آخر الأخبار

فلسفة التاريخ (3/4) – ما هو التاريخ؟

 

 


 

 

د. وسام محمد عبده

النصف من شعبان 1443 هـ

18 مارس 2022 مـ

 

عالج توينبي وإشبنجلر مادة التاريخ بحثًا عن سنن الفلسفة الكامنة فيها، وحاولا أن يجدا قوانين موضوعية يمكن من خلاله تفسير حركة التاريخ، وربما داعبتهما فكرة توقع أحداث المستقبل استنادًا إلى نماذجهما، وهو ما فعله إشبنجلر بالفعل عندما أقدم على توقع بداية تدهور الحضارة الغربية مع بداية القرن الحادي والعشرين؛ ولكن أحدًا منهما لم يعالج فلسفة التاريخ من حيث هو فرعًا من فروع المعرفة، وهذا ما تصدى له المفكر والمؤرخ البريطاني إدوارد كار في كتابه المعنون (ما هو التاريخ؟)، وأصل مادة هذا الكتاب مجموعة من المحاضرات التي ألقاها كار في جامعة كامبرديج في الفترة من يناير وحتى مارس 1961، ثم جمعت في هذا الكتاب. لا يبحث كار في كتابه هذا مادة التاريخ؛ الإنسان والحضارة والبيئة؛ ولكنه يبحث في المفاهيم المؤسسة لعلم التأريخ أو الكتابة التاريخية ببساطة. فهو يطرح في كتابه أسئلة لازم إجابتها لفهم ما هي عملية الكتابة التاريخية، أسئلة تتمحور حول من هو المؤرخ، وما هي الواقعة التاريخية، ومصداقية الكتابة التاريخية.

 

في النصف الأول من القرن العشرين، كانت مدارس الكتابة التاريخية السائدة في غرب أوروبا وبريطانيا تزعم أن هناك رواية تاريخية واحدة صحيحة، ويمكن الوصول إليها باستخدام مجموعة من الأدوات المنهجية والتي يتم تطبيقها بموضوعية على المصادر التاريخية للوصول إلى هذا الرواية. ولا أجد مثال على هذا الفهم للكتابة التاريخية بدقة تعبير طه حسين الذي اعتمد هذا المنهج في كتابه المثير للتساؤل في الشعر الجاهلي إذ كتب يقول «والناس جميعًا يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كل شيء يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوًا تامًا. والناس جميعًا يعلمون أن هذا المنهج الذي سخط عليه أنصار القديم في الدين والفلسفة يوم ظهر، قد كان من أخصب المناهج وأقومها وأحسنها أثرًا، وأنه قد جدد العلم والفلسفة تجديدًا، وأنه قد غير مذاهب الأدباء في أدبهم والفنانين في فنونهم، وأنه هذ الطابع الذي يمتاز به هذا العصر الحديث» [في الشعر الجاهلي، دار الكتب المصرية، 1926 ص: 11-12.

 

 وكان هؤلاء الذين يؤمنون بوجود رواية واحدة موضوعية وصحيحة للتاريخ يستمدون إيمانهم هذا من انبهارهم بالمناهج المطبقة في العلوم المادية مثل الفيزياء والكيمياء وما يميز هذه المناهج من موضوعية وحتمية، ومن ثم حاولوا استنساخ هذه المناهج في العلوم الإنسانية، فحسبوا أن بوسعهم أن يحصلوا على رواية تاريخية واحدة موضوعية.

 

ولكن منذ بداية القرن العشرين، شهدت الكتابة التاريخية محاولات تناولت التاريخ بطرق مختلفة وأفضت بروايات تكاد تكون متعارضة لنفس الحدث التاريخ معتمدة في ذلك على علم النفس أو الاقتصاد أو الاجتماع؛ كان من اليسير على أنصار مذهب الرواية التاريخية الموضوعية المتشددين مهاجمة المناهج التي أنتجت الروايات التاريخية المتضاربة، واتهامها بأنها مناهج غير علمية، ولكن اعتراضهم لم ينال من حقيقة أن هذه المناهج أدت إلى تفسيرات كثيرة مقبولة للوقائع التاريخية، مما يشكك في فكرة الرواية التاريخية الواحدة الموضوعية. وجاء كتاب إدوارد كار بمثابة شهادة وفاة لفكرة الرواية التاريخية الواحدة الموضوعية، ففي كل سؤال يطرحه كار في كتابه، وما يتبعه من مناقشة لهذا السؤال، كان يهدم ركن من أركان هذه الفكرة، حتى إذا انتهى من كتابه، انتهت فكرة الرواية التاريخية الواحدة الصحيحة.

 

انطلق كار في كتابه من سؤال تأسيسي في الكتابة التاريخية، ما الذي يجعل حدث ما تاريخي وحدث آخر غير تاريخي؟ ويجيب كار عن هذا السؤال ببساطة بأنه ليس هناك سبب موضوعي وراء تعيين حدث ما بأنه تاريخي، وأرجع هذا إلى أن أن المصادر التاريخية التي وصلتنا هي التي يمكن أن تحدد ما هي الواقعة التاريخية، بينما يمكن أن يكون هناك واقعة أهم منها ولكن مصادرها ضاعت مما يجعل هذه الواقعة ثانوية أو حتى مجهولة للمؤرخ، ويضرب كار مثلًا على ذلك بأننا اليوم ننظر إلى تاريخ أثينا باعتباره أهم من تاريخ غيرها من المدن اليونانية وأثرى أحداثًا وأكثر تأثيرًا على واقعنا اليوم، ولكن نظرة متفحصة تبين لنا أن ما بين أيدينا من مصادر يدور حول أثينا بينما المصادر المتعلقة بغيرها من المدن لم تصلنا أو فقدت، ومن العصر الحديث يضرب مثلًا التدمير والتشويه الممنهج الذي قام به ستالين لمصادر تاريخ آل رومانوف خاصة المتأخرين منهم.

 

ولكن تحديد الحدث التاريخي بناء على المصادر لا يمكن أن يؤدي إلى تعدد الروايات التاريخية، وهنا يقرر كار صراحة إلى أن انتخاب ما هو تاريخي من ضمن مجموعة وقائع يخضع إلى اختيار المؤرخ نفسه، هادمًا بذلك فكرة موضوعية المؤرخ، فكار يرى أنه لا يمكن للمؤرخ أن ينفصل عن واقعه وبيئته وثقافته أثناء دراسته التاريخ، سواء في اختياره لما هو الحدث التاريخي، ولا في طريقة تفسيره لهذا الحدث التاريخي، فالكتابة التاريخية إذا عملية تفاعل بين الماضي والحاضر، ولما كان حاضر هيرودوت غير حاضر ديورانت، فالرواية التاريخية التي يقدمها هيرودوت غير تلك التي يقدمها ديورانت. يضرب كار العديد من الأمثلة على كيف يمكن أن يؤثر حاضر المؤرخ وقيمه وتصوراته في تفسيره للتاريخ، منها مثلًا ما اعتبره بعض المؤرخين الأوروبيين المعاصرين لكار خطيئة تاريخية للمتحاربين في حرب الثلاثين – حروب بين البروتستانت والكاثوليك دارت في النصف الأول من القرن السابع عشر واشتركت فيها دول أوروبا عدا بريطانيا – بسبب تقديمهم الانتماء للعقيدة على الانتماء للقومية، وبين كار أن المؤرخ في هذا الحكم ينطلق من تصوره للقومية من منظور ليبرالي معاصر، في حين أن هؤلاء المتحاربين في القرن السابع عشر لم يتصوروا القومية ابتداء. ويقرر كار أن «الكلمات التي يستخدمها (المؤرخ) – كالديموقراطية والإمبراطورية والحرب والثورة – لها دلالات ضمنية لا يمكنه فصلها عنها».

 

ويستخدم كار صورة مجازية ليعبر بها عن مفهومه لما هو حدث تاريخي وكيف يتحول إلى رواية تاريخية، حيث يشير إلى أن المؤرخ في تحديده لما هو واقعة تاريخية أشبه بالصياد الذي يصطاد سمكة من البحر، دون أن يرى ما تحت البحر فهو يصطاد فقط من ضمن ما يصله من الأسماك، ولكن عملية الصيد نفسها قد تختلف باختلاف المكان الذي يقف فيه الصياد من الشاطئ، وهذا المكان نفسه يختاره الصياد بناء على تصورات وقيم تخصه وحده، وهكذا تتعدد الروايات التاريخية.

 

وبذلك يكون كار قد وصل لذروة الصدام مع أصحاب الرواية التاريخية الواحدة الصحيحة، معلنًا بأن المنهج المستخدم في الكتابة التاريخية إذ يتأثر بتصورات المؤرخ وبمجتمعه وبيئته، لا يمكن ان ينتج عنه رواية واحدة للواقعة التاريخية، ولا يمكن أن ينتج رواية موضوعية، بل لابد وأن ينتج مجموعة من الروايات التي فيها نسبة من الحقيقة والموضوعية بقدر إدراك المؤرخ لتأثير تصوراته الشخصية وبيئته على عمله ومدى تجاوزه لهذا التأثير؛ كما ينفي أن يكون للمنهج المستخدم تأثير في موضوعية الرواية التاريخية، ضاربًا مثلًا للمنهج المستخدم في الكتابة التاريخية بالبوصلة النافعة للمسافر، ولكنها في الوقت نفسه ليست خريطة للطرق تقود المسافر؛ هكذا تصبح كل رواية تاريخية بنسبيتها مكافئة لأي رواية أخرى، ولا يمكن الزعم أن ما جاء به مؤرخ هو الرواية الصحيحة والموضوعية الوحيدة.

 

ويخلص كار إلى أن خصائص النسبية في الكتابة التاريخية ما يجعل التأريخ مهمة مستمرة، لأن التأريخ هو إعادة إنتاج الحدث التاريخي بتأثير واقع المؤرخ، ولذلك فإن أي تفسير للتاريخ أو رواية تاريخية هي وابنة زمنها، وهذا ما يجعل الرواية التاريخية أو تفسير التاريخ مؤقت بطبعه، وخاضع لإعادة التقييم المستمر وفقًا لتطور الظروف الاجتماعية والاقتصادية والتصورات الثقافية.

 

أثارت المحاضرات، ولاحقًا الكتاب، عاصفة بين المؤرخين خاصة في بريطانيا، وتمحور نقد خصوم كار لعمله حول نقطتين أساسيتين، الأولى أنه وفقًا للآراء التي طرحها كار، تضحي الكتابة التاريخية مجرد عملية تلفيق للوقائع التاريخية كما يراها المؤرخ؛ لكن في واقع الحال كانت أراء كار تعكس ما شهده ويشهده العصر من شك عميق حول طبيعة المعرفة الإنسانية، ودقة وموضوعية المناهج الموصلة لهذه المعرفة. أما الثانية، فقد رأى بعض نقاد كار أن عمله هو بمثابة إعادة إنتاج لأفكار مواطنه روبن كولينجوود حول نسبية التاريخ؛ وهو نقد ظالم لأن كار انتقد في كتابه أفكار كولينجوود والذي كان يقول بنسبية الرواية التاريخية كما فعل كار، إلا أنه أرجع تحريف الرواية التاريخية إلى عملية عقلية صرفة تحدث بصورة لا واعية في عقل المؤرخ، وهو ما يجعل الرواية التاريخية ليست نسبية بقدر ما هي ذاتية، وهي الفكرة التي ناقشها من قبل الألماني نيتشه عندما زعم أن ما يدعيه المؤرخ من رواية تاريخية، هو في واقع الأمر محصلة عملية توفيق ما بين أهداف المؤرخ والمادة التاريخية التي يعالجها. ووفقًا لكار فإن كولينجوود – وكذلك نيتشه - الذي انطلق من نقد من يزعم بأن هناك رواية تاريخية واحدة صحيحة، إلى الزعم بأن هناك عدد لا نهائي من الروايات لنفس الحدث التاريخي والتي تشترك في كونها ذاتية، هادمًا بذلك أي قيمة أو موضوعية للكتابة التاريخية.

 

ومع ذلك، أثر كتاب كار في مناهج الكتابة التاريخية في الغرب عامة وبريطانيا خاصة، ولعل مقارنة كتابات المؤرخين الغربيين عامة قبل خمسين عامًا مضت واليوم، يجد ما يؤكد نظرية كار، فبعدما كان كثير من المؤرخين يستخدمون مصطلحات تفيد الجزم عند التعامل مع التاريخ (الدافع الواقعي) و(الحدث الحقيقي)، أصبح المؤرخين يستخدمون مصطلحات أكثر تواضعًا من قبيل (ويُعتقد أن الدافع) أو (وربما كان الحدث)، وهو ما يفيد تحولهم عن النظرة التحديدية المتزمتة والمغرورة إلى نظرة نسبية متواضعة. واليوم، وبعد مرور ما يقرب من ستين عامًا على تأليف (ما هو التاريخ)، أصبح هذا الكتاب من كلاسيكيات الفلسفة التاريخية، وفي العام 2017 قامت دار بنجوين البريطانية الشهيرة بإعادة إصدار الكتاب ضمن سلسلتها من الكلاسيكيات؛ أما النسخة العربية، فقد تأخرت إلى عام 1986، حيث نشرتها المؤسسة العربية للدراسات والنشر البيروتية بترجمة ماهر الكيالي وبيار عقل، وصدرت عام 2018 ترجمة أخرى للمترجمة ريهام عبد المعبود نشرتها دار عالم الأدب البيروتية.

 

ولد إدوارد هالت كار في لندن عام 1892، لأسرة تنتمي للطبقة الوسطى. وعلى الرغم من شهرته كمؤرخ، إلا أنه لم يكن كار مؤرخًا بالمعايير التقليدية. لم يدرس التاريخ في الجامعة، ولم يحصل على درجة الدكتوراه في حقل التاريخ ولا سلك المسار الأكاديمي التقليدي. درس الآداب الكلاسيكية في جامعة كامبريدج وتخرج منها عام 1916، حيث التحق من فوره بالعمل في وزارة الخارجية، وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، شارك ممثلًا لبلاده في مؤتمر السلام في باريس عام 1919، كما شارك في صياغة معاهدة فرساي، وساهم في مفاوضات إنشاء عصبة الأمم. في الفترة بين عامي 1925 و1929 شغل كار منصب سكرتير السفارة البريطانية في ريجا عاصمة لاتفيا، والتي كانت تعج بالمهاجرين الروس الفارين من البلاشفة، وفي هذا المناخ بدأ الإعجاب بالثقافة والآداب الروسية يستحوذ على كار، فتعلم اللغة الروسية، وأنكب على قراءة كل ما تصل له يده من الكتب الروسية، وراح يكتب في الصحف البريطانية عن روسيا وآدابها، كما كتب سيرة لحياة أديب روسيا الكبير دستوفسكي وأخرى عن الفوضى الروسي ميخائيل باكونين وثالثة عن الفيلسوف الألماني كارل ماركس؛ وفي الخمسينات بدأ نشر أهم أعماله السفر ذي الأربعة عشر مجلدًا المعنون تاريخ روسيا السوفيتية؛ وقد أهله هذا كله أن أصبح خبيرًا في الشئون الروسية، يدعى للمشورة في دوائر الحكومة البريطانية والمؤسسات البحثية والصحف والمجلات.

إرسال تعليق

0 تعليقات