في إطار إعادة تشكيل وجه العالم ؛ التي صارت ضرورة ملحة - على
الأقل للقوى الجديدة الصاعدة - و كما توقعنا وجود قوى ترغب في إيجاد مكانة لائقة
بها بعد أن عفا الدهر على ذلك الترتيب القديم للمواقع ؛ ذلك الترتيب الظالم
الموروث من صراع القرن الماضي ؛ فإنه ليس من المفاجئ لنا تحول موقف ألمانيا من
الحياد التام و التخويف أو التردد و الاعتراض على جانب كبير من العقوبات التي يرغب
المعسكر الغربي توقيعها على روسيا - ليس من المفاجئ تحولها أمس إلى التأييد بعكس
موقفها في الأيام الستة الأولى !!
و الألمان لا يغيرون رأيهم بسهولة هكذا ؛ و لكن يغيرونه إذا ضمن
لهم مكسبا أكبر بكثير مما سيخسره اقتصادهم بفقد الصديق الروسي و صفقة الغاز
الأخيرة التي منحها لهم بوتين بنحو ربع أو خمس الثمن المتداول في أوربا و التي من
بنودها أن يتمتع شعب ألمانيا بهذا السعر بينما من حق ألمانيا أن توزع على جيرانها
ما يفيض منها بالأسعار العالمية ..
هذه الصفقة كانت مقلقة جدا لأمريكا حيث ترغب في بيع غازها الصخري
المسال إلى تلك السوق الباردة الثرية أوربا ؛ بأسعاره العالية ؛ وقد قفزت بعد أزمة
أوكرانيا إلى المركز الأول في تصدير الغاز المسال، وتراجعت قطر إلى المركز الثاني.
والأهم هو ما ستلقاه روسيا لدى الأوربيين من قبول وتقارب وشراكات مختلفة تزعزع
مركز أمريكا في أوربا، وهذا يفسر لنا لماذا تم استفزاز روسيا و إغراء أوكرانيا
لتعاندها ، بشكل مصعد في الفترة الأخيرة ؛ بهدف إيقاع الدب في الفخ ؛ وليس الغاز
هو السبب الرئيسى ولا الأهم ، ولكنه الأخير أو القشة التي أثقلت ظهر البعير فقصمته
..
و ألمانيا بموقفها الجديد هذا لا يعنيها تحقيق مكسب اقتصادي أكبر
كما نتوهم ؛ فهم ينظرون إلى ذلك بعين الاحتقار لأن اقتصادهم رابع أكبر إقتصادات
العالم ؛ و إنما ينظرون إلى ميراث الذل الذي ورثوه من هزيمتي القرن الماضي ؛
ويتطلعون إلى تصحيح وضعهم العسكري ؛ والواضح بالأمس أن المقايضة تمت بينهم و الحلف
الغربي على أن يكون المقابل إلغاء القيود التي فرضت عليهم بعد الاستسلام في ١٩٤٥ و
السماح لهم بإنشاء جيش قوي يليق بوضع ألمانيا اليوم ؛ و يعيد أمجاد تاريخها . !!!
و قد طلع علينا أمس المستشار الألماني معلنا تأييد ألمانيا بقوة
لكافة العقوبات ضد روسيا؛ و مبشرا الشعب الألماني بعزم بلاده على انشاء جيش قوي و
رصد مائة مليار يورو من ساعته للإنفاق عليه و 2% سنويا من إجمالي الدخل الألماني و
هو مبلغ ضخم جدا ؛ مما جعل الحضور يهمهمون بشكل عجيب وأعقبوا همهماتهم بموجة تصفيق
حارة تكاد تنطق بهتاف قديم "هاي هتلر".
و هكذا إذا امتد هذا الخط على استقامته فسنجد عليه دولا أخرى مثل
اليابان و الكوريتان و نمور آسيا و الهند باكستان وتركيا و البرازيل و غيرها !!!!
إن الأدوات المتوفرة اليوم بيد الغرب لمعاقبة و حصار من يشاءون حسب
أهوائهم إلى حد قد يصل إلى انهيار أو موت الخصم المعاقب و إعادة بلده لما يشبه
العصر الحجري ؛ هذه الأدوات و إساءة استعمالها من جانب الغرب هي أدعى ما يدفع
العالم إلى صراع جديد من أجل تصحيح المراتب وإنشاء أحلاف جديدة تنافسه و تخلق نوعا
من التوازن .
فعلاوة على البنوك ووسائل انتقال الأموال و منع التصدير و منع
التكنولوجيا كعقوبات اقتصادية ؛ يهيمن الغرب على الإعلام و الإنترنت و مواقع
التواصل ؛ كما يهيمن على الجهات والهيئات المختصة بالرياضة والصحة و البيئة .. الخ
إضافة إلى الهيئات التحاكمية كمجلس الأمن و هيأة الأمم والمحكمة الدولية ..الخ ؛ و
بوسعه اضطهاد أي منطقة أو شعب أو دولة و جعل سكانها ينقلبون على حكامها أو على
أنفسهم دون إطلاق قذيفة واحدة ؛ لذا يجب إعادة النظر في توزيع سلطات هذه الوسائل و
اقتسامها مع جميع بلدان العالم إن كان العالم ينشد العدل و المساواة بين البشر .
ونعود إلى التاريخ كما قلنا لنفهم الحاضر ولنعرف أن الموضوع
بالنسبة لروسيا ليس سباقا على سيادة العالم فحسب ولكنه من أجل البقاء للجنس الروسي
المهدد بالفناء.
{ على مدار العقدين الماضيين، لم تتوقف وسائل الإعلام الغربية عن
الاستخفاف بروسيا والتقليل من مكانتها ومحاولة انتزاع مقوماتها الثقافية والحضارية
؛ وتركت مثل هذه الحملات الإعلامية أثرها السلبي على أعلى مستوى في القيادة
السياسية الروسية ؛ فالرئيس الروسي السابق فلاديمير بوتين أعرب بقدر من التأثر عن
أن "مشكلة العالم الغربي أنه ما يزال ينظر إلى الروس كشعب بدائي هبط للتو من
قمم الأشجار ويحتاج لأن يغسل الأقذار العالقة بشعر رأسه ولحيته".
و الثابت أن درجة الاستخفاف التي انتشرت في الإعلام الغربي بروسيا
قد بلغت درجة لم تعرفها الشعوب الغربية من قبل ؛ إذ أن تاريخ روسيا كدولة يتودد
الجميع إليها، بل وينافقها الكثيرون أحيانا، قد استمر على مدى ألف عام دون انقطاع.
في نهاية الألف العاشر الميلادي تعرف الأوربيون والعرب والآسيويون
على الروس كقوة محلية مؤلفة من مجموعة من القبائل شديدة البأس ، تغير على طرق
التجارة بين البحر الأسود وبحر البلطيق وتهدد مملكة البلغار والقبائل الأسيوية البربرية
النازحة من مناطق الإستبس، كما كانت تغير على الإمبراطورية البيزنطية التي أطلقت
عليهم اسم برابرة الشمال.
لم تكن كلمة روسيا Rhos تطلق آنذاك على مكان أو دولة بل على تلك القبائل ذات الصلة بعشائر
الفرنجية Varangians ذات الأصل
الأسكندنافي، والتي كانت قد حكمت الشعوب السلافية في شرق أوربا ؛ وقد وجدت بيزنطة
في هذه القبائل حليفا ضروريا لضمان أمن الحركة البرية للتجارة في القارة الأوربية،
في وقت كان الأسطول الإسلامي يهيمن على الطرق الملاحية في حوض البحر المتوسط .
كانت جسارة هذه القبائل وقدرتها على المغامرة والقرصنة، وشدة
البأس، والرغبة في التوسع في أرض جديدة، وصد هجمات القبائل المغيرة تبشر بميلاد
قوة إقليمية على مشارف القرن الحادي عشر في شرق أوربا.
وفي عالم محفوف بالديانات والأيديولوجيات لم يكن الاستمرار في
الوثنية ينفع قبائل الروس أو يبلور هويتهم أمام جيرانهم المسلمين من البلغار في
الشرق الذين اعتنقوا الإسلام في عام
بل إن نفرا من الباحثين يرى أن اختيار شعوب البلغار حول نهر
الفولغا الإسلام دينا لهم - لم يترك خيارا لروسيا ..
فإلى الغرب كانت المسيحية الكاثوليكية في كل من بولندا والمجر
والدويلات الجرمانية، وفي الجنوب كانت مملكة الخزر اليهودية وما وراءها من دولة
الخلافة الإسلامية "العباسية".
عثر الروس لدى بيزنطة على الدستور المفقود لصياغة دولتهم الشابة
التي كانت تشق طريقها في عالم متنازع القوى، وتعلم الروس من بيزنطة الكثير، وأهم
ما تلقفوه ذلك التقليد الروماني القائم على إقامة "مملكة للرب" تحكم
العالم باسم المسيح.
وكان من العلامات الدالة على ذلك ما تستشهد به بعض المصادر
التاريخية من مراسلات بين البطريرك أنتوني والأمير الكبير باسل في موسكو عام 1307م
يقول فيها البطريرك :
" كيف يمكن تخيل أن تكون لدينا نحن المسيحيين كنيسة دون أن
تكون لدينا إمبراطورية. وكيف يمكن فصل إحداها عن الأخرى".
وعلى مدى ثلاثة قرون تمكن أحفاد الأمير فلاديمير من بسط نفوذهم في
شرق أوربا متخذين من مدينة كييف (التي تعرف بأم المدائن في أوربا ) مركزا.للتوسع
والهيمنة.
كانت إمارة روسيا بين القرنين العاشر والثالث عشر قوة إقليمية
صاعدة امتدت من شرق أوربا ومشارف جبال الأورال مرورا بتخوم البحر الأسود والقوقاز.
استكشف الروس آنذاك الخريطة "النواة" التي ستكون مسرحا
لثمانية.قرون مقبلة وستشهد على أيديهم موجات متتالية من المد والتوسع.
غير أن تلك القوة الإقليمية الصاعدة كانت محاطة بثلاثة أقطاب تهيمن
على العالم وهي :
▪︎الإمبراطوريات الأوربية
المتتابعة في الغرب
▪︎والخلافة الإسلامية في الجنوب
▪︎ والمغول في الشرق.
ولم تكن تلك القوة الإقليمية التي تمثلها روسيا لتصمد أمام زحف
المغول فسقطت في قبضتهم في منتصف القرن الثالث عشر .
تواری الروس كشعب مستقل وكدولة لها كيان سياسي تحت الاحتلال.المغولي
لأكثر من قرنين من الزمان (1228 - 1462م). وبعد غياب 234 سنة عن خريطة العالم،
تمكن أمیر موسكو إيفان الثالث، أو إيفان العظيم، (1462-1505م) من العودة بروسيا
إلى خريطة القوى الإقليمية وتحقيق الاستقلال عن المغول وبدأ في عام 1480م طريقه
لتوحيد باقي الإمارات .
ومع ذلك التاريخ تبدأ روسيا رحلة جديدة من تاريخها تعرف بروسيا
الموسكوفية، حين حلت موسكو محل كييف كمركز لذلك القطب الصاعد .
استفاد الروس من درس الاحتلال المغولي جيدا، وفتحت هذه الفترة
أعينهم على خريطة إمبراطورية المغول الشاسعة التي امتدت من ساحل المحيط الهادئ في
الشرق إلى المجر في الغرب، ومن المحيط القطبي في الشمال إلى فارس وبلاد العرب في
الجنوب.
وإذا كانت بيزنطة قد فتحت أعين الدولة الروسية الفتية على عالم
البحار الدافئة المزدحم بالثروات والقوى المتنافسة فإن الإمبراطورية المغولية لفتت
انتباه الروس إلى العالم الآسيوي المليء بالخيرات والخالي من القوى المتنافسة.
كان القرن السادس عشر بمثابة القرن الذهبي لجغرافية روسيا
السياسية،.فبين عامي 1505 و1584 تمكن ثلاثة أمراء روس (إيفان العظيم وفاسيلي
الثالث وإيفان الرابع "الرهيب") من صناعة أكبر خريطة عرفها تاريخ روسيا
؛ وبوسعنا وصف هؤلاء الأمراء بالآباء المؤسسين للطموحات الجيوبوليتيكية الروسية.
ففي هذه الفترة اخترعت الجيوش الروسية مسمى جديدا في الصراعات
الإقليمية ألا وهو "ابتلاع الأعداء" بدلا من مواجهتهم ، وتم غزو
الأقاليم المجاورة بدلا من تهديدها أو عقد اتفاقات معها ؛ حتى إذا جاء عام 1613
تقلد ميخائيل الأول حكم البلاد ليبدأ حكم أسرة آل رومانوف القيصرية التي سيطرت على
إمبراطورية لم تكن ترد بخلد أي من الأمراء السابقين .
وعبر ثلاثة قرون (1613 -1917) نمت قوة روسيا على الساحة العالمية
بشكل تدريجي حتى صارت قوة عالمية.
لم تقنع روسيا بالحتم الجغرافي الذي وجدت فيه خريطتها، وإذا كان
يقال إن الهولنديين اخترعوا أرضهم في صراع مع البحر، فإن الروس اخترعوا بحارهم في
صراعهم مع القوى الإقليمية والدولية المحيطة.
فمن أجل الحصول على منفذ بحري على المحيط الأطلسي أشعلت روسيا حروب
بحر البلطيق لإقامة "نافذة على أوربا" تمثلها مدينة سان بطرسبرغ في مطلع
القرن 18، كما اندفعت روسيا نحو البحر المتوسط عبر حروبها مع تركيا.للسيطرة على
البحر الأسود .
بل إن روسيا تقدمت إلى البحار الداخلية فغزت شمال فارس في النصف
الأول من القرن 18 (1722م) ونجحت في تحويل بحر قزوين إلى بحيرة روسية.
كما تمكنت من إقامة واحد من أهم موانئها في التاريخ وهو ميناء
فلاديفاستوك (المفتوح للملاحة طوال العام على المحيط الهادئ باحتلال أراض إلى
الشرق من نهر آمور، وهي منطقة بالغة الأهمية الجيوبولتيكية اقتطعتها من الصين في
عام 1860.
لم تكتف الدولة الفتية بذلك بل ضمت أجزاء من أمريكا الشمالية ؛ ففي
النصف الأول من القرن 18 دعم بطرس الأكبر الرحالة فیتوس بیرنغ الدانمركي الأصل
لاكتشاف الخلجان والمضايق والجزر التي صارت تحمل اسمه فيما بعد.
ومن مضيق بيرنغ إستكمل الروس الوصول إلى ألاسكا وأقاموا قلعة Ft. Ross على الساحل الشمالي الغربي لكاليفورنيا قبل
أن يسقطها الأسبان .
وقد عرفت تلك المناطق في تاريخ روسيا باسم "أمريكا الروسية
التي تخلت عنها للولايات المتحدة طواعية ودون حرب في عام 1867 التطرف الموقع وعزوف
الروس عن الوصول إليها، وذلك مقابل سبعة ملايين دولار .
هكذا لم يعد هناك من يجادل في أن قطبا عالميا ظهر على
المسرح.الجيوسياسي وامتد من ليتوانيا وبولندا وفنلندا ومولدافيا في الغرب إلى
الشرق الأقصى وسخالين وجزر كوريل وألاسكا في الشرق، وصارت روسيا واحدة من الأقطاب
الدولية التي اشتبكت في جبهات صراع مختلفة (كان أشدها دموية مع تركيا العثمانية)،
واختتمت مشاهد صعود هذا القطب العالمي بهزيمة متوقعة في الحرب العالمية الأولى
أفضت إلى نشوب الثورة البلشفية عام 1917.
خمس سنوات فقط (1917-1922) عاشتها روسيا في ترنح بين حرب
أهلية.وغزو القوات الأجنبية لأراضيها التي جاءت لدعم القوات الملكية المهزومة. في
هذه السنوات الخمس سارعت فنلندا وليتوانيا واستونيا ولاتفيا وبولندا وأوكرانيا
ومولدوفا للاستقلال عن الإمبراطورية الروسية.
وباستثناء فنلندا نجحت روسيا في إرجاع كافة هذه الدول إلى سيادتها،
هذه المرة تحت غطاء الشيوعية.
بانتقال روسيا إلى المرحلة السوفيتية صارت قطبا دوليا بامتياز، لا
يتنازع في عالم متعدد الأقطاب على غرار ما جربته موسكو في القرون الفائتة، بل
يتنازع هذه المرة مع قطب وحيد منافس تمثله الولايات المتحدة.
في تلك المرحلة لم يكتف الروس بصناعة قوة عظمى اعتمادا على إثنية
واحدة تضم السلافين فحسب، بل سرعان ما توجه الشيوعيون إلى ضم أراض شاسعة وإثنيات
وقوميات متعددة في رقع جغرافية مترامية.
وبالإضافة إلى ضم الدول والأقاليم، تمكنت روسيا من نشر رسالتها
الأيديولوجية دون غزو عسكري، فاخترقت التخوم وسافرت عبر المحيطات. حتی إذا جاء
منتصف القرن العشرين كانت الشيوعية قد هيمنت على أكبر وأوسع مقاطعات العالم، من
نهر الألب في وسط أوربا إلى خليج كمتشتكا وشنغهاي وكوريا وفيتنام.
بل تمكنت الأحزاب الشيوعية في أوربا الغربية من الوصول إلى السلطة،
وصارت الأيديولوجية الماركسية بين المفكرين الأوربيين هي المثال والمنهج، بل وعبرت
الشيوعية المحيط الأطلسي لتجتاح أمريكا اللاتينية.
ظلت خريطة الاتحاد السوفيتي دون تغير منذ مكاسبها في أعقاب الحرب
العالمية الثانية وحتى ديسمبر/كانون الأول من عام 1991.
ففي ذلك العام، حين انفرطت حبات عقد الاتحاد، فقدت روسيا دول
البلطيق وأوكرانيا وبيلاروسيا ومولدوفا، كما كان استقلال دول القوقاز الجنوبي
الثلاث، ودول أسيا الوسطى، خسارة جيوبوليتكية أخرى لروسيا، لتأثيرها على الأمن
الإقليمي للبيت الروسي .
بعد عام 1991 انكمشت مساحة روسيا التاريخية. فروسيا القيصرية بلغت
نحو 23 مليون كم ، وروسيا السوفيتية بلغت 22.4 مليون كم، أما مساحة روسيا
الفدرالية اليوم فتبلغ 17.1 مليون كم ومع ذلك تبقى أكبر دول العالم مساحة .
وبعد أن ظلت روسيا حتى عام 2008 بنفس مساحتها التي خرجت بها من
أزمة انهيار الشيوعية جلب لها صيف تلك السنة مكاسب جغرافية جديدة، فقد نشبت حرب
بين روسيا وجورجيا اعترفت على إثرها موسكو باستقلال جمهوريتي أبخازيا وأوسيتيا
الجنوبية . وهذا النوع من الاعتراف هو اعتراف شكلي أمام دول العالم أما الواقع
فيشير إلى أن هذين الإقليمين تم ضمهما فعليا إلى خريطة روسيا الفدرالية منذ
أبريل/نيسان 2009 وهو التاريخ الذي حركت فيه روسيا قوات حرس الحدود إلى جنوب هذين
الإقليمين لتتولى مهمة
الدفاع عنهما أمام جورجيا
🔹️ الخلل الديموغرافي
تحتل روسيا المرتبة الثامنة من بين سكان العالم (تسبقها الصين
والهند والولايات المتحدة واندونيسيا والبرازيل وباكستان وبنجلاديش ونيجيريا).
وتشير الإحصاءات إلى أن الروس يشكلون نحو 80 % من إجمالي السكان في
البلاد وهو ما يعني من الناحية الحسابية أن الروس ذوو سیادة عرقية في.وطنهم . كما
تشير هذه البيانات أيضا إلى أن الروس يشكلون الأغلبية السكانية في معظم الجمهوريات
التي تحمل اسم أعراق وقوميات بعينها، كجمهورية التتر والبشكير والتشوفاش. ويستثنى
من ذلك إقليم القوقاز الذي لا يشكل فيه الروس أغلبية سكانية .
لكن بعيدا عن هذه الأرقام الحسابية، تعاني روسيا من أزمة
ديموغرافية عند مستويات مختلفة، أهمها :
▪︎1. مع حرية التنقل
والإقامة صار الروس لا يتوزعون توزيعا عادلا في كافة أنحاء البلاد، بل يتركزون في
روسيا الأوربية أي في الثلث الغربي من البلاد في مقابل تفريغ الجزء الشرقي الذي
يصح أن نسميه "الربع الخالي" في سيبيريا والشرق الأقصى.
فرغم الترتيب المتأخر نسبيا لروسيا في قائمة الدول الأكثر سكانا
(حيث تسبقها دول مثل.باكستان وبنجلاديش) إلا أنها كانت تستمد مكانتها السكانية من
خلال التوزيع.الجغرافي الكبير للسكان، من المحيط الهادئ في الشرق إلى بحر البلطيق
في الغرب ومن المحيط القطبي في الشمال إلى البحر الأسود في الجنوب ، وهو ما أعطي
لروسيا أهمية جيوسياسية من حيث توزيع السكان وليس من حيث الحجم.
▪︎2- يتعرض سكان روسيا
لخسارة سكانية سنوية. فمنذ انهيار الاتحاد السوفيتي وعدد السكان في تناقص مطرد حيث
خسرت روسيا منذ تفكك الاتحاد السوفيتي ما يقرب من7 ملايين نسمة. أي بمعدل خسارة
سنوي مقداره 440 ألف نسمة.
▪︎3 - إذا ما استمر معدل
التناقص السكاني الحالي فقد ينطبق على روسيا القول إنها "أمة تتآكل"
ديموغرافيا، فروسيا اليوم ليست سوى ثلثي حجمها الذي كانت عليه عام 1866 ..
ويتوقع إذا تواصل معدل التناقص أن تفقد روسيا ربع سكانها خلال نصف
قرن، هذا دون أن ندخل في الاعتبار إمكان تعرض روسيا - كغيرها من الأمم. لكوارث
طبيعية کالأوبئة والفيضانات والزلازل أو كوارث بشرية كالحروب واسعة المدى أو
الكوارث التقنية ..
كما أن هذه التوقعات لا تدخل في الحسبان إمكانية حدوث هجرات جماعية
كالتي شهدتها روسيا حين خسرت نحو مليون مهاجر لصالح إسرائيل خلال عقد التسعينيات.
وإلى جانب التناقص العددي ثمة تدهور نوعي عبر عنه دراميا زعيم
الحزب الشيوعي غينادي زيغانوف بقوله " بينما طال ارتفاع الأسعار كل السلع في
روسيا فإن (الفودكا مشروب الخمور الرئيسي في روسيا) بقيت دون ارتفاع، وباتت
أسعارها أرخص بثماني مرات من الخبز، وهو هدف مكشوف للبرجوازية الاستغلالية التي
تسعى إلى تغييب الشعب، كما أن صحة الأمة الروسية تتعرض للتدهور المستمر، ويكفي أن
نعرف أن 86 % من أطفالنا مرضی، لن نكون مخطئين إذن إذا سمينا ما تتعرض له أمتنا
"بالإبادة الجماعية ".
▪︎5- بينما يشهد السكان
الروس ذوي الأصول السلافية تناقصا سنويا يتراوح بين 4 إلى 7 % يشهد السكان من ذوي
الأصول القوقازية زيادة سنوية بمعدل 13% وهو ما يعبد الطريق أمام المخاوف
المتزايدة من قبل التيارات القومية الروسية التي تحذر من حرب ديموغرافية مقبلة
وزحف لسكان ذوي "بشرة سوداء" من الجنوب (القوقاز وأسيا الوسطى)۔
▪︎6- تشير التقديرات إلى
أن روسيا تعد في السنوات الأخيرة ثاني أكبر مقصد للهجرة الدولية بعد الولايات
المتحدة، حيث بلغ عدد المهاجرين إليها بحسب إحصاءات عام 2008 نحو 7ملايين مهاجر،
أربعة ملايين منهم جاءوا عبر هجرة غير شرعية، وهو ما أدي إلى أعمال عنف نتيجة نشاط
الجماعات القومية المتطرفة التي ترفع شعار "روسيا فقط للروس" و"لا مكان
للأجانب على أرضنا".
وقد غضت السلطات الطرف عن نشاط هذه الجماعات العنصرية التي قتلت
بين عامي 2004 و2008 نحو 250 مهاجرا وبلغ عدد ضحاياها في عام 2008 فقط 96 مهاجرا
وتسببت في إصابة 410 بجروح في حوادث متفرقة بعدد من المدن الروسية، حيث تجوب تلك
الجماعات العنصرية شوارع المدن الروسية في أزياء الإرهابيين بوجوه ملثمة دون أن
تعترضها قوات الأمن الروسية .
وقد حملت بعض شبكات الإنترنت الروسية مقاطع فيديو يقوم فيها عدد من
القوميين المتطرفين الملثمين بقطع رؤوس بعض العمال الطاجيك. ويزداد الاعتقاد لدى
هيئات مراقبة حقوق الإنسان في روسيا وعدد من الباحثين بأن هناك اتفاقا ضمنيا بين
قوات الأمن في روسيا وهذه الجماعات العنصرية الإرهاب الأجانب حفاظا على المركب
السكاني السلافي .
وفي هذا الصدد كانت مصادر إعلامية قد قدمت تقديرات أخرى على نحو ما
أشارت صحيفة مسكوفسكي کومسامو أكتوبر تشرين الأول 2004) من وجود 15 مليون مهاجر
بمهارات عمل عالي تغرق سوق العمل الروسي في قطاعات مختلفة تعميرية وتجارية تتصدرهم
الجالية القوقازية.
وقدرت السفارة الأميركية في موسكو عدد المنخرطين في الجماعات
العنصرية بما يزيد عن 50.000 شخص.
وأوضحت استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسات صحفية وأكاديمية
(كمؤسسة "الرأي العام" الروسي) ارتفاع نسبة الشباب المتعاطفين مع الحركة
العنصرية إلى ما يزيد عن50 %، وأن أكثر من نصف الشباب الروس مستعد للمشاركة في
حركة الفاشية الجديدة سواء بمقابل مادي أو اقتناعا بأيدولوجيتها.
ولعب بعض السياسيين على الوتر العنصري الفاشي على نحو ما أعرب
المرشح الرئاسي.نيقولاي خريتانوف عام 2004 في حملته أمام الرئيس بوتين من أن موسكو
"يجب أن تطهر من الأغراب".
وشعر المتطرفون القوميون بسند رسمي منحهم الجرأة للتعبير عن مسلكهم
الدموي. فحين سألت صحيفة إزفيستيا زعيم الحركة العنصرية في مدينة.يجينفسك (وسط
روسيا) عن موقفه من حادثة قتل العنصريين الروس للطفلة الطاجيكية في سان بطرسبرغ،
أعرب قائلا "وما الغريب في هذا ؟! السؤال هو: ماذا يفعل الطاجيك على أرضنا ؟!.
▪︎7- وفي المقابل ثمة خلل
ديموغرافي آخر آت من الشرق. حيث تشهد مناطق الحدود الصينية إضطرابا ديموغرافيا،
فعلى الجانب الروسي من إقليم شرق سيبيريا يعيش ثمانية ملايين.نسمة في مساحة تزيد
عن ستة ملايين كم ، في حين يعيش على الجانب الصيني 130 مليون نسمة يعانون البطالة
والفقر في مساحة لا تصل إلى مليوني كم، ومن ثم فإن المهاجرين الصينيين ينفسون عن
ضيق حالهم بالهجرة غير المشروعة إلى أرض غنية بالموارد قليلة السكان على الجانب
الروسي (شعب بلا أرض في مقابل أرض بلا شعب)، وهو ما يخلق ظاهرة يسميها القوميون
الروس "احتلالا صينيا صامتا" .
بل إن الوضع في الشرق الأقصى الروسي قد ازداد سوءا في السنوات
الأخيرة حيث تناقص عدد سكان هذه المنطقة بنحو 15 % وشهدت بعض المناطق صدامات بين
السكان الروس والوافدين الصينيين ، ولعل روسيا تفاضل في هذه الحالة بين خيارين
أحلاهما مر، فإما أن تقبل بغزو صيني صامت أو تقبل بقرى الأشباح" في الشمال
والشرق نتيجة التناقص السكاني وعدم تقدم متطوعين جدد لتعمير تلك المناطق } *¹
👌 لهذه الأسباب و غيرها فإن الروس ليس لديهم أي نية للتراجع عن
الحفاظ على الشعوب السلافية و الروسية كأوكرانيا و الدول الواقعة في أوربا مهما
كلفهم من ثمن .
-----------
*¹ كتاب [استعادة روسيا مكانة القطب الدولي (أزمة الفترة
الانتقالية)] عاطف معتمد عبد الحميد الطبعة الأولى (2009م - 1430 ه) الدار العربية
للعلوم "ناشرون" تصوير الجزيرة الدوحة - قطر ؛ ص13- 24
0 تعليقات