د. وسام الدين محمد
السادس من شعبان 1443 هـ
التاسع من مارس
كان زرادشت الشخصية الفكرية الأهم في التاريخ الإيراني، ولكن في
القرن الثالث الميلادي ظهر ماني ليقف إلى حين بفكره على قدم المساواة مع زرادشت.
وعلى الرغم أن فكر زرادشت ظل ضاربًا جذوره عميقًا وحاضرًا دائمًا في الفكر
الإيراني القديم، إلا أنه ظل محصور بين شعوب الهضبة الإيرانية، ولم يقدر له انتشار
واسع خارج هذا البلد؛ وعلى العكس منه كان فكر ماني الذي امتد من هضبة التبت إلى
شمال افريقيا وروما، ولعل هذا الانتشار الواسع للمانوية كان وراءه أن هذا الفكر
كان الأقرب روح العصر الذي ظهر فيه ماني، روح التوفيق ما بين الأفكار المختلفة،
فكان ما يطرحه ماني مقبولًا من وجه عند الهندي الذي يبجل بوذا، ومقبول من وجه آخر
عند الإيراني الذي يؤمن بزرادشت، ومقبول من وجه ثالث لدى المسيحي، وهكذا استطاعت
المانوية أن تجد لنفسها موطأ قدم في كل مكان في العالم المتحضر يومئذ.
سيرة حياة ماني:
ظلت معرفتنا حول شخصية ماني وافكاره تستند إلى مصادر إسلامية أهمها
فهرست ابن النديم والشهرستاني وكتابه الموسوعي الملل والنحل، وكتاب أبي ريحان
البيروني المسمى الآثار الباقية من القرون الخالية، اما المصادر المسيحية التي
تناولت ماني وافكاره فلا يمكن الاعتماد عليها، لأنها كتبت من طرف خصوم لهذا الفكر
وفي ذروة النزاع مع هذا الفكر، فكان هؤلاء متحاملين عليه فيما يكتبون. وفي القرن
العشرين عثر في مصر وفي التبت على كثير من أدبيات المانوية التي تعود إلى القرن
الخامس الميلادي ضمت معلومات تفصيلية هامة حول شخصية ماني وتعاليمه وأكدت على كثير
مما نقل المسلمون عنه.
وفقًا لهذه المصادر، ولد ماني في نحو عام 217م في المدائن في
العراق، ومات نحو عام 277م في جندسابور، وكان والداه نبيلين من البارثيين، ولكن
والده قبل مولده كان قد اعتنق عقائد طائفة تسمى الخاساي، وهي طائفة كانت تعتنق
خليط من العقائد المسيحية البدائية وتأثرت بالمندائية التي يزعم أصحابها أنها دين
النبي يحي عليه السلام؛ ولما كانت هذه الطائفة مقتصرة على الذكور، فقد هجر والده
أمه، وأنتقل للعيش في دير للطائفة، وعندما ولد ماني صحبه والده ليعيش في الدير
وينشأ بين أفراد الطائفة.
ويعتقد أتباع ماني أنه قد أوحي إليه مرتين، الأولى وهو في الثانية
عشرة من عمره، حيث ظهر له كائن روحي أخبره بأن تعاليم الخاساي خاطئة، وفي الثانية
كان قد بلغ الرابعة والعشرين من عمره، فأمره الكائن الروحي بمغادرة دير الخاساي،
وبدأ في الترحال حيث يفترض أنه زار الهند والصين وخراسان ناشرًا تعاليمه في هذه
البلاد كما ذكر ابن النديم، ثم عاد ماني إلى إيران حيث استقبله سابور الأول في
بلاطه، وبسط عليه حمايته على الرغم أنه لم يعتنق تعاليمه. وألف ماني كتاب جمع فيه
تعاليمه وكرسه لسابور كما يبدو من اسم الكتاب شابورقان، كما يثبته البيروني، الاسم
الذي يعني (إلى شابور)، وهذا الكتاب هو الأثر الوحيد لماني المكتوب باللغة
الفارسية. ويعتقد البعض أن سابور استقبل ماني في بلاطه ليس كداعية ديني، ولكن
كفنان، حيث اشتهر ماني باسم الرسام لبراعته في الرسم، وتنسب له مدرسة فنية في
الرسم ظلت تهيمن على فن الرسم في إيران إلى اليوم، كما ابتكر ماني خطًا خاصًا –
أسماه ابن النديم الخط المناني نسبه لماني - استخدمه في كتابه تعاليمه، وكذلك فعل
أتباعه من بعده. لاقت تعاليم ماني رواجًا بين أبناء الطبقات النبيلة في
الإمبراطورية الساسانية، وتصف المصادر المتاحة استقبال ماني في بيوتات هذه الطبقة،
كما نسبت إليه معجزات مختلفة قدمها لهؤلاء المعجبين والمؤمنين الجدد.
وعندما توفي سابور الأول، خلفه على العرش ابنه هرمز الأول، الذي
واصل سياسة الحياد الديني، فاستقبل هرمز في بلاطه المفكر الزرادشتي الزورفاني
المتعصب كرتير ومنحه رعايته، وإن ظل في الوقت نفسه على عهد والده من رعاية ماني
وحمايته؛ ولكن الوضع أنقلب بعد وفاة هرمز الأول وصعود أخيه بهرام الأول بمساعدة
كرتير والمجوس، فبدأ بتحريض من كرتير باضطهاد ماني وأتباعه، فأعتقل ماني وسجن،
وبعد بضعة شهور أعدم أو مات.
عالم ماني
كان طابع العصر الذي عاش فيه ماني تلفيق الأفكار المختلفة
والمتضادة في كثير من الأحيان، وكانت هذه الحركة قد بدأت مع محاولة الإسكندر إنشاء
حضارة هلنستية جديدة في إمبراطوريته تجمع ما بين الثقافات المختلفة، ولكن هذا
الجمع بين الثقافات المختلفة أفضى في القرن الثالث الميلادي إلى مزج أفكار متعارضة
ونشوء حركات فكرية مضطربة. كانت هناك الفلسفة اليونانية في نزعها الأخير، تحاول أن
تعيد بناء نفسها وقد انصرف الناس عنها بعد أن عجزت عن أن تلبي حاجاتهم الروحية،
وكان هناك اليهود الذي أرادوا احتكار الإله والخلاص لأنفسهم من دون الناس، وكان
هناك من جلب أديان آسيا إلى قلب روما نفسها، وكان هناك فوضى عارمة تسمى المسيحية
الناشئة، كانت تبدو يهودية في مكان، ومنشقة عن اليهودية في حين آخر، تستعير
الأفكار والرموز من كل مكان وتعيد إنتاجها في صورة جديدة، وظهرت الجماعات الغنوصية
التي جمعت أفكار كل من سبق، ومزجتها بالطقوس السرية وممارسات التنجيم والسحر،
فجذبت جموع الناس إليها، تعدهم بالخلاص من خلال طريق معين مرسوم بالطقوس والشعائر.
ولعل انجذاب العوام بوعد الحركات الغنوصية بالخلاص حرضه الأزمات
التي طحنت عالم القرن الثالث الميلادي، فكان الإمبراطورية الرومانية تعاني مما
اسمي تاريخيًا بأزمة القرن الثالث، حيث انقسمت الإمبراطورية على نفسها وغرقت في
الحروب الأهلية وانهار اقتصادها وضربتها الطواعين والأوبئة وراح البرابرة ينتزعون
اطرافها؛ ولم تكن إيران أفضل حالًا من الإمبراطورية الرومانية، فالبارثيين انهارت
دولته، وشرع الساسانيون في أن يحلوا محلهم بقوة السلاح، قبل أن يغرقوا بدورهم في
حروب وراثة أهلية، انتهت لتبدأ حروبهم التوسعية على حساب الإمبراطورية الرومانية.
وفي ظل هذه الفوضى، لابد أن اهل هذا العصر قد شعروا باليأس من هذه الحياة، وأن كل
ما يفعله الإنسان شر، وأن مصيره لابد إلى الهلاك.
كان ماني ابن عصره:
فكان فكره مزيج من مختلف الأفكار الشائعة في عصره، ولذلك وصفه ابن
النديم قائلًا «استخرج ماني مذهبه من المجوسية والنصرانية»، فتراه يعتبر تعاليم
زرادشت وكريشنا وبوذا والمسيح على قدم المساواة، ثم قدم نفسه باعتباره يسير على
دربهم هؤلاء؛ واسهم في الجدل الديني حول طبيعة السيد المسيح، فأعاد تفسير طبيعته
على نحو يوائم تصوراته عن الكون والماورائيات، وهي التصورات نفسها التي استعارها
من البدعة الزورفانية؛ أما شعائره وتنظيمه لأتباعه فيتشابه مع المندائية في العراق
البوذية في الهند في تلك الفترة التي عاش فيها ماني. وطبع عصره ماني المضطرب
والبائس فكره بالتشاؤم واليأس، فاستعار تصورات نهاية العالم من الكتب الغنوصية
واساطير اليهود وراح يبشر اتباعه بأنهم على الطريق إلى نهاية العالم، فوجد العوام
الذين سحقتهم الاضطرابات السياسية عزائهم في تعاليمه التي تبشر بنهاية هذا العالم
الظالم.
لكم تحياتي
0 تعليقات