عاطف معتمد
تعرفت على اسم "المعلم إبراهيم جوهري" خلال عملي في
الترجمة العربية التي أعددتها مع اثنين من زملائي عن جغرافية الأديرة في صحراء مصر
الشرقية.
سلمنا الكتاب قبل عامين وننتظر صدوره عن المركز القومي للترجمة تحت
عنوان "تاريخ شعوب الصحراء الشرقية" وهو عمل علمي فريد شارك فيه نحو 40
عالما من أوروبا وأمريكا وأستراليا وكندا ومصر ويتألف من 32 فصلا ويتوقع أن يتجاوز
حجمه في الإصدار العربي 700 صفحة.
في الفصول الثلاثة (21-22-23) من هذا الكتاب يتناول المؤلفون
الديرين المسيحيين الشهيرين: الأنبا بولا والأنبا أنطونيوس.
يلقي المؤلفون الضوء على طاحونة غلال في دير أنبا بولا، وقد فحصوا
دعامات خشبية فيها فوجدوا نقوشا بخط عربي جميل يعود إلى عام 1497 وفق تقويم عصر
الشهداء والذي يقابل عام 1780 وفق التقويم الميلادي.
يسجل النقش في حجرة الطحن الغربية اسم فاعل الخير "إبراهيم
جوهري"، وهو أحد أعيان الأقباط الأثرياء ذوي النفوذ في القرن الثامن عشر،
واشتهر برعايته ترميم الكنائس والأديرة.
في النقش نقرأ بخط عربي مبين عبارة "فلتذكر يا رب خادمك ابن
بشارة النجار".
وابن بشارة هذا هو عامل لدى المعلم نخلة السويفي. والسويفي هنا
نسبة إلى بني سويف في مصر الوسطى التي كانت ترسل التبرعات إلى الدير الصحراوي
الواقع أمام خليج السويس.
وكان هؤلاء النجارون ومن يشرف عليهم من عائلة السويفي يتلقون
تبرعات خيرية منتظمة من المعلم إبراهيم جوهري.
يمضي الكتاب الذي ترجمناه إلى العربية إلى فحص النقوش العربية التي
تحمل أسماء عازر وميخائيل وابنه وشنودة وبشارة، وكلهم من منطقة "بوش" في
بني سويف على نيل مصر وقد دفع لهم أجرة العمل المحسن الكبير "إبراهيم
جوهري".
وبينما ننتظر خروج كتابنا للنور صدر الشهر الماضي الكتاب الذي
تجدون غلافه مرفقا، ويحمل عنوان "المعلم إبراهيم جوهري..سيرة مصرية من القرن
الثامن عشر".
الكتاب عمل بحثي رصين للمؤرخ المصري المرموق أ.د مجدي جرجس.
قبل أن أشتري الكتاب رويت لدكتور مجدي - خلال لقاء في مؤتمر جمعنا
الأسبوع الماضي– قصة ما جاء في كتابنا المترجم عن جغرافية الصحراء الشرقية وسألته
إن كان هو نفس الاسم "إبراهيم جوهري" الذي يحمل اسمه كتابه الجديد
فأجابني مؤكدا أنه هو ذات الاسم ونفس السيرة الذاتية.
الكتاب الذي بين أيدينا للدكتور مجدي جرجس عمل بحثي رائد من 300
صفحة، وهو جولة رشيقة ممتعة بين أرشيف سجلات المحاكم الشرعية في دار الكتب
والوثائق المصرية، وأرشيف بطريريكة القبط الأرثوذكس، علاوة على الاطلاع على
الدراسات السابقة وفي مقدمتها كتاب ألفه الأنبا متاؤس من كنيسة ماري جرجس الأثرية
بمصر القديمة عام 1985 عن سيرة ذاتية للمعلم جوهري وشقيقه.
الدكتور مجدي جرجس وضع الكتاب الذي بين أيدينا بعد رحلة جادة كتبها
بقلم رشيق وعيناه على القارئ المثقف المصري.
يبدأ الكتاب بفحص عشر روايات توثق سيرة المعلم جوهري، أكثرها دقة
رواية قبطية ورواية الجبرتي.
الرواية القبطية تحمل اسم "الأنبا يوساب الأبح" من كبار
علماء ومؤرخي الكنيسة في القرن 18 وكان معاصرا لإبراهيم جوهري وكتب في وصفه يقول
"هذا عظيم بار قديس، عمل مباشرا للدولة، وكان أكبر أهل زمانه محبة لله، يوزع
كل ما يقتنيه على الفقراء، بنى كنائس عديدة وعمر البراري وبنى الديورة واهتم
بالرهبان، وكان محبا لكل الطوائف".
أما رواية الجبرتي فوصفت رحيل الجوهري بالقول "مات الذمي
المعلم إبراهيم الجوهري، رئيس الكتبة الأقباط بمصر، وأدرك في هذه الدولة بمصر من
العظمة ونفاذ الكلمة وعظم الصيت والشهرة مع طول المدة ما لم يسبق لمثله من أبناء
جنسه فيما نعلم. وقد تولى في شؤون الكتبة جميع الأمور، في الكليات والجزئيات، حتى
دفاتر الروزنامة والميري، وجميع الإيراد والمنصرف وجميع الكتبة والصيارف من تحت
يده وإشارته. وكان من دهاقين العالم ودهاتهم، لا يعزب عن ذهنه شيء من دقائق
الأمور، ويداري كل إنسان بما يليق من المداراة، ويحابي ويهادي ويواسي، ويفعل ما
يوجب انجذاب القلوب والمحبة".
أسرة الجوهري أسرة متواضعة هاجرت من الريف (الدلتا أو الصعيد) إلى
القاهرة وعملت في حرفة الخياطة بحي طولون قبل أن تحدث النقلة النوعية بالتحاق
إبراهيم جوهري وشقيقه جرجس بخدمة الأمير علي بك الكبير الذي وثق فيهما وأغدق
عليهما وبدأت تظهر عليهما علامات الثراء بداية من عام 1770.
لكن النقلة الثورية في ثروة إبراهيم جوهري حدثت حين وقع الانقلاب
الذي قام به محمد بك أبو الدهب على سيده علي بك الكبير وأطاح به.
لم يطح أبو الدهب بسيده علي بك الكبير فحسب بل أطاح بكبير الكتبة
"المعلم رزق" الذي كان يوصف في مصر بأنه "المتحكم الأول" في
عقل علي بك الكبير، ولم يكن شيء يمضي في مصر وملكها إلا إذا وافق عليه المعلم رزق.
وهنا كانت أول خطوة قام بها أبو الدهب هي التخلص من المعلم رزق
(الذي توفي أو قتل في نفس عام مقتل علي بك الكبير) ورفع أبو الذهب "المعلم جوهري"
مكان سلفه رزق، ومن أجل ذلك تمت ترقية إبراهيم جوهري من "مباشر" أو
"كاتب" إلى كبير الكتبة أو "باش مباشر" وصار الجوهري ملء
السمع والبصر ثريا مهيبا وذاعت شهرته منذ عام 1772.
كيف مضت السياسة المصرية بعد انقلاب أبو الدهب والإطاحة بعلي بك
الكبير؟ وما القرارات التي اتخذها المعلم إبراهيم جوهري وكانت فاصلة في حياته
وحياة الأقباط وفي تاريخ مصر في الثلث الأخير من القرن 18؟
لماذا غامر المعلم جوهري وانضم إلى الأمراء الهاربين "مراد
بك" و"إبراهيم بك" في عصيان صريح للدولة العثمانية واللجوء إلى
الصعيد والتعرض لمصادرة كل أملاكه وتعريض الكتبة الأقباط في مصر لغضب الدولة
العثمانية؟
ثم كيف غير التاريخ مجراه في غضون خمس سنوات واستطاع أمراء
المماليك إبراهيم بك ومراد بك استعادة السلطة في القاهرة والعودة من الصعيد ومعهم
المعلم جوهري؟
كيف استرد جوهري كل أملاكه السابقة بل وزادت وتعاظمت وتعاظم معها
الثراء والنفوذ والتبرع للكنائس والأديرة؟
الإجابة في صفحات الكتاب المهم الذي بذل فيه د. مجدي جرجس مجهودا
كبيرا وتحليلا كاشفا وقدم للمكتبة العربية عملا جديدا رائدا.
0 تعليقات