إشبنجلر قد منحهم تفسيرًا للهزيمة التي تعرضت لهما بلدهم، وجعل منها قدرًا في حتمية تاريخية لا فكاك منها، ومع ذلك فقد كان على إشبنجلر أن يواجه هجوم اليمين واليسار في آن واحد، فأتهمها اليمين بأنه يروج للأفكار الماركسية، في حين أتهمه انصار الماركسية بأنه يشوه قضيتهم، وكان عليه أن يجادل عن طرحه حول الاشتراكية الألمانية المتوائمة مع الطابع الألماني المحافظ والمختلفة عن الماركسية والمتعارضة معها.

 

أقر إشبنجلر في كتابه بأنه قد تأثر بالشاعر والمفكر الألماني يوهان جوته، والذي نجد إشبنجلر يصدر كتابه بأبيات من شعره؛ كما تأثر بفردريك نيتشه والذي يركن في كثير من مواضع الكتاب إلى نقده الثقافي وينطلق منها؛ كما أن من نقاد الكتاب من أشار إلى تأثير المؤرخ الألماني إدوارد ماير علي إشبنجلر، وأنه قد أخذ عن ماير نظرته إلى الدورات التاريخية؛ وعلى الرغم أن الروح الخلدونية ظاهرة في تمثيل الحضارة بالكائن الحي، الذي ينمو ويزدهر ويتدهور ويموت، إلا أن إشبنجلر لم يشير من قريب أو من بعيد إلى تأثره بالمفكر العربي ابن خلدون. ونجد إشبنجلر حاضرًا ومؤثرًا في العديد من المفكرين، فنجد الفليسوف لودفيج فتجنشتاين يعلن في كتابه الثقافة والقيمة عن تأثره بإشبنجلر وعمله تدهور الحضارة الغربية، وكذلك صرح مارتين هايدجر ضمن مراسلاته مع كارل ياسبرز؛ وفي الخمسينات والستينات حاول أدورونو من رواد مدرسة فرانكفورت النقدية الماركسية على ترويض فكر إشبنجلر وتطهيره مما نعته أدورنو بالتوجهات الرجعية؛ كما نجد إشبنجلر حاضرًا بقوة في عمل المفكر السياسي اليميني الأمريكي صمويل هنتنجتون صدام الحضارات.

 

ولد أوزفالد إشبنجلر في برونسفيك في ألمانيا عام 1880، وتوفي في ميونخ عام 1936؛ تلقى تعليمه في عدة جامعات في ألمانيا منها جامعة ميونيخ وجامعة برلين، وحصل على الدكتوراه في فلسفة هيراقليطيس الماورائية؛ ثم عمل مدرسًا في المدارس الثانوية في دوسلدورف وهامبرج، ثم أنتقل مع بداية الحرب العالمية الأولى إلى ميونيخ حيث بقي إلى أن وافته المنية، حيث مسته الفاقة أبان الحرب وراح يكسب معاشه من العمل معلمًا مؤقت في المدارس ومحرر لبعض الصحف، وبعد الحرب حاول الاشتغال بالسياسة ولكنه سرعان ما انسحب من عالم السياسة، وفيما بعد عارض النازية وألف رسالة بعنوان ساعة القرار حذر فيه من حرب عالمية وشيكة تودي بالغرب، ومنعت السلطات كتابه هذا، وقد انعزل بعد المنع عن العالم وراح يمضي وقته في القراءة والاستماع للموسيقى إلى أن توفي.

 

أثر كتاب إشبنجلر في النخب الثقافية العربية عامة، ولعل ذلك التأثير سببه اهتمام هذه النخب بتوقعاته حول نهاية الغرب، وترجم الكتاب إلى اللغة العربية المترجم أحمد الشيباني، وترجمته ممتازة واضحة المعنى جيدة العبارة، وقدم لها بدراسة للكتاب ومؤلفه، وقد صدرت هذه الترجمة في مجلدين عن دار مكتبة الحياة البيروتية.

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات