آخر الأخبار

ثلاثة مشاهد شديدة العمق لعبقرية في سن الثمانين

 






حمدى عبد العزيز


20
يونيو 2022

 

 


في فيلم (الحب) أو (Amour) الذي أخرجه المخرج النمساوي مايكل هانيكي الذي تثير أفلامه جدلاً وصخباً فكرياً شديداً في أوربا التي يعري تشوهات ضميرها الجمعي ويدين استعماريتها وفاشيتها الكامنة تحت جلدها في جميع أفلامه ..

 

في هذا الفيلم الذى خرج علينا مايكل هانيكى به فى عام (2012) وفاز فى هذا العام بجائزة السعفة الذهبية لمهرجان كان وجائزة الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي إلى جانب ترشح الفيلم لأكثر من سبعين جائزة فى المهرجانات الدولية المتنوعة .. فى هذا الفيلم هناك ثلاثة مشاهد رئيسية ومحورية تحدد طبيعة موضوع الفيلم وتهيمن علي سياقاته الدلالية ، ولا أعرف كيف قام جان لوي ترنتنيان بآدائها بهذا الهدوء والبساطة والسلاسة والتعقيد والعبقرية والعمق الشديد .. كل هذا في آن واحد ..

 

المشهد الأول وهو مشهد مراقبته لحمامة بيضاء تدخل عبر نافذة مفتوحة علي إحدي طرقات البيت الذي يقيم فيه منفرداً مع زوجته المريضة والتي اكتشف فجأة أنها تعاني من الزهايمر في مرحلة متقدمة من المرض بحيث يقرر تلبية رغبتها بعدم إدخالها أي مصحة ومن ثم يتولي هو تمريضها ورعايتها وكل مايتعلق بقضاء حاجاحتها وكافة مايتعلق بحياتها .. في المشهد يتحرك ترنتيان إلي الطرقة ويضع حفنة من حبوب الغذاء للحمامة التي تدخل من النافذة وتبدأ في إلتقاط غذائها ثم تتخبط في الطرقة في طريق عودتها للطيران عبر النافذة إلي حيث أتت .. فيساعدها ترنتيان بصبر وعطف وحب شديدين علي إدراك النافذة ومن ثم الانطلاق إلي براح مابعد النافذة ..

 

المشهد الثاني هو المشهد الذي يقرر فيه إراحة زوجته التي وصلت إلي عمق مؤلم من مرض لا شفاء منه وآلام لا سبيل لإيقافها ..

 

فيساعدها علي أن تغط في النعاس ثم يأخذ الوسادة في حسم وهدوء شديدين في آن واحد ويضعها فوق وجهها ويضغط علي أنفسها بها حتي تنقطع وتموت، ثم يقوم بهندمتها وإعادة ترتيب وضعيتها علي السرير وإحاطتها بالورود، ويلقي عليها نظرة وداع مصحوبة بالاطمئنان والرضي عن تحقيقه لمهمة ما أراد انجازها ، ثم يخرج ليحكم غلق حجرة نومها عليها لدرجة إحاطة جميع اتجاهات وزوايا الباب بشريط لاصق حتي لاتتسرب رائحة تعفن جثتها فيمابعد إلي باقي غرف المنزل ..

 

في هذا المشهد يعطي ترنتنيان للمشاهد انطباعات غامضة ومختلفة بحيث نتسائل هل فعل ذلك من أجل أن يريح ذاته المحبطة علي أثر فشله في إنقاذ زوجته وحبيبته من حالة المرض العضال وتبعاتها الملقاة عليه وحده لانصراف أولادهما كل إلي حياته الخاصة عدا زيارة واحدة ألقوا بها بشديد اللائمة عليه ثم انصرفوا كل إلي حال سبيله ؟

 

أم فعل ذلك تلبية لرغبات زوجته وحباً لها وسعياً وراء وضع نهاية لعذاباتها ولآلامها والخلاص من نفق معاناة الاحتضار الطويل ،

وآثارها العميقة علي كلا الزوجين ؟

 

المشهد الثالث

بعد أن أنهي حياة زوجته بهدوء وأغلق عليها باب الحجرة وألصقه بشرائط اللصق حتي لاتنبعث رائحة جثتها إلي خارجه ، تعود الحمامة إلي الولوج من نفس النافذة المفتوحة علي الممر فيقوم هذه المرة بإغلاق النافذة والنوافذ والأبواب المقابلة وأي ثغرات يمكن للحمامة أن تنفذ منها، ويحضر بطانية ليطاردها بها إلي أن تستسلم الحمامة إجهاداً وتعباً واستسلاماً لمصير بائس وتكف عن الطيران وتقف علي الأرض حائرة منهكة القوي، فيتقدم نحوها بنفس الهدوء والحسم الذي انهي به حياة زوجته ويقوم بإلقاء البطانية عليها ومن ثم يخنقها بقوة في مشهد بالغ القسوة والبشاعة والتوحش في تحول يصدم يفاجئ به مايكل هانيكي مشاهده قرب نهاية الفيلم ..

 

ترنتينيان أدي هذه المشاهد الثلاث بعبقرية وفهم فلسفي عميق لجوهر الفيلم الذي يفجر دلالات حول مأزق التناقض الإنساني بين الحب والحياة بإيجابية وبين الانكسار والإحباط والدخول في حالة مرعبة من السلبية تنتهي بالإنسان من الحيوية والحب إلي تجمد المشاعر ومواتها ومن ثم تحوله إلي كائن شديد التوحش والقسوة ..

 

يتركنا هانيكي عبر التجسيد العبقري لجان لوي ترنتنيان لشخصية بطله في صدمة وذهول شديدين لنشتعل بالسؤال :

 

كيف ظهر هذا الوحش من تحت جلد هذه الرقة الإنسانية الشديدة التحضر والتمدن والرقي ، وأين كان كامناً ، وكيف امتلك كل هذه القسوة والوحشية والضراوة ؟

 

تخيلوا ممثل تجاوز عمره الثمانين يقوم ببطولة هذا الفيلم وبهذا الأداء العبقري أمام بطلة تجاوزت هي الأخرى مايناهز ماتجاوزه من عمر وهي الممثلة الفرنسية إيمانويل ريفا ، ويهيمنان علي جميع مشاهد الفيلم التي تدور طوال الوقت داخل بيتهما كوحيدين فيما عدا مشهد أو مشهدين يظهر فيه آخرين منهم أبنائهما في زيارة سريعة ، ولثقل وقيمة مايكل هانيكي في عالم السينما الأوربية قبلت الممثلة الفرنسية الإستثنائية (إيزابيل هوبيرت) أن تظهر في لقطات قليلة في دور ابنتهما إيفا في دور لاتتجاوز مساحته أكثر من مشهدين تقريباً ..

 

بالطبع كانت إيمانويل ريفا هي الأخرى رائعة ، ولكن جان لوي ترنتنيان أدي دوراً يمكن أن يشكل نموذجاً للشرح في دراسة فن التشخيص الدرامي والسينمائي .

 

إرسال تعليق

0 تعليقات