د. وسام محمد عبده
آخر شعبان 1443 هـ
أول ابريل 2022 مـ
وهل لي أن أنتهي من هذه السلسلة دون الوقوف بين يدي دروس التاريخ
يلقيها وِل ديورانت وزوجته آريْيِل ديورانت، أشهر من كتب في التاريخ العام في
القرن العشرين وصاحبا السفر الشهير قصة الحضارة. فهما وقد شارفها على الانتهاء من
مشروعهما الأكبر قصة الحضارة اجتمعت لهم مجموعة من التصورات حول التاريخ والحضارة
ومصير الإنسان، فكان هذا الكتاب، الضئيل الحجم مقارنة بمؤلفاتهم الأخرى، الواسع
الأثر، المعنون (دروس التاريخ).
في هذا الكتاب يطرح آل ديورانت تصوراتهم حول كيف آليات عمل
التاريخ، ويخضعوا مختلف الآليات التي افترض المؤرخون أن تشكل التاريخ للبحث،
فيناقشون دور الطبيعة والجغرافيا والإنسان والاقتصاد والدولة، وذلك دون تقيد
بأيدلوجيا أو حكم مسبق حول، وهذا ما يجعل كتابهم هذا سباحة في فلسفة التاريخ
والحضارة.
بدأ آل ديورانت كتابهم بمناقشة مسألة الكتابة التاريخية، حيث نفيا
أن تكون الكتابة التاريخية علمًا بالمعنى المستخدم لوصف العلوم الطبيعية والمادية
كالفيزياء مثلًا، ولكنهما أكدا أن الكتابة التاريخية يجب أن تعتمد على علوم ومعارف
مختلفة مثل الجيولوجيا والأنثروبولوجيا والاجتماع والاقتصاد.
وهذا الفصل يمكن أن ننظر كفصل تمهيدي، حيث يبحث المؤلفان في الفصول
اللاحقة في آليات الحركة التاريخية وكيفية نشوء وتقدم واستمرار الحضارة الإنسانية
التي هي موضوع التاريخ.
يناقش آل ديورانت العلاقة المركبة بين التاريخ والجغرافيا
والتقنية، إذ يرى أن الجغرافيا الملائمة توفر حاضنة طبيعية ملائمة لنشأة الحضارة،
ولكن تبقى نشأة الحضارة واستمرارها رهنًا بقدرة الإنسان على تطويع الجغرافيا، وهو
ما تتيحه له التقنية، فالجغرافيا حاضنة الحضارة ولا تصنعها أما التقنية فسبب
الحضارة وروحها. ويبدو آل ديورانت أوفياء للثقافة الأوروبية السائدة في النصف
الأول من القرن العشرين – فترة تكونهما الفكري – بتبنيهم بعض أراء الدارونية
الاجتماعية بتفسيرهم تطور التاريخ استنادًا للمفاهيم تطورية مثل التنافس
والانتخاب؛ وفي الوقت نفسه يحاولا التحرر من هذه الثقافة – ولعلهما نجحا في ذلك
بسبب إخفاق مشروع الدارونية الاجتماعية في أربعينات القرن العشرين – ويوجهها نقدًا
عنيفًا لفكرة التفوق العرقي، ويسفهها فكرة أن هناك عرق بفطرته على إنشاء الحضارة
وعرق آخر يفتقر إلى هذه الفطرة الطبيعية، بل أنهما يستنتجان استنادًا إلى تصورهم
عن قصة الحضارة أن شعوب الجنوب أبدع الحضارة، بينما شعوب الشمال سرقت الحضارة
وأنتحلتها وحطمتها في مواطنها الأصلية وإن أقر لها بأنها نشرتها.
ويبحث آل ديورانت تأثير الفرد على التاريخ، وهو التأثير الذي ترفض
الاعتراف به فلسفات التاريخ التي ترى أن حركة التاريخ موضوعية جمعية كالماركسية،
ولكن آل ديورانت على هناك أفراد بأنفسهم صنعوا التاريخ بينما وقفت الجموع وقفة
المتفرج من نجاحات واخفاقات هؤلاء. ويحاول آل ديورانت تفسير أثر الفرد في التاريخ
استنادًا إلى الفلسفة الأخلاقية على نحو يذكر القارئ بكتاب ول ديورانت السابق
مباهج الفلسفة، فيرجعا قدرة البعض على التأثير في حركة التاريخ إلى تغلب النزعات
والقيم الإيجابية على نزعاته السلبية، ولكنهما يشترطان توافر الظروف ليتمكن الفرد
من التأثير على التاريخ.
ويستفيض آل ديورانت في بحث تأثير الدين على حركة التاريخ، فينطلقا
من تعريف الدين وتمييزه عن المؤسسة الدينية وتتبع دوره في التاريخ، ثم يخلصا إلى
أن الدين حاجة للبشرية لا غناء عنها، كما يخلصان إلى نتيجة سبقهما لها إشبنجلر وهي
جدلية الدين وضد الدين، إذا يرى أن التشدد الديني لابد أن يؤدي إلى انسداد تاريخي
يستدعي حالة من الانقلاب على الدين ومعاداته، وهذه الحالة بدورها تتحرك حتى تبلغ
مرحلة التشدد يقود إلى انسداد تاريخي جديد يؤدي إلى صعود الدين، وهكذا دواليك؛
ويبدو آل ديورانت في تصورهما هذا حول طبيعة دور الدين في التاريخ متأثرين في
المقام الأول بالتاريخ الأوروبي، وإن كان في فكرتهما وجاهة تجعلها جديرة بالدراسة
والتمحيص.
ويتعرض آل ديورانت إلى أهم مقاربات تفسير ونمذجة التاريخ السائدة
في زمن تأليف الكتاب، المقاربة الماركسية، وبينما يثمن آل ديورانت ما قام به ماركس
من اعتبار العامل الاقتصادي في حركة التاريخ، يأخذون عليه نبذه لغير ذلك من عوامل
مثل النزعات الفردية والحوافز الغير اقتصادية مثل الدين؛ ثم ينطلقان إلى تحليل
العلاقة بين النظامين الشيوعي والرأسمالي، فيثبتا لكل خصائصه المميزة فللأول شيوع
الملكية ومركزية القرار، وللثاني الملكية الخاصة والفردية، ولكنهما يعتبران وجود
هذين النظامين عبر التاريخ وجودًا جدليًا إذ يستلزم وجود نظام وجود الآخر،
وتفاعليًا حيث أضطر كل واحد إلى استعارة بعض خصائص الآخر وتطعيم نفسه بها حتى
يمكنه التأقلم مع التحديات؛ وليت شعري لو عاش مؤلفي الكتاب لليوم لوجدا في الصين
نظامًا شيوعيًا يتبنى سياسة اقتصادية رأسمالية متطرفة؛ ويخلص آل ديورانت إلى نتيجة
مفادها أن التاريخ حركة دورية تتبادل فيها الشيوعية والرأسمالية الأدوار بتنويعات
مختلفة.
يناقش آل ديورانت دور الدولة في التاريخ، ويقارنوا بين الأنظمة
الأوتوقراطية والديموقراطية والأرستقراطية، ليخلصوا إلى الدولة حاجة اجتماعية،
وأنها تتطور بقدر مراعاتها لتطور حاجات الشعوب، فإذا عجزت عن التطور تحول دورها
إلى حماية مصالح النخبة، وهو ما يؤدي إلى انهيار الدولة والثورة عليها، وهو الأمر
الذي يمكن تفاديه إذا أدركت الدولة دورها وعملت على مراجعة وظيفتها وتقويمها
باستمرار، وهو الأمر الذي تمتاز به الدولة الديموقراطية وهو ما يسمح لها
بالاستمرار أكثر من الدولة الأوتوقراطية والارستقراطية. وهما في استنتاجهما هذا
وانحيازهما للديموقراطية – رغم أنهما اقرا بأن الأوتوقراطية والارستقراطية كانت
مطلوبتان في ظروف معينة ونجحتا في هذه الظروف وفشلتا لما تغيرت الظروف - أمريكيان
حتى النخاع، حتى أنهما ليعتبروا الديموقراطية الأمريكية المثل الأعلى للديموقراطية.
ويرى المؤلفان أن الحرب ضرورة لدفع حركة التاريخ قدمًا، فهي أصل
التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والدافع للتطور العلمي والتقني، ولكنها ضرورة
مؤلمة ومن يدفع ثمنها من لا يستفيد منها ابتداء، ويرى المؤلفان أنه إنسان العصر
الحديث أخذ في إلجام شيطان الحرب وأن الحضارة الحديثة أميل للتعايش السلمي من
التنافس المدمر.
وتبلغ ذروة الكتاب مع مناقشة قضية استمرارية الحضارة والقدرة على
الاستمرار في التقدم الإنساني، وهنا يؤكد المؤلفان أن الحضارة يجري عليها ما يجري
على الإنسان من وهن وضعف ثم شيخوخة وموت في آلية خلدونية رتيبة لا يمكن قهرها،
ولكنهما يبحثان أصل هذا الوهن الذي لابد أن يؤدي إلى موت الحضارة، فيرجعانه مباشرة
إلى عجز النخب السياسية والمثقفة وفسادها وانعزالها عن الشعوب، ويصف آل ديورانت
هذا عجز وفساد النخب بالبربرية الداخلية والتي إذا صادفت هجمة بربرية خارجية كان
موت الحضارة مؤكدًا. أما تقدم الحضارة الإنسانية في تصور آل ديورانت فهو موضوع شك،
وهو تصور استشرافي إذ أدركنا أنه أبان صدور الكتاب، كان استمرار التقدم الإنساني
مسألة مؤكدة ومحسومة، إذ لم تكن التحديات البيئية العالمية والانفجار السكاني
ونضوب الموارد الطبيعية قد عرفت بعد. ويرى آل ديورانت أن الإنسان يتقدم في الوسائل
دون أن يتقدم في القيم، فالتقدم الإنساني المتمثل في العلوم والتقنية وإن ساعدت
الناس في حياتهم، فإنها أيضًا سببت لهم الآلام، فالتقدم في العلوم الأحيائية مثلًا
انعكس على تقدم الوسائل الطبية كما انعكس على انتاج أسلحة بيولوجية مميتة ومرعبة،
فالإنسان لا يزال محكوم بنفس قيم التنافس والاستعلاء، التقدم يمنح هذه القيم
السلبية الفرصة ليكون تأثيرها المدمر على كامل الحضارة الإنسانية أوسع وأشد، فتقدم
الحضارة وفقًا لرأي آل ديورانت لابد أن يكون في تقدم قيمها لا وسائلها.
نشر الكتاب عام 1968، في فترة الفسحة الطويلة بين تأليفهما الجزء
العاشر والجزء الأخير من قصة الحضارة، وفي البداية لقي الكتاب قبول حسن بين القراء
وبين المختصين، ولكن مع الوقت ظهر من ينتقد الكتاب، وكان من جملة من أنتقد به
الكتاب تأثر المؤلفين بالرؤية التشاؤمية لفيلسوف التاريخ الألماني أزفالد إشبنجلر،
ولكن هذا الانتقاد ظالمًا فإن دورية التاريخ لم يكن وقف على إشبنجلر فقد تناوله من
قبل أكثر من مفكر، كما أن النظر إلى الحضارة عامة ومؤسساتها نظرة الكائن الحي كانت
شائعة في النصف الأول من القرن العشرين؛ ولكن حملة النقد الأقسى كانت من قبل
مجموعة مؤرخي الحزب الشيوعي البريطاني الذين اتهموا آل ديورانت أنهما قدما تصور
طبقي للتاريخ، ولكن في واقع الحال كان هجومهم سببه نقد آل ديورانت للتفسير المادي
للتاريخ في صورته اللينينية؛ أما وجه الانتقاد الذي أراه، أن المؤلفين وقد قصد
عامة القراء بكتابهما، إلا أنهما قصراه فعلًا على عامة القراء الغربيين بالذات،
فقد ازدحم الكتاب بالأمثلة والاستشهادات من التاريخ الغربي دون توضيح لهذه الأمثلة
والاستشهادات، مما يجعل من العسير على غير الملم بوقائع التاريخ الغربي متابعة
كثير من الأفكار التي يطرحها ويناقشها الكتاب. ترجم الكتاب إلى العديد من اللغات،
وترجمه إلى العربية المترجم البارع والمفكر الراحل الدكتور علي شلش، وكان الكتاب
آخر ما ترجمه، وصدر عن دار سعاد الصباح بالكويت عام 1993.
وِل ديورانت، مؤلف الكتاب الرئيس، مؤرخ وفيلسوف أمريكي ولد عام
1885 وتوفي عام 1981، وتزوج من آريْيِل كاوفمان - والتي حملت اسم زوجها بعد الزواج
كعادة الغربيين فأصبحت آريْيِل ديورانت – عام 1913، وهي أمريكية انحدرت من عائلة
يهودية روسية هاجرت إلى الولايات المتحدة، وكانت قد ولدت عام 1898 وتوفيت عام
1981، وكان ول ديورانت قد درس الفلسفة ونال فيها درجة الدكتوراه وعمل بتدريسها في
الجامعة ثم أحرز شهرة ككاتب عندما نشر كتابه (قصة الفلسفة)، فتفرغ بعدها للتأليف،
أما أهم مؤلفاته فهي (قصة الحضارة) ونشر في أحد عشر مجلدًا في الفترة بين 1935
و1975، والذي ألفه بعض أجزاءه بالتعاون مع زوجته.
0 تعليقات