علي المؤمن
بدأ التمرد الأوروبي على
المسيحية القسطنطينية الرومانية يبرز تدريجياً خلال القرنين الخامس عشر والسادس
عشر، متخذاً أشكالاً فكرية أحياناً وقانونية أخرى وسياسية ثالثة وعلمية رابعة،
مناهضةً لسلطة التابوهات اللاهوتية الكنيسية والثيوقراطيات الملكية المتحالفة
معها، حتى استحال هذا التمرد صراعاً مستداماً بين سلطتي الكنيسة والحكم المطلق من
جهة، والنخب الأوروبية العلمانية المتطلعة الى النهوض والبناء والتغيير من جهة
أخرى، حتى أنتج هذا الصراع نهضةً شاملة خلال القرن الثامن عشر، عرفت بعصر التنوير
وعصر النهضة الأوربية. وكانت "العلمانية" (Secularism / Laicite)، هي عنوان هذا العصر، والتي تعني باختصار "الدنيوية" وفصل
الشريعة الدينية والمؤسسة الدينية عن الشأن الدنيوي، وخاصة مايرتبط بالدولة والحكم
والتشريع، أو بكلمة أدق فصل سلطات الدولة ونظامها السياسي وتشريعاتها عن التشريعات
الكنيسية، ومنع الكنيسة من أي تدخل في شؤون الدولة، بما في ذلك الشؤون القانونية
والسياسية والاقتصادية والعسكرية، واعتبار التشريع وإدارة الدولة وسلطاتها شأناً
بشرياً محضاً لاعلاقة للاهوت به.
ويمكن القول بأن هذا
الصراع ــ في أحد أوجهه ــ هو صراع بين الجذور الوثنية الإلحادية لأوروبا، التي
سبقت اعتناق الأوربيين للمسيحية، وبين المسيحية الأوروبية السلطوية بجوهرها
الثيوقراطي. وقد نتج عن انتصار النخب الأوروبية العلمانية لمعركتها مع سلطتي
الكنيسة والحكم المطلق؛ تقويضاً للتحالف التاريخي بين الدولة والكنيسة، وتقويضاً
لمنظومة الاستبداد الديني والسياسي، وظهور منظومة فكرية وسياسية جديدة قائمة على
الحقوق والحريات السياسية والاجتماعية، وعلى الفصل بين التشريعات وسلطات الدولة من
جهة، وبين تشريعات الكنيسة والحاکم من جهة أخرى، أي أنه لم يكن ــ في حقيقته ــ
فصلاً بين الدين والدولة، وإنما بين الدولة وسلطة الكنيسة التي تمثل لاهوتها الخاص
اللصيق بالمسيحية القسطنطينية وتعاليم المجمع المسكوني الأول.
وبالتالي؛ مثّل هذا الانتصار
انقلاباً أوروبياً على الاجتماع السياسي والديني لمنظومة المسيحية القسطنطينية،
واستعادةً لجزءٍ أساسٍ من الاجتماع السياسي والديني الأوروبي الوثني الإلحادي
القديم، أي أنه كان عودة - بوعي وبدونه - الى الحكمة الأوروبية اليونانية
والرومانية التي سبقت تأسيس المسيحية القسطنطينية في القرن الرابع الميلادي، وهي
الحكمة القومية الإلحادية والوثنية والطوطمية، وشيء من اللاهوت الفلسفي.
وقد أدخلت النخب
الأوروبية العلمانية على معادلات الصراع؛ عناصر قوة جديدة تتمثل في مخرجات التطور
الفكري الميداني التراكمي، وأهمها: العقلانية المنهجية، والتجريبية العلمية،
والديمقراطية السياسية والتشريعية، والليبرالية الاجتماعية والاقتصادية. وهي
المذاهب التي تحولت الى نظم قائمة، قنّنت كل مجالات الفصل بين الدين والدنيا، وبين
الكنيسة والدولة، وكانت بمجموعها أدوات تدمير للتخلف والاستبداد الثيوقراطي، بشقيه
المتحالفين: السياسي (الدولة) والديني ( الكنيسة( .
وارتبطت العلمانية
بأطروحات مفكري عصر النهضة الأوربية وفلاسفته، الذين تميزوا بمناهضتهم للكنيسة
وعموم الفكر الديني، بدءاً بـ "جون لوك" و"فولتير" و"دنيس
ديدرو" و"باروخ سبينوزا" و"جيمس ماديسون"، وانتهاءً بخلفائهم "جورج جاكوب" و"بويسون" و"بيرتراند راسل" و"كانت". كما
تزامن نشوء العقيدة العلمانية وتبلور بنيتها الفكرية. وقد كان المذهب الليبرالي
أحد أبرز المذاهب الفكرية والسياسية المكملة أو التفسيرية للعقيدة العلمانية،
بوصفه أحد تمظهرات عصر النهضة الأوروبية، وثمرة صراعها مع الاستبداد السياسي
والكنيسي والإقطاعي، والذي قام على قاعدة الحريات الفردية والاقتصادية والمدنية
والسياسية والفكرية والثقافية والأخلاقية، وكان أبرز مفكريه "جون ستيوارت ميل"
في القرن التاسع عشر الميلادي، الذي تماهت أفكاره مع ما سبق أن طرحه "جون لوك"
بشأن نقض نظرية الحق الإلهي والوحي والملكية المطلقة وتدخل الكنيسة في التشريعات
وسلطات الدولة، الى جانب عدم الركون الى غير التفسير المادي للحياة.
١
وقد أنتجت الليبرالية نظاماً
سياسياً قائماً على قواعد الديمقراطية، وأنتجت نظاماً اجتماعياً عنوانه أصالة
الفرد، وأنتجت نظاماً اقتصادياً مظهره الرأسمالية، ويعد "آدم سميث" الذي
عاش في القرن التاسع عشر، أبرز منظري الليبرالية الاقتصادية. ويعد مفكرو عصر
النهضة بأن الليبرالية هي أهم ما أنتجه هذا العصر، الى المستوى الذي يرى بعضهم أن
العلمانية نفسها هي نتاج تلقائي لليبرالية.
وهنا؛ يمكن القول بأن النهضة
العلمانية الأوربية، قضت على ثلاثة عشر قرناً من الهيمنة المطلقة للمسيحية
الأوروبية القسطنطينية، وأعادت المسيحية الروحية الاجتماعية نسبياً الى جذورها
الفلسطينية، كما أعادت أوروبا نسبياً الى جذورها الإلحادية العلمانية. وبكلمة
أخرى؛ فإن عصر التنوير والنهضة الأوروبية، لم يكن ثورة على دين عيسى الأخلاقي، ولا
على الدين بشكل عام، بل على السلطة الثيوقراطية الاستبدادية المتمثلة بسلطة
المؤسسة المسيحية الأوروبية القسطنطينية.
ألّا أن دول أوروبا
العلمانية الديمقراطية الليبرالية الناهضة، لم تتخل عن الإيديولوجية الاستعمارية
القسطنطينية، كما لم تتخل عن الديانة الروحية المسيحية، بل احتفظت بهما معاً،
واكتفت بالفصل بينهما فقط؛ إذ سلبت من الكنيسة حق تدخلها بشؤون الدولة، وصادرت
سلطتها التشريعية والسياسية، لکنها احتفظت لنفسها بمنافع السلطة الروحية للمسيحية،
لتستمر في استخدامها كركيزة استعمارية ضد الشعوب التي تحتلها. فعلى الرغم من تخلص
أوروبا من سلطة الكنيسة والدين، إلّا أنها احتفظت بعنوان التبشير المسيحي كركيزة
إستعمارية أيضاً، وهي مفارقة أوروبية أخرى؛ إذ لم يرض الأوروبيون العلمانيون
التنويريون لأنفسهم أن تكون الديانة المسيحية سلطة معرفية وسياسية عليهم، لكنهم
فرضوها بالقوة على الشعوب المحتلة، كجزء من سلطة المستعمر.
لذلك؛ كانت الدولة
الفرنسية التي تأسست بعد الثورة الفرنسية وأسست للنظام الديمقراطي الغربي ولمنظومة
الحقوق والحريات الليبرالية، كانت الى جانب الدولة الليبرالية الديمقراطية
البريطانية؛ أكثر الدول توسعاً استعمارياً، واحتلالاً لأراضي الغير، واستعباداً
للشعوب، ونهباً لثرواتها. وكانت الإمبراطوريتان العلمانيتان الفرنسية والبريطانية
تصطحبان المبشرين المسيحيين في كل حملاتهما الاستعمارية، وتدعمان تأسيس الإرساليات
التبشيرية، وتؤسسان الكنائس والمؤسسات الكهنوتية في البلدان المحتلة، لأنهما كانتا
مقتنعتين بأن إخضاع الشعوب المحتلة المستعبدة لسلطاتهما، لايستتب إلّا بإتباع هذه
الشعوب لدين المحتل وإيديولوجيته.
0 تعليقات