آخر الأخبار

خاطرات تاريخية: عرابي والمهدي والتاريخ الذي يكتبه المنتصر

 


 

 

 

د. وسام الدين محمد

الخميس العاشر من ذي القعدة 1443ه

الموافق التاسع من يونيو 2022م

 

 

منذ ساعات، قادني منشور كتبه الأخ الحبيب الأستاذ معتز شكرى إلى التفكر بشأن حقبة حاسمة في التاريخ مصر والسودان، وربما العالم العربي والإسلامي كله، حقبة امتدت طوال ثمانينات القرن التاسع عشر، ودارت أحداثها في مصر والسودان، كما دارت في بيوتات الربا وحلقات الحركة الدينية المتطرفة ودوائر الاستخبارات السرية في باريس ولندن، وشكلت أثارها بلادنا وثقافتنا إلى اليوم، ولكن المصيبة أن صورة هذا الحدث في وعينا اعتمدت على رواية رسمية كتبها المنتصر، رواية تخالف في كثير من الأحوال حقائق موثقة لو اعتمدنا عليها لتغيرت صورة تاريخنا هذا في وعينا.

 

(1)             عرابي والمهدي والتاريخ الذي يكتبه المنتصر

 

في هذا الحقبة، انفجرت في مصر الثورة العرابية، بعد أن خربت البلاد ممارسات الخديو إسماعيل، وطموحاته لمجاراة ملوك أوروبا، طموحات دون إمكاناته المالية والاقتصادية، ألقت بالبلاد كلها تحت وطأة المؤسسات الربوية في باريس ولندن التي راح يستدين منها إسماعيل دون رقيب ولا حسيب، حتى خلعه عن عرشه الدائنون وقد تأكدوا من عجزه عن أداء ديونهم، وألقى خلفه الخديو توفيق بالبلاد كلها تحت أقدام شيلوك المرابي الذي جاء ليستوفي دينه من قلب دم الفلاحين والبسطاء من المصريين، وأصبح وصيًا على حكومات تشكلت من النخبة البيروقراطية التي صنعها آل محمد علي على أعينهم، نخبة تستمد وجودها من رضاء أفندينا، وتعمل من أجل نيل هذا الرضاء فحسب. وفي جنوب الوادي، ثار محمد أحمد المهدي في السودان، وكانت ثورته ضد فساد النخبة الحاكمة، نفس النخبة التي أفسدت في مصر باستعلائها وانعدام كفاءتها، وزادت بتقديم حثالة الغرب الذي وثق فيهم إسماعيل فمنحهم ألقاب التشريف وأمرهم في رقاب العباد.

 

انتصرتا الثورتان في البداية. أطاحت الثورة العرابية بحكم الخديو المستبد والخاضع للمرابين الأوروبيين، ولكن هؤلاء استخدموا نفوذهم في دوائر صنع القرار في لندن وباريس، وحركوا الدولتين لقمع الثورة، وفيما بعد انسحبت فرنسا لغلبة المزاج اليساري على حكومتها، بينما حملت بريطانيا وزر العدوان على مصر بعدما توافقت مصالح المرابين مع مصالح الحركة الإنجيلية في بريطانيا ودوائر الاستخبارات السرية. وكذلك انتصرت حركة محمد أحمد المهدي وسيطرت على كامل السودان قبيل وفاة المهدي.

 

ألقت بريطانيا بثقلها كله من أجل قمع العرابيين ثم المهديين. كانت بيوت الربا البريطانية من أكبر دائني مصر، وهؤلاء كان يدعمون بأموالهم المستلبة من دم وأقوات الفقراء والبسطاء في بريطانيا وحول العالم تلك الأحزاب السياسية المتناحرة ويشترون الصحف ومن يحرروها، وقد راحوا يستخدموا نفوذهم هذا من أجل أن تتحول الدولة البريطانية إلى بلطجي المرابي الذي يجمع ديونه بالقوة، واستجاب لهم جلادستون، الرجل الذي أصبح رئيس للوزراء بأموال شيلوك، فأرسل الجيش البريطاني لقمع الثورة في مصر، ووقف في مجلس العموم يكذب ويقول أن عرابي وأنصاره يقومون بقتل المسيحيين في مصر وحرق الكنائس، ليستعدي المزاج الإنجيلي المهيمن على مجلس العموم والشارع البريطاني في ذلك الوقت.

 

وبعدما التهم الغول الإنجليزي مصر من أجل سيده شيلوك، قرر أن يلتهم السودان، فأرسل جلادستون هذا الجنرال جوردون – له وقفه وحده خاصة إن شاء الله – إلى الخرطوم، بالرغم أن يعرف جيدًا أن المهدي قد سيطر على السودان، وأن دخوله الخرطوم مسألة وقت، وفي الخرطوم حوصر جوردون، بينما كان أنصار الحركة الإنجيلية يتظاهرون أمام مجلس العموم البريطاني رافعين لافتات كتب عليها «أرسلوا الجيش لأنقاذ جوردون ... أين ضميركم المسيحي»، كان وزير الخارجية لورد جرانفيل يقف أمام المجلس ويقول «إذا لم نوقف المهدي في الخرطوم، فإن علينا أن نتوقع جيشه من المتعصبين المسلمين يدقون على أبواب عواصمنا كما فعل أسلافهم». استخدم مدبرو غزو السودان جوردون سببًا لطموحاتهم الإجرامية، ليس لأنهم يحتاجون سببًا، ولكنهم ليخدعوا الشارع البريطاني الذي أرهقته الحروب المتكررة التي خاضتها بريطانيا، وكساتر من الدخان أمام البلطجية الآخرين في باريس وبرلين.

 

وبينما كان للمرابين أهدافهم، وللسياسيين أهدافهم، كان ضباط المخابرات القابعين في قبو بناية مكتب الحرب البريطاني – وزارة الحربية وقتئذ – أهدافهم. كانت اللعبة الكبرى في آسيا بين بريطانيا وروسيا القيصرية قد بلغت درجة حرجة، والروس يحركون فيالقهم في اتجاه الهند، جوهرة التاج البريطاني، بينما الجيش البريطاني في الهند يتوجس شرًا ويحرك فيالقه نحو الشمال تحرزًا من هجوم روسي مفاجئ؛ كان هؤلاء يؤمنون أن في حالة اندلاع الحرب مع روسيا في آسيا، فإن السيطرة على قناة السويس والبحر الأحمر ضرورية للجهد الحربي البريطاني، وكان الفرنسيين قد أظهروا تحركات مريبة من قواعدهم في إفريقيا الوسطى نحو السودان، كما أنهم رصدوا نشاط استخباري محموم في البعثة الإرسالية الروسية في القدس وفلسطين، فدعم هؤلاء العدوان على مصر والسودان بطرق مخفية، ولكنها كانت فعالة في إنجاح هذا العدوان.

 

(يتبع)

إرسال تعليق

0 تعليقات