د. وسام الدين محمد
السابع والعشرين من شعبان 1443 هـ
الثلاثون من مارس
كان مزدك ونحلته بمثابة فصل الختام في مسرحية الفكر الإيراني
القديم، ولكن حقيقة الأفكار التي نشئت وتداولها هذا الفصل والحوادث التي جرت فيها
تظل محتجبة وراء دخان البخور الذي يحرقه المعجبون بمزدك ودعوته ودخان الحرائق التي
اشعلها خصومه وأعداءه ليحرقوه ومن تبعها فيها. البعض جعل من مزدك مصلح اجتماعيًا
وثائرًا اشتراكيًا، والبعض الآخر جعل منه شيطان تجسد في صورة بشر، وتجاهلوا جميعًا
أنه ابن عصره، وأن أفكاره متصلة بأفكار من سبقه، ضاربة بجذورها في بيئته وثقافته،
وهو ما نحاول أن نستكشفه هنا، ويزيد من صعوبة الأمر أنه لم يبلغنا عن مزدك أو عن
أتباعه أثار مكتوبة، وأن كل ما نعرفه عنه إنما هو ما رواه خصومه عنه.
إمبراطورية في أزمة
في الربع الثاني من القرن الثاني الميلادي، استطاع أردشير الأول أن
يرسي قواعد حكم سلالته، السلالة الساسانية، على الهضبة الإيرانية وشعوبها. وعلى
الرغم أن اردشير الأول اعتمد في مشروعه الإمبراطوري على دعم النبلاء ورجال الدين
الزورفانيين، إلا أنه لم يسمح لهم بالتغول على العامة ونصب نفسه حكمًا محايدًا
وعادلًا بين رعاياه والنبلاء ورجال الدين، وقد كفلت هذه السياسة لشعب الإمبراطورية
الساسانية الحياة الآمن الرغدة، وخلف من بعد أردشير ابنه سابور الأول، والذي لم
يكن أقل قوة ولا كفاءه من والده، فالتزم بهذه السياسة الحصيفة.
ولكن هذا العهد الهادئ والمثمر لم يدم، فبعد وفاة سابور الأول،
تتابع على عرش الإمبراطورية الساسانية لمدة تزيد عن قرنين ونصف قرن سلسلة من
الحكام الضعفاء، يستثنى منهم سابور الثاني، وقد فشل هؤلاء الحكام الضعاف في كبح
جموح النبلاء ورجال الدين الزرادشتيين الذين راحوا يكومون الثروات بنهب العوام وإفقارهم.
وعلى الرغم من الانتصارات الهائلة التي أحرزها سابور الأول والثاني
على الرومان، ظلت الحرب المفتوحة مع الإمبراطورية الرومانية تستنزف طرفيها، وكما
تعرضت الإمبراطورية الرومانية لهجمات البرابرة، كان الإمبراطورية الساسانية معرضة
باستمرار لهجمات شعوب سهوب وسط آسيا، كما اشتعلت الحروب الأهلية من آن إلى آخر بين
المتنازعين على العرش؛ وكان على العوام دائمًا أن يكونوا وقود هذه الحرب، سواء
بالخدمة في الجيش الساساني، أو بدفع الضرائب الباهظة لتمويل الحرب، وكثيرًا ما
اضطر هؤلاء إلى دفع الضرائب مرتين أو أكثر من مرة، عندما كانت تنقل بلادهم من
حيازة حاكم لحيازة خصيمة في الحرب.
ولكن الكارثة الكبرى التي تعرضت لها الإمبراطورية الساسانية لم تكن
بسبب الحروب أو النزاعات السياسية، وإنما كانت بسبب موجات متلاحقة من الجفاف ضربت
الهضبة الإيرانية في منتصف القرن الخامس الميلادي، ونشرت المجاعة في أرجاء
الإمبراطورية، وكان سكان الأرياف والعوام من سكان المدن هم الأكثر تضررًا من هذه
المجاعات.
صعود وسقوط مزدك
لا نعرف إلا القليل عن مزدك، فلا نعرف نسبه ولا تاريخ ميلاده على
وجه الترجيح، اسماه الطبري في تاريخه مزدك بن بامداذ، وقد زعم أتباع مزدك فيما بعد
أنه قد انحدر من أسرة من رجال الدين الزاردشتيين، بينما قدر بعض المؤرخين مولده
بين سبعينات وتسعينات القرن الخامس الميلادي. كانت أفكار مزدك الماورائية هي إعادة
إنتاج للأفكار الماورائية السائدة في زمانه والتي يتداولها الزورفانيين
والمانويين، فكان يؤمن بمبدئين أو إلهيين للكون، النور والظلمة، وأن العالم المادي
من إله الظلام، كما بشر بخلاص الإنسان خلاص نهائي بسيادة النور، ولكن ما ميز
أفكاره أنه حاول أن يتخلص من شر الظلام في الدنيا وعلى الأرض من خلال إنشاء مجتمع
مثالي يتطابق مع المجتمع المثالي الأول الذي نشأ عقب خلق الإنسان، وهو مجتمع يقتسم
فيه البشر كل شيء بالتساوي، وقد ذهب مزدك إلى أن إله الظلام أرسل شياطينه الخمسة،
الحسد والغضب والانتقام والرغبة والجشع، فأغوت الأقوياء بسلب حقوق الضعفاء، وأعتبر
مزدك أن مجتمعه المثالي هو طريقة عملية للتخلص من سلطة إله الظلام على الإنسان في
الدنيا، وقد تصور مزدك مجتمعه لا يملك فيه الفرد شيئًا، وبدلًا من ذلك يتشارك
الجميع فيه فيما يملكون، ويلتزمون بالأخلاق الطيبة ممتنعين عن الكذب وإيذاء أي نفس
حية، كما ألزمهم بالامتناع عن أكل اللحوم والتي كان يعتقد أن من أنشئها إله الظلام
نفسه. وقد أشارت كثير من المراجع إلى شيوعية أتباع مزدك تجاوزت التشارك في الأموال
والممتلكات إلى حد التشارك في النساء، وقد أثبت هذا الادعاء بعض الباحثين وأنكره
آخرين، وسوف نعرض رأينا في هذا الأمر لاحقًا.
كانت الحرب المتصلة وموجات الجفاف التي حطمتا الطبقات الفقيرة
والمستضعفة الإيرانية، قد مهدتا في الوقت نفسه لاستقبال أفكار مزدك، فانضم لدعوته
الكثير من أبناء هذه الطبقات، وبينما كانت طبقتا النبلاء ورجال الدين تنظر لمزدك وأفكاره
بغضب واشمئزاز، وتتوثب للانتقام منه بسبب اتهاماته المستمرة لهاتين الطبقتين
بأنهما استسلما لإله الظلام وسرقا حقوق المستضعفين، كان قباذ الأول الإمبراطور
الساساني يرى في مزدك واتباعه سلاح فاتك سوف يسمح له بانتزاع أنياب النبلاء ورجال
الدين الذين تغولوا على سلطته، فاحتضن مزدك وبسط عليه حمايته، ويبدو أن هذه
الحماية قد جذبت كثير من الرعاع إلى دعوة مزدك والذين عمدوا إلى تنفيذ أفكار مزدك
بالقوة، فأشاعوا الفوضى والإضرابات في أنحاء الإمبراطورية، ويصف الطبري في تاريخه
هذا الوضع قائلًا «فأبتلي الناس بهم، وقوي أمرهم، حتى كانوا يدخلون على الرجل في
داره، فيغلبونه على منزله، ونسائه وأمواله، لا يستطيع الامتناع منهم».
وقد أدت هذه الفوضى والاضطرابات إلى اجتماع النبلاء ورجال الدين
على خلع قباذ الأول، الأمر الذي أدى إلى استفحال الفوضى فاندلعت حرب أهلية انتهت
باسترجاع قباذ الأول عرشه بمعاونة خارجية من الترك، ولكن قباذ كان قد وعي الدرس
فنأى بنفسه بعد ذلك عن مزدك ومذهبه، ولكن الفتنة عادت تطل برأسها بعد وفاة قباذ
حيث تنازع أبناء قباذ العرش، ودعم النبلاء ورجال الدين كسرى أنشروان الأبن الأصغر
لقباذ والذي صعد نجمه في نهاية عهد ابيه، بينما دعم المزدكية الأبن الأكبر ولكن
هذا هزم أمام أنشروان، فكانت هزيمته بداية نهاية مزدك وجماعته، فأنقلب عليهم أنشروان
وأبادهم، وبينما يشير الطبري إلى أن أنشروان أمر بإعدام رؤوس المزدكية في إشارة
إلى مزدك وإبطال ما قاموا به من أعمال، يرسم صاحب الشاهنامه صورة ملحمية لحملة
القضاء على مزدك وأتباعه حيث يأمر أنشروان بدفن اتباع مزدك أحياء، حيث تدفن
أجسادهم إلى الجذوع، وتترك ارجلهم فوق الأرض صانعًا منهم حديقة بشرية، بينما شُنق
مزدك نفسه وعُلق من قدميه واستخدم جسده هدفًا لرماة الأسهم، وهي الوقائع التي دارت
ما بين عامي 524 و528م.
أصل أفكار مزدك
في ظل غياب مصادر محايدة عن مزدك ودعوته، نجد خلافًا كبيرًا حول
الأصول التي استقى منها أفكاره؛ ولكن هناك شبه إجماع على أن مزدك لم يبدع الأفكار
التي نادى بها، ولكنها كانت بنات أفكار معلمه المسمى زاردشت خوراكان، وهو شخصية
غامضة لا نكاد نعرفها عنها الكثير، فهو قد نشأ كرجل دين زرادشتي/زورافاني، ثم
أنتقل ليعيش في القسطنطينية حيث درس الأفلاطونية الجديدة واطلع على جمهورية
أفلاطون وربما يكون قد اطلع كذلك على أفكار الفرق المسيحية الغنوصية، وينفي بعض
الباحثين أن يكون زرادشت خوراكان ينتمي للزرادشتيه، ويربط بينه وبين بعض أتباع
ماني الذين استوطنوا روما وبشروا فيها بتعاليم استاذهم في القرن الثالث الميلادي.
ولما كنا قد وقفنا على مدى التداخل بين أفكار الزورفانية والمانوية، فندرك أنه من
الصعب الحكم على أن مصدر أفكار مزدك الميتافيزيقية، ولكنها كانت أفكار شائعة
ومتداولة في زمانه، فقد آمن الرجل بإله النور وإله الظلمة، كما آمن أن الإنسان
مخير بين أن ينحاز للنور أو للظلمة، ولكنه على عكس ماني الذي لم يرى سبيلًا للتحرر
من الظلمة إلا الموت، فإن مزدك أراد أن يتحرر على الأرض بإنشاء مجتمعه المثالي.
فكرة المجتمع المثالي التي يتشارك أفراده الممتلكات لم تكن فكرة
فريدة ولا من ابداع مزدك، على عكس ما يروج البعض حتى ينعتون مزدك بأنه أول شيوعي
في التاريخ، وهذا جهل بالتاريخ، فقد شهدت منطقة الشرق الأوسط قبل مزدك الكثير من
الجماعات الدينية التي عاشت في مجتمعات مغلقة حيت حرموا على أنفسهم الملكية الخاصة
وتشاركوا فيما يملكون وأداروا مجتمعاتهم بطريقة جماعية، ومن هذه الجماعات جماعة
الخاساي التي كان والد ماني أحد أعضاءها وأنتمى ماني نفسه لها في مطلع حياته،
وجماعة الايسيين في فلسطين التي وجدت بين القرن الثاني قبل الميلاد ونهاية القرن
الأول من الميلاد. ولكن ما يميز مشروع مزدك عن هذه الجماعات، أنه كان مشروع جامع
لا يميز بين الرجال والنساء، فبينما كانت الجماعات الشيوعية البدائية مثل الخاساي
والايسيين لا تقبل بين صفوفها إلا الرجال، فإن مزدك قبل في جماعته الرجال والنساء،
ولعل أتباع مزدك قبل أن يحتضنهم قباذ الأول قد عاشوا في مجتمعات مغلقة عليهم مثل
غيرهم من الجماعات الشيوعية البدائية، لذلك لا يستغرب أن تكون شيوعية النساء في
هذه المجتمعات.
المزدكية بعد الإسلام
بعد إعدام مزدك وقمع أتباعه على يد أنشروان، أصبحت المزدكية محرمة
بصورة رسمية في الإمبراطورية الساسانية؛ وبالتوازي مع قمع المزدكية رسميًا نشط
رجال الدين الزورفانيين في تشويه تعاليم المزدكية باعتباره هرطقة وأطلقوا على مزدك
نعوت منفرة منها الشيطان والواهم. وقام أنشروان بمجموعة واسعة من الإصلاحات التي
رفعت الظلم عن الطبقات الفقيرة والمستضعفة استحق عنها لقبه أنشروان أي العادل. وقد
أدى ذلك كله إلى انحصار المزدكية بعدما كادت أن تهيمن على كامل الإمبراطورية،
ولكنها لم تنتهي تمامًا بل وجدت لنفسها مأوى في المناطق الجبلية الفقيرة خاصة في
أذربيجان حيث كمنت لما يزيد عن مائتي عام، قبل أن تنهض من جديد مع ما عرف في التاريخ
الإسلامي باسم الزندقة.
استخدم لفظ الزندقة في التاريخ الإسلامي استخدامًا واسع، فهي تارة
تعني هؤلاء الذين مزجوا عن قصد بين تعاليم الإسلام وتعاليم الغنوصية عامة
والغنوصية الإيرانية خاصة، كما تستخدم لوصف حركات سياسية وتمردات على الدولة
الإسلامية جمعت أجندتها الايدولوجية بشكل رئيسي بين النزعة القومية الفارسية
المتطرفة والتعاليم المزدكية.
أما الفرقة الأولى، والتي أسميها بالزندقة الفكرية، فكانت نزعة
فردية لدى البعض، وكثير منهم عبر عن أفكاره بحرية وربما دخل في مناظرات عامة مع
علماء المسلمين، وكان منهم من اشتهر أمره مثل ابن الوراق وابن الراوندي، وربما كان
إخوان الصفا المشهورين من هؤلاء الزنادقة أو تأثروا بكثير من أفكارهم؛ ولكن حركات
التمرد التي شنها الزنادقة في بداية تأسيس الدولة العباسية، جر على الزندقة
الفكرية الويلات، حيث أنشأ الخليفة المهدي جهازًا خاصًا لملاحقة الزندقة بكل
ألوانها أسمي ديوان الزندقة، ويصف السيوطي المهدي في كتابه تاريخ الخلفاء قائلًا
«تتبع الزنادقة وأفنى منهم خلقًا كثيرًا».
أما الفرقة الثانية، وأسميها الزندقة المسلحة، فكان أول ظهور مؤثر
لهم في الفترة الفوضوية التي أعقبت استيلاء العباسيين على السلطة، على يد من يسمى
سنباذ المجوسي، وتشير بعض المصادر إلى أنه كان ينحدر من سلالة من كهنة المجوس/رجال
الدين الزورفانية، ولحق بأبي مسلم الخراساني الذي قاد الثورة العباسية، فلما قتل
المنصور أبا مسلم تمرد سنباذ وانحاز إلى طبرستان واجتمعت حوله جماهير وصفها المؤرخين
بأنها مزدكية، وتبنى سنباذ برنامجًا جمع فيه ما بين تعاليم شيوعية مزدك ومحاربة
العرب والإسلام، ولكنه هزم أمام قوات المنصور العباسي وقتل نحو عام 137ه. ثم أعقب
تلك الحركة، حركة المقنع الخراساني، والتي اندلعت من مرو في خرسان، وتزعمها شخص
غامض اسمي بالمقنع بسبب وضعه قناع ذهبي فوق وجهه المشوه، وانتحل نفس أفكار سنباذ،
وزاد عليها ادعاءه الألوهية، وقد اشاعت حركته الفوضى في خراسان، وألحق الهزائم
بالقوات العباسية عدة مرات، قبل أن يهزم وينتحر عام 163ه. ولكن أخطر حركاتهم هي
حركة بابك الخرمي، والخرمية اسم من أسماء المزدكية، وقد اندلعت ثورته في أذربيجان،
وتعاليمه جمعت بوضوح بين الاستعلاء القومي وعداء الإسلام وتعاليم الشيوعية
المزدكية، وشن حملة إبادة على المسلمين في المنطقة التي سيطر عليها، وهزم
العباسيين مدة عشرين عامًا، حتى تمكن العباسيين في خلافة المعتصم من هزيمته حيث
حمل إلى سامراء وأعدم عام 222ه.
ويبدو أن المزدكية وجدت مأوى لها في بعض المناطق النائية من الهند
حتى القرن السابع عشر الميلادي على الأقل، حيث أشار مولا ذو الفقار في كتابه
دابستان مذاهب إلى أنه التقى ببعض أتباعها في جولاته في الهند، ولكن لا يعرف أنه
لا يزال لها أشياع لليوم.
لكم تحياتي
0 تعليقات