آخر الأخبار

في فهم معنى «الغاز مقابل الروبل» 2- (إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا)

 






مهند دليقان



مع قرار روسيا تسعير غازها بالروبل، وكذلك الصفقة التي وقعت مع الهند لتبادل نفطي بالروبية الهندية، وفوقه الحديث الصيني السعودي عن احتمال التحول إلى شراء النفط باليوان الصيني، فإنّ العالم بأسره يناقش اليوم السؤال التالي: (هل وصلنا إلى نهاية عصر البترودلار؟)، ويخفي الكثيرون أن السؤال الأهم الكامن تحت هذا السؤال مباشرة هو التالي: (هل وصلنا إلى نهاية عصر الدولار كعملة عالمية؟)... وتحت هذين السؤالين أسئلة كثيرة أكبر وأعمق سنحاول مقاربتها أولاً بأول ضمن الحلقات القادمة من هذه السلسلة.



(اتبع الرابط لقراءة الحلقة الأولى)


ولكن قبل ذلك، لا بد من عودة إلى الوراء (قليلاً وربما كثيراً) في محاولة لتقديم شرحٍ مبسطٍ مستند إلى الماركسية لمفاهيم اقتصادية ومالية يجري تقديمها لنا على أنها طلاسم لا يمكن للإنسان العادي فهمها، وهذا مقصود بطبيعة الحال؛ لأنّ أرباب المال يرون العلم الاقتصادي الحقيقي علماً محرّماً على عامة الناس، بالذات لأنه علمٌ كاشفٌ للأسباب والآليات الأساسية للظلم والقهر والاستغلال الذي تعيشه البشرية، وذلك رغم أنّ حقيقة الأمر هي أنّ العلم الاقتصادي قابل للفهم من الجميع، بل وربما أقل صعوبة من غيره من العلوم، على الأقل بما يخص أساسياته التي يحتاج فهمها كل إنسان يعيش على هذه الأرض.


«إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا...»

إذا حاولنا تطبيق الطريقة الإبداعية لنهاد قلعي- حسني البورظان (لكي نعرف ماذا يحصل في إيطاليا فيجب أن نعرف ماذا يحصل في البرازيل...)، فإنّ الأمر قد يبدو بالشكل التالي:

 

لنعرف معنى (روبل- غاز) علينا أن نعرف معنى البترودولار.

لنعرف معنى البترودولار علينا أن نعرف معنى بريتين وودز.

لنعرف معنى بريتين وودز علينا أن نعرف ما الذي يعنيه وجود عملة عالمية هي الدولار.

 

ولنعرف معنى وجود عملة عالمية علينا فهم معنى العملات المحلية.

ولفهم معنى العملات المحلية علينا أن نفهم قبل كل شيء ما هو معنى العملة أساساً، وقبلها معنى النقد...

 

ولنعرف معنى النقد علينا أن نعرف معنى البضاعة.

 

ولنعرف معنى البضاعة علينا أن ندرس (ولو بشكل مبسط) قانون القيمة!



شرط التبادل

 

لم يظهر النقد أو المال إلا في مرحلة متأخرة من تطور البشرية الطويل. ولم يكن أول نقدٍ استخدمه الإنسان هو العملات المعدنية والأوراق والصكوك والحسابات التي نعرفها اليوم، وكذلك فهو لم يستخدم النقود الذهبية أو الفضية أو البرونزية أو غيرها إلا في مرحلة متأخرة جداً. النقد الأول الذي استخدمه الإنسان كان يختلف من منطقة لأخرى حسب طبيعة الموارد الموجودة وطبيعة النشاط الاقتصادي؛ ففي أماكن معينة جرى استخدام الملح كنقد (حتى أنّ رواتب الجنود الرومان كانت تدفع أحياناً بالملح)، وفي أخرى ريش طيور معينة، وفي ثالثة أنواع محددة من الأصداف وهكذا... ولكن لماذا استخدمها ولأية غاية؟

 

لم تبدأ عمليات تبادل المنتجات بين البشر أفراداً وجماعات إلا في مرحلة متأخرة جداً، إذ إن الشرط الأساسي لأية عملية تبادل لم يكن متحققاً طوال القسم الأعظم من عمر البشر على الأرض؛ ذلك الشرط ببساطة هو قدرة التجمع البشري على إنتاج فائضٍ ما، حتى ولو كان موسمياً في المراحل الأولى، بحيث يمكنه مبادلته مع منتجات أخرى، لتجمعات مجاورة، أو ضمن التجمع نفسه.



تقسيم العمل

 

عمليات التبادل الأولى أخذت شكل المقايضة، أي التبادل المباشر للمنتوجات، وبما يسمح بتلبية الاحتياجات. ومع التطور بدأ إنتاج الإنسان وكذلك حاجاته بالتنوع والتوسع.

 

يعبّر الاختصاصيون عن هذا التطور، بأنه تطورٌ في تقسيم العمل بين الناس، بمعنى أنّه ولفترة طويلة لم تكن هنالك اختصاصات في العمل البشري، الكل يعمل مع بعضه وبنفس الأعمال تقريباً، (جمع والتقاط وإلى حد ما صيد). في تلك المرحلة كان هنالك نوع بسيط من تقسيم العمل، ولكنه «تقسيم عمل طبيعي» يستند إلى العمر والجنس: (فالشباب هم المعنيون أكثر من غيرهم بالصيد مثلاً، في حين أن الأصغر عمراً معنيون بالالتقاط، والنساء معنيات أكثر بالأعمال القريبة من مكان تجمع العشيرة بما في ذلك الإنجاب والتربية ومن ثم في مراحل لاحقة الزراعة وتربية المواشي، والكبار في السن يلعبون دوراً استشارياً بحكم خبرتهم، وهكذا...).

مع تطور قدرة الإنسان على التعامل مع الطبيعة، وعبر العمل بالدرجة الأولى، أصبح ممكناً وضرورياً في مرحلة معينة من التطور أن يخطو تقسيم العمل خطوات إضافية إلى الأمام. بشكل مبسط، فقد أصبح ممكناً مثلاً أن يختص شخص أو مجموعة أشخاص صغيرة بتصنيع المحاريث وغيرها من أدوات الزراعة البسيطة التي كان البشر قد استطاعوا اختراعها حتى حينه. بالمقابل فإنّ على العشيرة أن تقدم لهذه المجموعة أو الشخص احتياجاتهم الأخرى من طعام ولباس وإلخ. يمكن اعتبار هذا الشكل التعاوني الشكل الجنيني الأولي لعمليات المقايضة اللاحقة، والتي ظهرت بادئ الأمر بشكل أوضح في التبادلات بين العشائر المتجاورة (مقايضة أنواع مختلفة من الطعام واللباس والأدوات وغيرها ببعضها البعض).



أساس المقايضة

 

كان كل طرفٍ من الطرفين المتقايضين يسعى ضمن عملية المقايضة للحصول على منتَجٍ مختلف نوعياً عن المنتوج الذي يقدمه، (وتالياً يلبي حاجات مختلفة) ولكن في نفس الوقت أن يكون مكافئاً بطريقة ما للمنتوج الذي يقدمه، وبما أنّ المنتوجات التي يجري تقايضها هي مختلفة عن بعضها كل الاختلاف، في وزنها وحجمها وطبيعتها، (مثلاً لباس مقابل طعام)، فإنّ العملية كانت تجري بشكل تقريبي وتوافقي، ولكنها تستند ضمنياً إلى وحدة قياس ليست ملموسة ولا واضحة للعيان... وقد عبر أرسطو عن ذلك بالقول إن «التبادل يجري بين متعادلات» أي بين أشياء متكافئة، ورغم أنه كان من المستحيل أن يتمكن من تحديد الوحدة التي يجري القياس الضمني على أساسها في ذلك الوقت المبكر من التاريخ، إلا أن مجرد تلمسه لهذه القاعدة كان عبقرية فذة أسست للاكتشافات اللاحقة (بعد أكثر من ألفي سنة) التي صاغتها مدرسة الاقتصاد السياسي الكلاسيكي بدءاً من آدم سميث وريكاردو ووصولاً إلى ماركس.



في الحلقة التالية سنقف عند:

 

- ما هي البضاعة؟

- قانون القيمة

 

إرسال تعليق

0 تعليقات