مصطفى طه الراوى
فى المقال السابق أتيت بالآيات من سورة سبأ والتى تثبت ان الجن كان
يعمل لنبى الله سليمان أعمال ذات قدرة عالية فى الإبداع وهذا مما يعنى ان الجن هم أعلى
قدرة من قدرة الإنس فى كل الأعمال الإبداعية .
عندما ذكر الله لنا بعض من أعمال الجن لنبى الله سليمان وأكيد
للمملكة كلها فهنا الله يقول لنا ان هؤلاء على علم كبير وأهل علم فهم علماء فى أعمالهم
التى يقوموا بها ومنهم مرتبة أخرى والتى هى العفريت والشيطان وذلك لنا ان الشياطين
تعمل بالبناء والغوص فى البحار وان الله يحفظهم بما انهم يقوموا بأعمال نافعة
للناس .
كل الأعمال التى ذكرها الله مادية ملموسة محسوسة ولا يعقل ان يقوم
خلق اثيرى خفى بما هو مادى ملموس محسوس .
نأتى الآن على استنباط أخر يعزز لنا فكرة ان الجن بشر ولكن هى
مرحلة خلق قبل خلق الإنسان ، فقد أطلقت عليهم صفة جن ، ثم أنها تشبه نفس المرحلة
التى سبقت خلق عيسى والذى مثل خلقه عند الله كخلق ادم فهى مراحل خلق .
(وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي
ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ
ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ
أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ٣٠) البقرة
أول شىء علينا أن نسأل أنفسنا هل الملائكة يعلموا الغيب ؟
بالطبع مطلقا ً لان الملائكة يوحى إليهم مثلهم مثل البشر تماما ً
فهم لم يروا الله ولا يعلموا الغيب بل يأتيهم وحى من الله بما سيقوموا به فى حركة
سعيهم .
(إِذۡ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمۡ
فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۚ سَأُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ
ٱلرُّعۡبَ فَٱضۡرِبُواْ فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُواْ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَانٖ١٢)
الأنفال
الملائكة يوحى لها مثلها مثل البشر فالله سبحانه وتعالى لا يراه
احد بالمطلق .
المهم الله اخبر الملائكة انه جاعل فى الأرض خليفة ، ويقول قائل
وهل الله الذى يقول للشىء كن فيكون يحتاج لكى يخبر الملائكة أو يأخذ رأيهم !!
الله مصدر العدل فلا يعقل ان يكره أحد على شىء بالمطلق فمن عدله
انه اخبر الملائكة لأنه سيكون للملائكة دور كبير فى التعامل مع هذا المخلوق الجديد
.
فكان رد الملائكة عبارة عن سؤال إستفهامى والله ايضا ً يسمح لخلقه
بأن يسألوا كما شاؤوا وهذا نراه جليا ً فى القرآن من أسئلة كانت توجه للرسول النبى
محمد .
فجاء الرد ليبين لنا ان الموضوع خاص بالفساد وسفك الدماء يعنى كل
ما هو عكس السلام واحترام الخصوصية وحرية الإنسان والبناء والتقدم والعلم بل ان
الفساد وسفك الدماء يعد من الفوضى والهجمية والتعالى والتكبر والإستقواء فمن هنا
ينتج الفساد وسفك الدماء فالتكبر والتعالى ينتج عنه العنصرية والأنا والتى نجدها
فى كل من زكى نفسه على الله والعنوان الرئيسى لهؤلاء هو (نحن الفرقة الناجية) فمن
هنا يخرج علينا الفساد وسفك الدماء .
الله .... إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ
الملائكة .. أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ
ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ..
كل الموضوع هو الفساد وسفك الدماء ، لم يقولوا من لم يصلى أو من لم
يحج ويصوم ويعبدك ، ولكن كل الموضوع هو الفساد وسفك الدماء والذى هو عكس السلام
بكل ما فيه من طغيان وعنصرية وهمجية وتعالى وتكبر وما نسمع عنه ونراه فى رقعتنا
العربية هو بالفعل فساد وسفك دماء وتعالى وتكبر وتحزب وشللية ومذهبية قسمت الناس
واستضعفت من استضعفتهم بهذه العنصرية المقيتة .
نلاحظ ان الله ختم الآية بقوله (إنى اعلم ما لا تعلمون) وهذا ينفى
تماما ً علم الملائكة بالغيب وإلا لما كان لهذا النص اى فائدة لو كانوا يعرفون
الغيب من اى مصدر فقول الله ينفى علمهم بالغيب تماما ً .
ولكن من أين علم الملائكة إن المخلوق الجديد سيفسد فى الأرض ويسفك
الدماء ؟
الإجابة من الآية نفسها وهو استنباط عقلى علينا ان نستنبطه من
الآية .
الله فى إخباره للملائكة حدد المكان الذى سيخلق فيه هذا الخليفة
فذكر أنها الأرض تحديدا ً وحصرا ً ( إنى جاعل ...(فى) .... الأرض خليفة ..
هنا لم تأتى بصيغة إنى خالق بل جاعل والجعل يعنى من نفس مادة الأرض
فهو جعل ولكن خلق يعنى التشكيل نفسه لهيئة هذا المخلوق سوف تكون خلق والتى منها
تخليق الشىء من آخر ، فالتخليق هو تشكيل جديد ولكن من نفس طبيعة المخلق منه
الملائكة ليست مخلوقات غبية مثلا ً لا سمح الله بل لها عقل وتفكر
ولها خيارية كما جاء فى الآية نفسها من سؤالهم الإستفهامى لله يدل على تفكرهم وفهمهم
التام بل وقادرين على المقارنة ( من يفسد ويسفك الدماء ... ونحن) مقارنة تنم عن
فكر عالى جدا ً وسرعة بديهة ورؤيا مستقبلية بعيدة ..
فمن خلال معرفة الملائكة بسكان الأرض ومعرفة طبيعة الأرض وكلمة
خليفة ايضا ً ففهموا ان الساكن الجديد سيكون مثل أقرانه من الموجودين عليها وستكون
الطبيعة واحدة لان البيئة واحدة والتى هى الأرض ..
فهنا يأخذنا إلى ان الملائكة تفهم تماما ً طبيعة الأرض ومطلعين على
سكان هذه الأرض وخليفة اى أنهم سيكونوا خلفاء بعضهم البعض ومعنى هذا ان المخلوق
الجديد مخلوق عاقل ..
من يفسد فيها ويسفك الدماء هو المشهد الذى كان يشهده الملائكة من
سكان الأرض فالجن تنافسوا مع بعضهم البعض وتكبروا وتعالوا فمن هنا جاء الفساد وسفك
الدماء وطالما انه سيكون هناك ساكن على نفس الأرض فلابد ان يكون من نفس البيئة
والطبيعة وبالتالى كان استنتاج الملائكة انه سيفسد ويسفك الدماء مثل أقرانه ..
ما كان عليه إبليس والذى هو اسم علم لرجل من الجن هو التعالى
والتكبر وهذا هو السقف الأعلى لكل فساد وسفك دماء والذى هو تزكية النفس على
مخلوقات الله ..
ثم قول إبليس نفسه من حجة تحجج بها تبين لنا مدى تعاليه وتكبره فقد
تعالى وتكبر بمادة خلقه والتى هى ايضا ً من الأرض بل ومن طبيعة الأرض فقد قال .
خلقتنى ...(من) ... نار وخلقته ...(من) .... طين
المادة تحولت والدليل أن الإنسان العادى ليس طين بل (من) وتحولت
المادة والجن ايضا ً تحولت فيه المادة فهو (من) نار ولكن لم تكن نار الآن فالمادة
تحولت تماما ً .
وسوف نستعرض الآن مراحل خلق الجن وكذلك خلق الإنسان فهى مراحل
تسوية كما ذكر القرآن ..
(قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ
وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ٧٦) ص
(وَٱلۡجَآنَّ خَلَقۡنَٰهُ مِن قَبۡلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ٢٧)
الحجر
(وَخَلَقَ ٱلۡجَآنَّ مِن مَّارِجٖ مِّن نَّارٖ١٥) الرحمن
نلاحظ مادة الخلق النار ثم مرت هذه النار بمراحل فهى نار السموم ثم
مارج من نار
هذه مراحل تحول المادة والنار كما نعرف من نفس المصدر ان وقودها
الناس والحجارة فالناس لم تدخل النار ولم تسعر النار إلى الآن والتى هى نار الآخرة
فنار الدنيا لها وقود ايضا ً وإلا كيف ستستمر النار بدون ان يكون لها مقوم تقوم
عليه .
نفس الطين بدون ماء فلن يكون طين بل تراب ولابد من اختلاطه بمادة أخرى
لكى يتحول من تراب إلى طين .
الترتيب فى مراحل الخلق (خلقتنى من نار) وهى المادة الرئيسية والتى
هى من طبيعة نفس الأرض فباطن الأرض يتكون من حمم منصهرة والتى هى نار السموم
والسموم هذه هى المركبات التى تتركب منها هذه الحمم والتى تعد من كل عناصر الأرض
مثل الكبريت والفسفور والحديد والمنغنيز وغيره من عناصر الأرض ولكن فى حالة تفاعل
مع بعضها البعض فنتجت الحمم المشتعلة التى يتكون منها باطن الأرض والتى تخرج لنا
على هيئة براكين فهى حمم بركانية .
ثم مارج من نار ، مرحلة تشكيل تماما ً كما مر أدم بهذه المرحلة
فالطين من مادة التراب والماء لكى يكون صلصال كالفخار ثم تعرض للتسوية لكى يأخذ
صلابة معينة تتشكل منه العظام فكان حمإ مسنون والحميء هو تعرض الصلصال الذى هو من
طين للنار لكى يتحول لحمإ مسنون اى شديد الصلابة ..
المارج من نار هو اختلاط هذه المواد التى هى نار السموم بالماء ،
لابد ان يختلط بالماء فمارج من مَرَجَ ..
(۞وَهُوَ
ٱلَّذِي مَرَجَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ هَٰذَا عَذۡبٞ فُرَاتٞ وَهَٰذَا مِلۡحٌ أُجَاجٞ
وَجَعَلَ بَيۡنَهُمَا بَرۡزَخٗا وَحِجۡرٗا مَّحۡجُورٗا٥٣) الفرقان
(مَرَجَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ يَلۡتَقِيَانِ١٩) الرحمن
لم تأتى كلمة مرج إلا مع الماء سواء عذبه أو مالحة فالمرج هو
اختلاط الماء العذب بالماء المالح دون ان ترى بينهم اى فاصل ولكن الفاصل هذا يسمى
برزخ غير مرئى للإنسان ولن يراه الإنسان ، فنقول التصاق او اختلاط الماء المالح
بالماء العذب وهذا له ال پى اج (PH) الخاص به وهذا له ايضا ً ال(PH) الخاص به وايضا ً الكثافة بينهم مختلفة
فصنعت لنا هذا البرزخ الذى يفصل هذا عن ذاك ولكن عين الإنسان لن ترى هذا البرزخ ،
فلا يعتدى الماء العذب على الماء المالح .
اختلطت نار السموم بالماء لكى ينتج لنا المارج الذى هو هذا الخليط
من النار فتكون مادة صلبة تساوى تماما ً الحمإ المسنون .
(أَوَ لَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ
وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ
شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ٣٠) الأنبياء
الجن كائن حى والآية قطعت ان الله جعل من الماء كل شىء حى فالحياة
لابد ان يكون الماء جزء أصيل فى مراحل خلقها لتكون حياة ، والآية لم تستثنى شىء .
ثلاث مراحل لخلق الإنسان ونفس الثلاث مراحل لخلق الجن ولكن المادة
فقط كانت الفيصل فى الخلق وكل المواد التى خلق الله منها الجن مواد مادية ملموسة
محسوسة لا يوجد فيها شىء اثيرى أو مخفى ..
الجن ... من نار ... نار السموم ... مارج من نار
الأنس .... من طين .. صلصال كالفخار .... حمإ مسنون
مواد من طبيعة الأرض بل وتحتوى على نفس العناصر التى تتكون منها
الأرض
ولكن علينا ان نسأل أنفسنا فيما ذكره إبليس (خلقته ..من..طين) هل أنت
طين الآن
أم تحولت المادة وأصبحت لحم ودماء ؟
سوف نكمل هذا الموضوع لكى نأتى بالآيات التى استشكلت على الناس
واستغلها كهنة الدين كمادة كسب وتكسب وإسترزاق وسلطة على الناس والتى فى الحقيقة
جاءت من خرافات وأساطير قديمة فكان هناك إله الخير وإله الشر فتم نسبة الشر
للشيطان وهنا للأسف نحن حسب الفكر التراثى قد ساوينا بين الله والشيطان فى ما
يملكه شيطان الخرافات إبليس التراث من سلطة وأعلى هذه السلطة هى الخفاء او
الأثيرية التى عليها إبليس تماما ً مثل الإله الذى لا نراه ..
0 تعليقات