آخر الأخبار

المسيحية: بين اختطاف الثيوقراطيين، وإقصاء العلمانيين/3

 

 


 

علي المؤمن



تبين مما سبق أن الأوروبيين حين اعتنقوا الديانة المسيحية، فإنهم حوّلوا المسيحية الى ديانة أوروبية داعمة للإمبراطوريات والملكيات والإقطاعيات في أوربا ومشرعنة لها، أي أنهم أخضعوا المسيحية للنظام الاجتماعي السياسي السائد في أوربا، فلم تؤثر المسيحية الأصلية في واقعهم الروحي والأخلاقي والاجتماعي، بل استحال السيد المسيح نفسه أميراً أو فيلسوفاً إغريقياً ورومانياً وجرمانياً وانجلوسكسونياً في شكله وهيئته التي تصورها التماثيل واللوحات الأوروبية القديمة، والأفلام السينمائية الحديثة، فالمسيح الأوروبي رشيق طويل، أبيض البشرة، أزرق العينين، أشقر الشعر، صغير الفم، إغريقي الأنف، وهي مواصفات لاتنطبق بتاتاُ على سكان فلسطين من الكنعانيين والعبرانيين والسريان وغيرهم.

 

وإذا كان الأوروبي بطبيعته وتكوينه التاريخي، شخصية متعالية ومستكبرة وطامعة، فلماذا اضطر الى الأخذ بديانة شعوب كانت مستعمَرة ومستعبَدة؟!، فالرومان الغزاة ـ مثلاً ـ الذين كانوا يحتلون بلاد الشام في عصر الإمبراطور قسطنطين، كانوا أول من آمن بالديانة المسيحية، وتخلوا عن الديانة الرسمية الوثنية، بعد قرون من ممارسة الاضطهاد ضد المسيحيين، ذلك لأن الرومان الأوروبيين لم يدينوا بمسيحية عيسى، بل قاموا باختطافها كما أسس لها بولس، ثم زاوجوا بينها وبين موروثهم الديني الوثني، بعد أربعة قرون على بعثة السيد المسيح، وأصبح الإمبراطور قسطنطين ملكاً قديساً رسولاً، واستطاع من خلال سلطته الكنسية أن يفرض سيطرته على كل أراضي الدولة الرومانية الشرقية والغربية، وباتت معارضته معارضةً للأب والابن والروح القدس.

 

ماهية المسيحية التي أقصتها العلمانية/2

حينها بدأت ديانة الإمبراطورية الرومانية، أي المسيحية الأوروبية الجديدة، تفرض تعاليمها على المسيحيين الأصليين في غرب آسيا، وتضطهد من يعارضها منهم، وتحرق كنيسته وتقتله. وبالتدريج باتت المسيحية الرومانية الممثل المطلق للمسيحية، والطوطم الرابح الذي يغزون تحت رايته أراضي الشعوب الأخرى. وبات التبشير بالمسيحية وذريعة اضطهاد المسيحيين في دول أوربا الأخرى، هما شعارا الرومان من أجل توسيع إمبراطوريتهم، واحتلال الشعوب الأوربية الأخرى، وفرض المسيحية الرومانية عليها. و كل هذا يسقط فرضية تأثر الإمبراطور قسطنطين بوالدته المسيحية "هيلانة"، ويعزز فرضية الأطماع الأوربية التوسعية، واستخدامها المسيحية مسوغاً للسيطرة على أراضي الشعوب الأخرى واستعبادها.


ولذلك؛ فإن الصراعات الدموية بين الشعوب الأوروبية، كانت تمنع ظهور ديانة أوروبية عالمية أو نبي أوروبي عالمي فيها، لأن هذا النبي الأوروبي سيرجّح شعباً أوروبياً على آخر، ويكون مدعاة للتمدد الاستعماري، بذريعة نشر الديانة. فكانت الشعوب الأوروبية تنغلق على دياناتها المحلية، وهي وثنية غالباً، لأنها تنسجم مع طبيعة النظام الاجتماعي السياسي لكل شعب. ولم يتخلص من هذا الانغلاق سوى الإمبراطور الروماني قسطنطين، الذي وجد في المسيحية ديانة أجنبية غير أوربية، وتنتمي الى شعب يحتله هو ويضطهده، ويمكنه بسهولة اختطاف هذه الديانة، واستغلالها واستخدامها، وتحويلها الى ديانة عالمية بزعامة رومانية. وبذلك يسقط في يد الأوربيين ما يمكن ان يحتجوا به من أن الإمبراطورية الرومانية تريد نشر ديانتها المحلية الرومانية، وكأنّ قسطنطين أراد أن يقول للعالم: لا أريد من استعماري لكم سوى نشر التعاليم الروحية والاخلاقية لديانة السيد المسيح، فهي ديانة لا تمت لروما والقسطنطينية بصلة، ولا تنتمي الى المثيولوجيا الرومانية، بل ديانة مستوردة من غرب آسيا التي احتلها.



ومالبثت المسيحية الرومانية المتحولة أن انتشرت في جميع البلدان الأوروبية، ثم سار على نهج قسطنطين جميع أباطرة الغرب من بعده، وباتت المسيحية ديانة أوروبية، ليس في نكهتها العامة، بل حتى في جوهرها.

 

ثم حمل القساوسة الأوروبيون المستعمرون، ديانتهم هذه، الى أفريقيا والأمريكتين واستراليا وشرق آسيا، برفقة القوات المسلحة الإستعمارية البرتغالية والإسبانية والفرنسية والبريطانية والبلجيكية والأمريكية والهولندية، وحينها لم تقتصر الديانة المسيحية الأوروبية على كونها ديانة أوروبية سلطوية، بل باتت ركيزة أساسية من ركائز الاستعمار الأوروبي.


والمفارقة هنا، إن المسيحية الأوروبية الاستعمارية اتجهت نحو غرب آسيا، حيث بلاد المسيحية الأصلية النقية، وعمدت منذ الحروب الصليبية وحتى الاستعمار الحديث، الى اقتلاع المسيحية الأصلية من منابتها بالقوة القاهرة، واستبدلتها بالمسيحية الأوروبية.

 

وبات المسيحيون الأصلاء في فلسطين وسوريا ولبنان ومصر والعراق وغيرها، مجبرون على إتّباع الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة البروتستانتية والكنيسة الأرثوذكسية أو الكنيسة الإنجليكانية وغيرها، وكلها كنائس أوروبية تكوّنت محلياً، نتيجة لإفرازات البيئة السياسية الأوروبية وصراعاتها الداخلية وانشقاقاتها السلطوية.

 

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات