د. وسام الدين محمد
الرابع عشر من رمضان 1443هـ
الخامس عشر من ابريل
مع بداية القرن الثالث الهجري، كانتا مدرستي الرواية والرأي قد
تبلورتا وتمايزتا في كافة مجالات الفكر الإسلامي، ولكن مدرسة الرواية ظلت مقدمة في
علوم التفسير على مدرسة الرأي، ولعل مما يدل على ذلك أن أقدم تفسير كامل للقرآن
وصلنا، تفسير الطبري المسمى جامع البيان عن تفسير آي القرآن – أنظر منشور 122 -
محسوب على مدرسة الرواية، ولعل سبب تأخر مدرسة الرأي في دراسة تفسير القرآن، أن
هناك من العلماء من أعتبر التفسير بالرأي هو ما باب التقول على الله المذموم في
قوله تعالى «إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا
عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ» وتمترس وراء ظاهر حديث ابن عباس عن النبي، صلى
الله عليه وسلم، «من قال في القرآن برأيه، فليتبوأ مقعده من النار»؛ ولكن كان هناك
اتجاه بين العلماء يعتبر أن تفسير القرآن بالرأي هو من باب تدبر القرآن المأمور به
في قوله تعالى «كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ
وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ»، وقد استند هؤلاء إلى أن من بين الصحابة من
فسروا القرآن بالرأي حتى اختلفت تفسيراتهم باختلاف مصادرهم، بل أن ابن عباس نفسه
والذين نقل الحديث المشار إليه أعلاه كان من رواد التفسير بالرأي.
ولكن كيف يمكن أن يكون الرأي مذموم وممدوح في آن واحد؟
في هذه الفترة، كانت العالم الإسلامي يجمع إلى جانب الثقافة
الإسلامية ثقافات موروثة من الحضارات القديمة، وكان التفاعل مع هذه الثقافات أمر
حتمي، وكان إيجابي من أوجه، سلبي من أوجه أخرى، ومن أوجه السلبية تأثر بعض
المسلمين بنزعات كالحلولية والغنوصية وتبنيهم هذه النزعات ومحاولتهم فرضها على
القرآن بزعم أنهم يفسرون القرآن بالرأي - ما أشبه الليلة بالبارحة – فكان هذا هو
الرأي المذموم والذي نشط العلماء لتدوين التفسير بالمأثور لسد ذرائع أصحاب الأهواء
والبدع، ولكن كان هناك ومنذ أن نزل القرآن على النبي، صلاة الله وسلامه عليه، من
يفسر القرآن بالرأي، مستندًا إلى اللغة العربية وأسباب النزول وتناسب الآي والسور
وسياقات الكلام.
وقد حاز المعتزلة – هذه الجماعة التي اجتمع عليها ظلمها لنفسها
وظلم أنصارها وخصومها - بالذات قصب السبق في التفسير بالرأي المستند إلى اللغة،
ويذكر أن أول من دون في الإعجاز اللغوي للقرآن الكريم كان الجاحظ، وهو معتزلي
معروف، وكتابه عن الإعجاز القرآني مفقود، وإن كان قد أخبرني أخ كريم من المملكة
المغربية أنهم عثروا على جزء منه هناك منذ بضع سنوات وهو قيد التحقيق استعدادًا
لنشره، ولعلني لا أبالغ إذا زعمت أن علوم اللغة اليوم من بلاغة وبيان ومعان وبديع
قد أثرت بسبب دراسات المعتزلة المعمقة في القرآن وإعجازه اللغوي.
وفي القرن السادس الهجري خرج أهم كتب التفسير التي اعتمدت على
الرأي الذي أساسه اللغة، أخرجه واحد من أعلام اللغة والاعتزال، جار الله الزمخشري،
وهو التفسير المسمى (الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل)
والذي اشتهر بين الناس باسم (الكشاف) أو (كشاف الزمخشري) و(تفسير الزمخشري)، وكان
الزمخشري إذا جلس للدرس ربما خاض في مسائل التفسير على نحو أدهش طلابه ومريديه،
فألحوا عليه أن ينشأ كتابًا في تفسير القرآن، فألف كشافه هذا.
وتبدو قضية الزمخشري الأولى في تفسيره الإعجاز اللغوي للقرآن
الكريم الذي أعجز بلغاء العرب عن معارضته، فهو يبحث وجوه بلاغة القرآن ودقة لفظه
والتركيب، ملتمسًا لهدفه طريقه عبده بعلوم النحو والصرف والبلاغة يعتمد عليها عند
تفسيره للآيات، مستشهدًا على معاني الألفاظ بالشواهد الشعرية التي أحصاها بعض
العلماء فوجدها تزيد عن ألف شاهد.
ناقش الزمخشري في تفسيره الكثير من المسائل، اللغوية في المقام
الأول، وغيرها من مسائل العقيدة والفقه والتاريخ في المقام اللاحق، فكان يستخدم
تقنية السؤال والجواب، فيعرض المسألة، ثم يورد الاعتراض المحتمل في صورة سؤال
يقدمه بلفظه (فإن قلت)، ثم يجيب عن هذا الاعتراض مصدرًا إجابته بلفظة (قلت).
ويتميز الزمخشري بموقف متحفظ من الإسرائيليات التي يستطيع قارئ
الكشاف أن يدركه باستقراء تعامله مع القليل مما يرويه من هذه الفئة من المرويات،
فغالبًا ما يصدر كلامه عنها بألفاظ مثل (رُوِيَّ) أو (قيلَ) و(حُكِيَّ) و(زَعَموا)
إشارة إلى نسبة هذه الروايات إلى مجهولين، وهي ألفاظ مردودها الطعن في صحة
الرواية، ولكنه لم يحاول تفنيد هذه الإسرائيليات، ولعل ذلك مرجعه أنه تفنيد
الإسرائيليات لم يكن هدفه من التفسير.
وقد اخذ أهل السنة على الزمخشري – وهو معتزلي يصرح باعتزاله -
انحيازه لعقائد المعتزلة، وتقديمه لأصول المعتزلة الخمسة متلمسًا لذلك المعاني
اللغوية تخالف ظاهر النص والتأويل القريب بغير دليل وربما تذرع بالمجاز يخرج به
قول صريح عن معناه، كما أنه أثبت كثير من الآراء التي خالف فيها المعتزلة أهل
السنة كرأيهم في فاعل الكبيرة، والتحسين والتقبيح العقليين، وأفعال العباد؛ وقد
كان الزمخشري على عظيم قدره في العلم، مشبعًا بروح التعصب التي كانت سمة عصره
والتي أزكاها انتقال الخلاف في الرأي بين السنة والمعتزلة، إلى ديوان المأمون
وزنازينه، فنجد الزمخشري يشنع على أهل السنة في مواضع، ويشهر بهم مستخدمًا أوصاف
مثل الحشوية والقدرية؛ كذلك أخذ أهل السنة خاصة، والنقاد عامة، على الزمخشري أن
يروي في تفسيره الكثير من الأحاديث الضعيفة، خاصة ما كان يورده في فضائل السور؛
وقد أثرت هذه المآخذ الحركة الفكرية الإسلامية بما استفزت من ردود وتصويبات، فنجد
قاضي الإسكندرية ناصر الدين ابن المنير المالكي يؤلف في نقد معالجة الزمخشري
للمسائل العقدية في تفسيره كتابًا بعنوان (الانتصاف من الكشاف)، بينما قام الحافظ
ابن حجر العسقلاني بتتبع ما في الكشاف من احاديث وتخريجه في كتابه المعنون (كتاب
الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف).
طبع كشاف الزمخشري أكثر من مرة، وأكثر طبعاته تداولًا طبعة دار
المعرفة اللبنانية وفي هامشها حاشية الجرجاني وحاشية ابن المنير على الكشاف، وهي
مصورة من طبعة قديمة مجهولة الطابع ربما تكون قد طبعت في الهند أو في إسطنبول في
نهايات القرن التاسع عشر الميلادي، وحتى اليوم لم يحقق الكشاف تحقيقًا يليق بمكانة
الكتاب في التراث العربي الإسلامي.
أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري مؤلف الكشاف ولد في نحو 467ه في
بلدة زمخشر – التي نسب لها فيما بعد – في خوارزم، وهي اليوم في تركمانستان، وتوفي
في جرجان عام 538ه، كان حنفي المذهب، معتزلي المعتقد، وكان عالمًا ومتكلمًا
وأديبًا، وله مصنفات عدة إلى جانب الكشاف، وصلنا منها (أساس البلاغة) و(المفصل في
النحو) و(القسطاس في علم العروض) و(أطواق الذهب في المواعظ والخطب) و(الفائق في غريب
الحديث) و(ربيع الأبرار ونصوص الأخبار) و(مقامات الزمخشري).
تقبلوا تحياتي
0 تعليقات