آخر الأخبار

كتاب كل يوم جمعة : مع المفسرين (3/4) – تفسير الجواهري أو الجواهر في تفسير القرآن

 

 



 

 

د. وسام الدين محمد

الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك عام 1443 هـ

الثاني والعشرين من أبريل سنة 2022 م

 

 

 

تفرغ عن التفسير بالرأي عدد من المدارس التي عنيت كل منها بناحية من نواحي الرأي، وكانت مدرسة التفسير بالرأي التي تعتمد على اللغة المقدمة بين هذه المدارس، إذا كانت تستند في منهجها وشرعيتها إلى أن الله عز وجل أنزل القرآن باللغة العربية ليخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم والعرب بلسان عربي مبين، فلابد أن يستند تفسير القرآن على فهم هذه اللغة، وقد لقى هذا المسعى ترحيبًا وقبولًا من المسلمين عامتهم وعلمائهم، وإذا كان الزمخشري قد قدم تفسيره اللغوي المسمى الكشاف في القرن السادس – أنظر منشور رقم 124 – فإن حتى اليوم لا يزال هذا المسعى يجتذب الكثير من الجهود والباحثين. إلى جانب مدرسة التفسير بالرأي اللغوي، يمكن أن نحسب مدرسة التفسير الفقهي من مدرسة الرأي. وأصحاب هذه المدرسة يهتمون ببيان أصول المسائل الفقهية في القرآن الكريم، ويستطردون في بحث هذه المسائل إلى فروعها، مع تقديم المذهب الفقهي الذين ينتمون إليه عند مناقشة هذه المسائل، ومن أمثلة أنتاج هذه المدرسة تفسير أحكام القرآن للكيا الهراسي الشافعي المذهب، وتفسير الجامع لأحكام القرآن المشهور باسم تفسير القرطبي نسبة لمؤلفه أبي عبد الله القرطبي المالكي.

 

ولكن المدرسة التي أثارت الإعجاب واللغط في آن واحد من بين مدارس التفسير بالرأي، كانت مدرسة التفسير العلمي، وهي مدرسة آل أصحابهم على أنفسهم أن يحاولوا استكشاف رابطة بين القرآن الكريم والعلم، وهو أمر مقبول ما دام يقتصر على ما يمكن أن يسمى حقائق علمية ثبتت بالمشاهدة والتجربة المتكررة، بل لعله مما مدحه الله عز وجل في قوله «قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون» (يونس-101)، ولكن الأمر ينقلب مذمومًا عندما يحاول البعض أن يربط أن يستدل على نظريات علمية بآي الكتاب، أو أن يفسر القرآن وفقًا لهذه النظريات. ولعل أول من قدم مثل هذا النوع من التفسير كان تفسير مفاتيح الغيب والمعروف بالتفسير الكبير، ألفه العالم الموسوعي فخر الدين الرازي في القرن السادس من الهجرة، وقد عرف هذا التفسير باستطراد مؤلفه في المسائل الرياضية والطبيعية والكونية.

 

وفي العصر الحديث، وفي ظل الهزيمة الحضارية التي يعاني منها المسلمين، وجد جماعة من المسلمين، من العامة والعلماء، ضرورة في إحياء مدرسة التفسير العلمي للقرآن الكريم، بعضهم مدفوعًا بحمية الدفاع عن الإسلام في هجمة تيارات فكرية حديثة سطت على الإنجاز العلمي البشري واحتكرتها لنفسها، وبعضهم آخر رأى أنه لكل مقام مقال، ولكل زمان رجال كما جاء في الأثر، وهذا زمان رجاله رجال العلم والتقنية فلابد أن يكون الخطاب الإسلامي يناسب هذا الزمان، وفي هذا الظرف، وبعض ثالث رأى أن في التفسير العلمي للقرآن دافعًا لشباب الإسلام أن ينهل من القرآن والعلم في آن واحد، فيكون هذا الدافع سببًا لنهضة الأمة التي تعاني من تدهور العلم الديني والدنيوي في آن واحد، ولعل من بين هذا البعض الثالث الشيخ طنطاوي جوهري صاحب التفسير الذي نقدمه اليوم المسمى (الجواهر في تفسير القرآن الكريم المشتمل على بدائع المكونات وغرائب الآيات الباهرات) والمعروف اختصارًا باسم (تفسير الجواهر).

 

يبدو من استقراء تفسير أن صاحبه أراد أن يجعل تفسيره تفسير لعصر هيمن عليه التطور العلمي والتقني، وتراجع فيه المسلمين عن صدارة المشهد العالمي لضعف مساهمتهم في العلم والتقنية، كما أنه في تفسيره هذا يرضي نهمه الشخصي في الاطلاع على العلوم الكونية والمعارف التقنية. وكان الجوهري قد داوم لعقود على الكتابة في الصحف والجرائد السيارة في زمنه حول القرآن الكريم وعلاقته بالعلوم الطبيعية، فتفرغ لكتابة تفسير كامل للقرآن الكريم يعتمد على مقابلته مع هذه العلوم، والطريف أنه أنطلق لتفسيره هذه من حقيقة إحصائية استخرجها من القرآن الكريم، وهي أن عدد الآيات المتعلقة بالكائنات والموجودات سبعمائة وخمسية آية، في مقابل مائة وخمسين آية تتناول الأحكام الفقهية، وخلص من هذا إلى أن واجب المسلم أن يبحث في هذه الآيات أكثر من بحثه في آيات الأحكام؛ كما أنه يرى في مواضع أخرى أن التفسير التقليدي – أو التفسير اللغوي والفقهي – قد بلغا منتهاهم من زمن، وأن من يتبع هذه المدارس اليوم إنما هو يجتر جهود من سبقه في هذا المضمار، ويرى أن الواجب في هذا الزمان هو التصدي إلى التفسير العلمي، وهو الواجب الذي قرر أن يقوم به في تفسيره الجواهر؛ وقد التزم الجوهري بهذا المنهج الذي اختطه لنفسه، فتراه في تفسيره للآيات قلما يقف عند التفسير اللغوي للألفاظ أو المسائل الفقهية والعقائدية، ولكنه يتوقف عند الآيات التي تتعرض للظواهر الكونية، فيفسرها على النحو التقليدي على عجالة، ثم ينطلق من هذا العجالة إلى استطرادات طويلة، يسميها اللطائف أو الجواهر، يعرض فيها كل ما وقف عليه من أقوال العلماء والمختصين، القدامى والمحدثين، الشرقيين والغربيين، في المسألة التي يتناولها، وربما أضاف إلى مقالته هذه صورة واشكالًا ايضاحية لما يتناوله من موضوعات كالنبات والحيوان ليبين فكرته ويوضحها، وقد جره هذا التوسع لتبني بعض الآراء المنسوبة لفلاسفة التي خالفوا فيها الإسلام. ولكن تفسير الجواهر له نقيصتين رئيستين في نظري؛ الأولى أن مؤلفه وإن فر من شرك الإسرائيليات التقليدي، فإنه نصب لنفسه شرك آخر من نفس النوع وأوقع نفسه، وذلك بأن لجأ إلى انجيل برنابا – والذي كان يعتقد بصحته ودقته – يرجع إليه ويستشهد منه، ومن المعروف أن صحة الأناجيل ودقتها موضوع بحث حتى عند المسيحيين أنفسهم؛ والثانية أن الجوهري لجأ في كثير من المواضع إلى ما يسمى بحساب الحروف والجمل، وهو حساب مأخوذ عن الغنوصية اليهودية، يفترض أن هناك اسرار مخفية في كتاب القرآن لا يمكن الوصول لها إلى من خلال حساب معين يعتمد على قيم الحروف والكلمات والجمل.

 

عند صدور تفسير الجواهر، لقي ترحيبًا من قطاع من المثقفين المسلمين، الذين اعتبروه يحاول أن يقدم تفسير يناسب مشاكل العصر، بينما رأى فيه نفر آخر من المثقفين أن فيه تكلفًا كبيرًا، ولكنه مع ذلك لقي قبولًا وشهرة كبيرة خارج مصر، خاصة في بلدان جنوب شرق آسيا المسلمة مثل اندونيسيا وماليزيا.

 

مؤلف هذا التفسير، طنطاوي جوهري، واحد من أهم مفكري مصر في زمانه. ولد في احدى قرى الشرقية عام 1870، ودرس في الكتاتيب كعادة أبناء زمانه، ثم التحق بالأزهر، ثم انتقل إلى دار العلوم، كان مثقفًا لم ينعزل في أبراج المثقفين العاجية، ولكنه انخرط في الإصلاح الاجتماعي والنضال السياسي ضد الاستبداد والاحتلال، وكان قلمه زربًا يخوض به في الفكر والمسائل العامة على صفحات أشهر مجلات زمانه، حتى أطلق عليه مصطفى كامل اسم حكيم الإسلام، وقد اشتغل في التعليم زمانًا، ودَرَسَ دار العلوم وفي الجامعة المصرية، وتفرغ للتأليف بعد تقاعده فألف في نحو اثنى عشر سنة تفسيره المذكور، كما ألف العديد من الكتب الفلسفية في نفس هذه الفترة، منها ما دعا الدكتور مصطفى مشرفة إلى ترشيح الجوهري لنيل جائزة نوبل للسلام، وبالفعل رشحته الخارجية المصرية لنيل الجائزة عام 1939، إلا أن وفاته هذه السنة حالت دون حصوله على الجائزة حيث لا تمنح إلا للأحياء.

 

طبع تفسير الجوهري طبعته الأولى في مطبعة البابي الحلبي، وهي من نوادر المطبوعات وثمينها اليوم شرط أن تكون أصلية، ولكنه لا يزال يطبع من حين إلى آخر، تطبعه دور نشر مختلفة.

 

تقبلوا تحياتي

إرسال تعليق

0 تعليقات