آخر الأخبار

في ذكرى الخالصي الكبير

 




 

عز الدين البغدادي

 

من بين الآلاف من فقهاء الشيعة في العصور المتأخرة كانت هناك خصوصية عجيبة لشخصية الشيخ "محمد مهدي الخالصي" وهو محمد مهدي ابن الشيخ حسين ابن الشيخ عزيز الخالصي الكاظمي، ولد في أسرة علمية كريمة ترجع بنسبها الى قبيلة بني أسد في الجبايش جنوب الناصرية.

 

أكتب وأنا أعلم أنه ليس سهلا أن تكتب عن شخصية بمستوى هذا العلم، فعطاء الرجل العلمي ومؤلفاته الكثيرة التي تتسم بانها نوعية وليست للكثرة ولا للمكاثرة، فهو الذي أدرك مبكراً خطر النزعة الأصولية المتشددة فكتب "عناوين الأصول". وهو الذي كان يؤمن بمنهج التيسير والتسهيل فكانت رسالته في "عدم نجاسة المتنجس" ورسالته في "تداخل الاغتسال" فضلا عن رسالته العملية التي اختار لها عنوان "الشريعة السمحاء"، وهو الذي وقف سداً ضد من كانوا يطعنون في مذهب آل البيت فكتب "تصحيف المنحة الإلهية عن النفثة الشيطانية".

 

أيضا له منظومات في العلوم العربية المختلفة، ورسائل أخرى متفرقة، كما أسس المدرسة الشهيرة في الكاظمية التي اشتهرت باسم المدرسة الخالصية.

 

تاريخه الجهادي الذي كان واضحاً صادقاً، لم يكن مما يجاهد ليضغط على خصمه وليحصل على بعض المكاسب، بل كان ينطلق من وعي عميق بعمق إيمانه. وهو ما جعل معظم من عاصره ينظر إليه باحترام كبير بما فيهم خصومه..

 

جمع بين العلم والشجاعة والوطنية والصدق حتى حاز على إجماع العراقيين في احترام مكانته وجهاده، قال عنه السيد محمد مهدي الاصفهاني الكاظمي في كتابه "أحسن الوديعة": كان مجسّمة الأخلاق الفاضلة، والنعوت الممتازة، وكان قليل الكلام، وكان في أغلب أوقاته متبسّماً، وكلّ ما نصفه بالجميل فهو فوق ذلك"، وقال السيد محمد صادق ال بحر العلوم في كتابه الدرر البهية: "العالم النحرير والمصلح الكبير شيخ المجاهدين في سبيل الدين وإقامة شريعة سيد المرسلين "

 

ورغم مكانته وإسهاماته العلمية؛ إلا ان الأهم هو شخصيته التي يمكن القول بانها كانت خارقة لما اشتملت عليه من شجاعة وفهم وشعور عال بالمسؤولية، وهو ما أكسبه احتراما غير مسبوق في المجتمع العراقي على تنوعه أطيافه وتوجهاته الفكرية، قاد معارك الجهاد ضد الانكليز في منطقة العمارة، وكان المحرك الأهم لفتوى الجهاد في ثورة العشرين، وعندما قامت الملكية في العراق جاء فيصل الأول الى المدرسة الخالصية في الكاظمية ليطلب منه دعمه في تولي المنصب، اخبره بانه يوافق على ذلك بشرط: أن يسير فيصل بالحكم سيرة عادلة وعلى أن يكون الحكم دستورياً ونيابياً وأن لا يتقيد العراق في عهده بأية قوة أجنبية. ».

 

وعندما حصلت الهجمة الوهابية على العراق سنة 1922 وهو الهجوم الذي قتل فيه 694 مواطنا عراقيا فضلا عن نهب آلاف الإبل والغنم والممتلكات الأخرى، وأسر بعض نساء العشائر، ترأس الشيخ مهدي الخالصي مؤتمرا علمائيا كبيرا في كربلاء لبحث الرد الشعبي على الغزو الوهابي، واتخاذ التدابير اللازمة لوقف التعدي، حيث بعث 250 برقية إلى رؤساء وزعماء البلاد يستحثهم فيها على الحضور، واتخذ المؤتمر قرارات هامة ساهمت في تحريك الحكومة والشعب للتصدي لهذه الهجمات الإرهابية الآثمة.

 

عندما علم فيما بعد ان فيصل اقل مما تفتضيه المرحلة أعلن بموقف قوي انه خلع بيعته لفيصل وان بيعته غير ملزمة لكونه خالف ما اشترط عليه، قامت سلطة الاحتلال بنفيه الى الهند عام 1923ثم الى عدن ولما وصل الى عدن كانت جهات كثيرة وجهات رسمية تدخلت لإطلاق سراحه فأطلق سراحه في عدن غير إنه قصد مكة المكرمة حاجا وبعد أداء الفريضة قصد إيران واختار المشهد الرضوي سكنا له.

 

وبسبب مكانته الكبيرة خرج عدد كبير من العلماء احتجاجا على نفيه منهم النائيني وأبو الحسن الأصفهاني وعدد كبير من المجتهدين تضامنا معه، الا انه وبعد مفاوضات مع الحكم الملكي تم الاتفاق على رجوعهم مقابل عدم تدخلهم في السياسة إلا ان الخالصي الكبير رفض ذلك، وأصر على موقفه الوطني وبقي في إيران حتى تُوفّي في الثاني عشر من شهر رمضان 1343ﻫ- 1925 بمشهد المقدّسة، ودُفن بجوار مرقد الإمام الرضا(ع).

 

وبسبب مكانته الكبيرة والمحترمة فقد رثاه كل شعراء العراق كالرصافي والزهاوي والجواهري الذي قال في قصيدته:

 

ردوا إلى أوطانه نعشهُ لا تدفنوا في فارسٍ يعربا

 

وكذلك رثاه الأزري وشيخ موسى اليعقوبي وملا عبود الكرخي رغم اختلاف هؤلاء في اتجاهاتهم وتوجهاتهم، بل حتى الملك فيصل تألم كثير لوفاته رغم انه خصمه السياسي وذلك لما كان يتمتع به من صدق وإخلاص وشجاعة وخطاب جامع. لذا لم يبعد الدكتور علي الوردي عن الحقيقة عندما قال: تحول الخالصي الى أسطورة بعد موته بعيداً عن الوطن.

 

توفي وترك منهجا وطنيا جامعا لا زالت مدرسته ثابتة عليه رغم مرور السنوات وتغير الحكام، فلا زالت مكانة هذه المدرسة كبيرة علما وجهادا وتاريخا نظيفا مشرفا.

 

من أهم ما كتب عنه كتاب "بطل الإسلام" الذي كتبه ولده الشيخ محمد ويعد وثيقة تاريخية هامة لتلك المرحلة، وقد ترجم الى الفرنسية والفارسية منذ زمن بعيد.

 

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات