نصر القفاص
التاريخ ينحنى له الساسة تقديرا واحتراما.. والجغرافيا يقاتل
لأجلها القادة.. أما علم الاجتماع فيشغل العلماء والمثقفين.. الزعماء فقط هم الذين
يجمعون بين القدرة على إدراك قيمة التاريخ.. مع استعداد للقتال لأجل الجغرافيا,
إضافة إلى فهم عميق لعلم الاجتماع باعتباره مفتاح فهم الشعوب.
قبل أن تنطلق العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا.. تحدث الرئيس
"بوتين" فى خطاب إلى شعبه والعالم على مدى 65 دقيقة.. كان متدفقا فى
حديثه عن التاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع.. وسيبقى هذا الخطاب محل بحث ودراسة
لفترة طويلة.. لأنه شرح خلاله ما كان وما هو كائن, ثم أوضح ما سيكون من وجهة نظر
بلاده ومصالحها.. فهو خلال هذا الخطاب كان يكشف عن أن "الإستراتيجية"
ليست مجرد كلمة ابتذلنا معناها.. وأن "الأمن القومى" ليس لعبة يلهو بها
"أراجوزات" الإعلام و"منتحلى" صفة الساسة!!
على جانب آخر.. تابعت الرئيس الأوكراني الذى "فبركه"
الغرب, وهو يرد على سؤال لأحد الصحفيين حول الصراع التاريخي بين "روسيا"
و"أوكرانيا" فإذا به يقول منفعلا.. لا يهمنى التاريخ.. كل ما يهمنى هو
السلام واسترداد الاستقرار فى بلادى!! ليؤكد على ضحالة نادرة وسطحية منقطعة النظير
يتمتع بهما.. ثم أكد ذلك بالصورة التى يظهر عليها, وما يقوله عبر خطاباته التى لا
تتوقف ليشغل حيزا من الفراغ الإعلامي!! فهو يقول كل شىء وعكسه.. يشكر الغرب
ويلعنه.. يهاجم روسيا ويطلب الاجتماع برئيسها.. يعلن أنه سيقاتل مع جيشه وشعبه,
ويكاد يبكى على ما يتعرض له مع بلاده.. وتتولى آلة الإعلام الغربى, بما تملكه من
ماكينات ضخمة للتزييف والتزوير.. تقديمة على أنه "زعيم" يمثل نموذجا
فريدا فى "الصمود".. وهو "الصمود" نفسه الذى شاهدنا عليه
الجيش الأمريكى لحظة مغادرته "أفغانستان" وغدره بكل الذين تعاملوا معه
حين كانوا يمارسون "الخيانة" على أنها "وجهة نظر"!!
لحظة أن درات عجلة الحرب.. شعرنا أن العالم على "حافة
الهاوية" لأن "أمريكا" والذين معها كانوا يزأرون ويرعدون.. إندفعوا
فى "هيستيريا" لإعلان عقوبات على "روسيا" لا ولن تتوقف.. فى
الوقت نفسه استبقوا ما يحدث, وملأوا وسائل الإعلام بتوقعات أن العاصمة الأوكرانية
– كييف – ستسقط خلال 96 ساعة.. وبعد يومين فقط بدأوا فى الترويج لصمود الجيش
والشعب الأوكرانى خلف رئيسهم.. مع أننا نشاهد الشعب يسابق الزمن للنجاة بنفسه..
ومن يتابع الأحداث سيرى بعينه صورا, هى عكس الكلام الذى يتم إنتاجه عبر وسائل
إعلام الغرب, الذى تمضى على دربه وسائل الإعلام العربية.. ونشاهد "رجال
أمريكا" يبشرون "روسيا" مع من تسول له نفسه إلى تفهم دوافعها,
بالويل والثبور وعظائم الأمور.. فلم يحتمل رئيس وزراء "باكستان" هذا
التجاوز الذى بلغ حد الانحطاط, فتحدث قائلا: "لسنا عبيد أمريكا"!! بينما
رئيس وزراء بريطانيا "بوريس جونسون" يذكرنا جميعا بسابقه "أنتونى
إيدن" وقت حربهم على السويس مع فرنسا وإسرائيل.. إضافة إلى محاولات ممارسة
"دبلوماسية التدمير" التى تمارسها فرنسا ورئيسها.. وهم الذين دفعوا
الرئيس الأوكرانى لإعلان تحدى "روسيا" خلال واحدة من جلسات "مؤتمر
ميونخ للأمن" وقوله أنه ذاهب لامتلاك سلاح نووى.. وخلال أيام قليلة لم يجد
سوى إشادات بالصمود الأوكرانى.. أما الأسلحة والصواريخ والطائرات والحظر الجوى على
بلاده.. فقد صارت أضغاث أحلام.. ثم الإعلان أنهم لن يواجهوا "روسيا"
لإدراكهم عواقب ذلك إن أقدموا عليه.
أرادت "واشنطن" إجهاد "أوروبا" واستنزاف
"روسيا" فى محرقة "أوكرانيا".. وكلهم أمل أن تتخلى
"الصين" عن "روسيا" أو تعلن تحالفها معها بوضوح لتغيير
السيناريو الأمريكى الذى يهدف إلى استمرار "ركوع العالم" أمام
"بايدن البيت الأبيض"!! وبعد أن انقشع الغبار إكتشفت "أوروبا"
أنها عاقبت نفسها بقدر ما عاقبت "روسيا" ووجدت "واشنطن" أنها
ستدفع ثمنا لا بأس به نتيجة مغامرتها الجديدة.. فإذا كانت "أمريكا" قد
دفعت ثمنا فادحا فى "فيتنام" فهى لم تدفع ثمن تدميرها لكل من
"أفغانستان" و"العراق" لأن "الفاتورة" تحملها
غيرها.. وإذا كان "الناتو" لم يدفع ثمن تدمير "ليبيا"
و"سوريا" فقد دفع العرب مجتمعين أفدح الأثمان طوال أكثر من سبعين عاما..
لمجرد أن "أمريكا" شاءت أن تزرع "إسرائيل" كخنجر فى قلب
العرب.. وتكسرت إرادتها ورغبتها فى زرع "أوكرانيا" كخنجر فى قلب
"روسيا"!! لأن "القوة تحمى الحق" كما قال "بوتين"
ولأن زمن "الحق فوق القوة" الذى كان يتحدث عنه "سعد زغلول" قد
انتهى!!
المؤسف أن التاريخ عندنا فى مصر وعالمنا العربى, لا يجد من يحترمه
أويفهمه.. والجغرافيا أصبحت مسرحا للعبث, وبالتالى سقط علم الاجتماع من حساباتنا..
ربما لأننا لا يهمنا غير "السلام والاستقرار" على طريقة الرئيس
الأوكرانى!! ففى "الزمن الأمريكى" لا قيمة للتاريخ باعتبارها بلا
تاريخ.. ولا أهمية للجغرافيا باعتبارها قادرة على العبث بها.. ولا مكان لعلم
الاجتماع بالنسبة لمجتمع فرض قانونه على الدنيا.. فهم يملكون تفكيك الدول كما
فعلوا فى أوروبا وافريقيا وآسيا.. وهم يقدرون على تدمير الشعوب كما حدث فى
فلسطين.. وهم يجيدون فن صناعة رؤساء من عينة الرئيس الأوكرانى.. حتى جاء
"بوتين" الذى استعاد قوة "روسيا" ثم رفع "راية العصيان"
ليكشف أولئك الذين لا يجيدون غير رفع "الراية البيضاء"!!
مرة أخرى سيستعيد التاريخ مكانته ويجد من يحميه فى
"روسيا" و"الصين" و"الهند" و"باكستان"
وستفيق "فرنسا" و"المانيا" وتجد "بريطانيا" نفسها
فى "الخندق الأمريكى" لتواجه مصيرها المحتوم.. ومرة أخرى ستعود
للجغرافيا قيمتها, ولعلم الاجتماع أهميته.. لأن أمريكا والذين معها لن يتمكنوا من
خداع الدنيا كما فعلوا لأكثر من مائة عام.. ولا عزاء للذين يستجدون ويتسولون
السلام, ويعتقدون أن الاستقرار فعل من أفعال السحر والشعوذة!!
0 تعليقات