ناجي عباس
الأمل في الإطاحة ببوتين هو أقصى ما تفكر فيه الدوائر السياسية والأمنية
الآن في الغرب الأمريكي والأوروبي - بعد كشف بوتين وتعريته لهذا العالم، وبالرغم
من ذلك فالتمني في حد ذاته خطر على المدى الطويل لان بوتين في الحقيقة هو من فرمل
الجيش الروسي حتى الآن من ان يفرض تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في بداية التسعينات
بالقوة، بل واستعادة دول البلطيق الثلاث خارج الناتو ولو بفرض حكومات موالية
لروسيا عليها..هذا ما سيفعله الجيش الروسي حال غياب بوتين .
تمني غياب بوتين ولو بالاغتيال والانقلاب عليه قائم على فرضية
مغلوطة مفادها ان الحرب في أوكرانيا هي حرب رجل واحد، وستنتهي باختفاء فلاديمير
بوتين.
وجهة النظر تلك للأمور وصلت الى حد اقتراح تجهيز منفى سياسي
لبوتين، أو ما قاله أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي المقربين لروتشيلد الابن علناً
بتشكيل فرقة اغتيال. وهذا كله في الحقيقة ليس أكثر من تمني لصرف الانتباه عن حالة
العجز الدفاعي الكامل الذي بدت فيه أميركا وأوروبا أمام العالم كله عن حليف لهم
ملؤوا العالم كله صراخاً عليه .
الحكومات الأوروبية بمعظمها سارت وراء الولايات المتحدة في إضفاء
الطابع الشخصي على النزاع الحالي إلى أقصى حد، باعتبار ان ما يحدث هو حرب بوتين -
مثلما كانت الحروب الروسية كلها حروب " شخصية لمن كانوا قبل بوتين في منصبه -
سواء كان الأمر قبل الحرب العالمية الثانية أو بعدها" !!! ...هراء وكذب
وتضليل ومغالطات تاريخية مفضوحة الى أقصى حد
لو كان الأمر كذلك - وحربكم تلك ضد " أمير الحرب "
بوتين، فلماذا عاقبتم اذاً العلماء والفنانين والرياضيين والاكاديمين بل والطلاب
الروس في كل مكان بأوروبا والعالم ؟
العجز الكبير الأمريكي الأوروبي الحالي تمثل في ظاهرتين يراهما كل
مواطن يعيش في الغرب الآن، أولاهما هو التناول الإعلامي لما يجري القائم على ترويج
إشاعات وأكاذيب وأنصاف حقائق، والى حد إغلاق وسائل الإعلام الروسية من البث والنشر
في الغرب ، وثانيهما هو تغذية الآمال الشعبوية لقبول فرضية انه لا حل الا بتغيير
النظام واختفاء بوتين الذي ربما قد يكون تمهيداً لحدوث ما لا يعرفه أحد
سواهم...ظاهرتان تمثلان انتكاسة حقيقية حتى عن مفاهيم الغرب عن حرية الرأي التي
طالما تغنى بها الغرب.
العقوبات الاقتصادية الحالية الشديدة التي أصابت الشعب في روسيا أصابت
في نفس الوقت كل الشعوب الأوروبية - وهذا ما يتغافل عنه الاعلام الغربي كله،
ومثلما ارتفعت أسعار السلع والوقود وكل شيء تقريباً في روسيا ارتفعت الأسعار وبشكل
اكبر في الغرب فالتضخم الناجم عن مثل تلك العقوبات العريضة لا يعرف حدوداً
جغرافية، والناس بدأت تتململ ليس فقط في روسيا بل وبشكل اكبر في الغرب، فللحرب
الاقتصادية الحالية ضد روسيا تداعياتها ليس فقط على عمال مصانع فولكس فاجن الألمانية
في روسيا بل ايضاً على عشرات الالالاف من العمال الأوروبيين في المانيا والنمسا
وغيرهما - الذين وجدوا أنفسهم فجأة عاطلين عن العمل لإغلاق المصانع التي كانت
تستورد المواد الخام والطاقة بالدرجة الأولى من روسيا، علاوة كذلك على عشرات
الملايين من المتقاعدين الآوروبيين الذين باتوا في حاجة لطلب مساعدات وإعانات إضافية
لعدم كفاية رواتب التقاعد بعد غلاء الأسعار وموجة التضخم الحالية، واكتشف الغرب
فجأة ان غسل أدمغة الناس لا يكفي لمواجهة حرب سعوا إليها وقامروا على نتائجها
مثلما فعلوا من قبل في أفغانستان وسابقاً في جنوب شرق أسيا وكوريا وفيتنام.
الأوهام المائعة بشأن ما يمكن ان يحدثه غياب بوتين من "تغيير
للنظام" في روسيا - طالت بالفعل اوساطاً وقطاعات سياسية وحزبية كبيرة في أوروبا
في بداية الحرب - وبدأت أخيراً في الانقشاع بعد رفض الولايات المتحدة مجرد تسلم
طائرات الميج الروسية في بولندا ومنحها لاوكرانيا - بدعوى عدم وجود عدد مثيل من
الطائرات الامريكية لمنحه عوضاً عنها لبولندا - وكذلك رفض المانيا وفرنسا المشاركة
في حرب عسكرية ضد روسيا بأي شكل او درجة.
سألت سياسي ألماني كبير عن الموقف الألماني الفرنسي فقال لي صراحة
" الجنرالات الروس ينتظرون تلك الخطوة منا ليفضحوا عجز الولايات المتحدة عن
الدفاع عن حلفائها في أوروبا، فالولايات المتحدة لن تقدم على فعل أي شي الا لو
هوجمت بريطانيا ومصالحها، وغير ذلك سيظل الموقف الأمريكي هو نفس ما نراه الآن مع أوكرانيا
.
الولايات المتحدة راهنت على بعض الجنرالات الفاسدين - القلة من
الجنرالات المحبين للغرب وأمواله - خشية على اموالهم المهربة والمسروقة المودعة في
البنوك الأوروبية والأمريكية - وهؤلاء موجودون في كل بلاد العالم - وراهنوا لفترة
على المخابرات الروسية..لكن رهاناتهم تلك سقطت سريعاً حين شاهدوا رئيس المخابرات
الروسية يرتعد خوفاً بعد قيام بوتين بتوبيخه..تعمد بوتين فعل ذلك علانية ليريهم
هشاشة رهاناتهم على اجهزته،
الأدلة على قدرة الأوليغارشية على حشد القوى السياسية للإطاحة
برئيس الكرملين غير موجودة، وكل الرموز الكبار في الجيش الروسي عقدوا اتفاقاً
صريحاً وواضحاً مع بوتين منذ فترة طويلة - مفاده مارسوا أعمالكم خارج روسيا دون
عائق بعيداً عن السياسة..ومن سيخل بالاتفاق منكم سيختفي ...بهذا الوضوح تعامل
ويتعامل بوتين مع الاوليجاركية الروسية ..وهذا ما لم يفهمه الغرب الا بعد وقوع الفأس
في رأس أوكرانيا
الآن فقط - وبعد موافقة الولايات المتحدة على مفاوضات السلام
الروسية الألمانية الفرنسية الأوكرانية بدأت الأوساط السياسية مناقشة من نوع جديد
بشأن التعايش السلمي المستقر في القارة " المشتركة مع روسيا" وضرورة صياغة
عقد اجتماعي روسي اوروبي جديد لا يتجاهل الأمن القومي الروسي على نحو ما فعل حلف
الناتو طيلة السنوات الثلاثين الأخيرة، والكف عن اوهام ومراهنات الفصل بين الرئيس
الروسي والنخبة العسكرية - في الوقت الحالي على الأقل، وبمعنى التخلي عن طموحات
تحجيم روسيا وأضعافها طالما ظل بوتين يحكم الكرملين.
وحين يختفي لكل حادث حديث.
....
البعض يردد في أوروبا الآن بيت الشعر القائل
دعوت على عمرو
فمات فسرّني
فعاشرت أقواماً
بكيت على عمرو
.
المقال هذا معد للنشر بالألمانية
0 تعليقات