د. وسام الدين محمد
مع انتهاء القرن
الأول الميلادي، كانت هناك ثمة حركة فلسفية تتشكل في الإسكندرية تحاول أن تصهر
كافة الأفكار الموجودة على الساحة في جسم واحد، تمثلت في إعادة إحياء الأفلاطونية
إطارًا جامعًا للفلسفات والأفكار المتداولة، وقد تمثلت هذه الحركة في الفيلسوف
أفلوطين وتلامذته، والذين سوف يعرفهم التاريخ باسم الأفلاطونية الحديثة.
موجز تاريخ
الأفلاطونية الجديدة
في مطلع القرن الثالث
الميلادي، اشتهر في الإسكندرية أمونيوس ساكاس (175م-242م)، واحد من أكثر الشخصيات تأثيرًا في الأفلاطونية الجديدة،
وفي الوقت نفسه، واحد من أكثر الشخصيات غموضًا في تاريخ الفلسفة؛ فلا يعرف أصله
على وجه اليقين، حيث يعتقد البعض أنه كان نبيلًا هنديًا هاجر إلى الإسكندرية
واستوطنها ويستدلون على ذلك بما في تعاليمه من أثار الفلسفات الهندية، ومشابهة
لقبه، ساكاس، للقب أحد الأسر المالكة الهندية في هذا الوقت، بينما يذهب آخرون أنه
كان يونانيًا ولقبه محرف عن كلمة ساكوفوروس والتي تعني الحمال باليونانية لاشتغاله
حمالًا في شبابه، كما زعم بعض المؤرخين أنه كان مسيحيًا ثم ارتد إلى الوثنية، ولكن
من ذهب إلى ذلك خلط بينه وبين آخر حمل اسم أمونيوس في وقت لاحق؛ وقد كان أمونيوس
ساكاس يعلم الفلسفة والرياضيات والفلك، وكان يهتم بصورة خاصة بشرح مؤلفات ارسطو،
وتبدو فيما بلغنا من أثاره عناصر من الفلسفات الهندية والبوذية؛ وكان قد اجتمع حول
أمونيوس ساكاس عدد من التلاميذ، أهمهم كان أفلوطين (204م-270م؟)، المولود في مدينة
لايكوبوليس، الواقعة في محافظة الغربية المصرية اليوم.
كان أفلوطين قد هاجر من مسقط
رأسه إلى الإسكندرية، وتتلمذ إلى أمونيوس ساكاس نحو أحد عشر عامًا، قبل أن يعزم
على دراسات الفلسفات الآسيوية، فيلتمس لذلك سبيلًا أن يلتحق جنديًا بالحملة
العسكرية الرومانية على الفرس، ولما فشلت الحملة، عاد أفلوطين مع الجيش الآفل إلى
روما، وكان قد بلغ الأربعين، فأنشأ مدرسته وظل يدرس فيها تعاليم استاذه أمونيوس
ساكاس نحو عشرة أعوام، قبل أن يستقل بتعاليمه، وقد ظل أفلوطين مقيمًا على تعليم
الفلسفة في روما حتى توفي.
لم يؤلف أفلوطين
كتبًا أو رسائل، ولكن في مرحلة متأخرة من حياته، قام تلميذه فورفوريوس (233م-305م)
بتدوين محاضراته التي كان يلقيها على اسماع طلابه، وردوده على استفساراتهم، وكانت
أكثر ما تتناولها هذه المحاضرات والاستفسارات هي التعليق على أفكار افلاطون
وشارحيه، وقد يتطرق إلى أراء غيره كأرسطو والرواقيين؛ وبعد وفاة أفلوطين، قام
فورفوريوس بجمع ما دونه من أثار أفلوطين، فكانت أربعة وخمسين رسالة، تتراوح ما بين
بضعة صفحات إلى مئات الصفحات، وقسمها في ست مجموعات، كان مجموعة من تسعة رسائل،
فعرفت من أجل ذلك بالتاسوعات.
وبعد وفاة أفلوطين،
حل محله في مدرسته في روما تلميذه فورفوريوس، وكان من أصل سوري، ولد في مدينة صور،
ثم هاجر إلى روما ليتتلمذ لأفلوطين، فأصبح تلميذه النجيب وصديقه، وكان فورفوريوس
كما قدمنا أمينَا على أثار أفلوطين ومن حمل عبأ تنظيمها ونشرها، وقد ترك فورفوريوس
مجموعة من المؤلفات التي عالج فيها بنفسه مسائل فلسفية مختلفة، أهمها كتابه
الموسوم (ايساغوجي) وهو مقدمة إلى مقولات أرسطو، وكان العرب يظنونه من أثار أرسطو
نفسه.
الفلسفة الأفلاطونية الجديدة
يكاد يكون البناء
الفكري للأفلاطونية الجديدة قد ارتفع على أعمال أفلوطين، والتي يبدو أفلوطين في
بعضها أصيل الفكر يكاد يضارع أصالة عظام الفلاسفة كأفلاطون وأرسطو، ويبدو في بعضه
الآخر ملفقًا لأفكار متناقضة كعادة المشتغلين بالفلسفة في عصره، وهو في جميع
أفكاره تراه متأثرًا بأفلاطون وفلسفته، وأميل لاستخدام جدل أفلاطون الصاعد والنازل
عن استخدام الطرائق المنطقية الأرسطية، كما أن هناك أثار واضحة من الفلسفات
الهندية في فلسفته.
فتراه عند تناوله
الوجود يعتقد بأن أصل الوجود هو ما اسماه (الواحد) و(الأول)، وهو منزه عن التعيين
والتحديد، كان ولم يكن شيء، ومن
فرط كماله فهو فياض، وفيضه يخلق غيره على صورته العقلية وإن كان دونه في الكمال، وفكان أول ما
خلق (العقل) لأنه لما خلق راح يتأمل خالقه، ولما كان العقل شبيًها بالواحد وعلى
صورته، فقد فاض بدوره فخلق (النفس) والتي بدورها راحت تتوجه إلى خالقها العقل
بالتأمل، وتفيض بدورها، وإن كانت فيوضها متعددة وليس مثل فيضي الأول والعقل، كما
أن فيوضها تفتقر للكمال، فخلقت الموجودات المختلفة، وجميع هذه الموجودات متحدة في
الواحد، كما تتحد الأفكار في العقل الذي يتناولها.
والنفس متصفة بالنقص
والشر نتيجة فيض العالم المادي عنها واتصالها الدائم به، وخلاص النفس عند أفلوطين
يستلزم طرح المادة عنها، وهو ما يمكن فقط من خلال تأمل من نوع خاص، ينتهي بالوصول
إلى الواحد والاتحاد معه، وبلوغ حالة من الغبطة الصافية، وهي حالة أقرب لحالة
النيرفانا التي تقول بها الفلسفات الهندية؛ وكان أتباع أفلوطين يعتقدون بأن قلة
مختارة من استطاعت أن تبلغ هذا الاتحاد، وإن كانت لا تستطيع الإخبار عنه، لأنهم في
حالة الغبطة، تذهل النفس عن كل شيء إلا الواحد.
الأفلاطونية
الجديدة في التاريخ
على الرغم أن العالم
الهيلنسيتي/الروماني قد أصبح يضيق بالفلسفة منذ أن تبنى قسطنطين الكبير المسيحية،
إلا أن الأفلاطونية الجديدة استطاعت أن تحقق نجاحًا واسعًا واكتسبت مؤيدين لها بين
مثقفي زمانها، فكانت هيباتيا السكندرية من أتباعها، كما تأثر به كثير من المفكرين المسيحيين،
ومن هؤلاء القديس أوغسطين وتوما الأكويني وجريجوري بالاماس وجميعهم تعرفوا على
الفلسفة من خلال أثار الأفلاطونية الجديدة التي كانت منتشرة في زمانهم.
وفي العالم الإسلامي،
تسربت الأفلاطونية الجديدة إلى الفكر الإسلامي عبر المعتزلة والإسماعيلية، وكان
الفاطميين في زمانهم يبسطون رعايتهم على الفلاسفة من أتباع الأفلاطونية الجديدة
ويستخدموهم في دعوتهم، مثل حميد الدين الكرماني الذي كان في بلاط الحاكم بأمر
الله؛ وتبنى كثير من الفلاسفة المسلمين، مثل ابن سينا والفارابي والكندي، أفكار
الأفلاطونية الجديدة، وإن أعادوا صياغتها على نحو يتوافق مع الإسلام، وفي مرحلة
لاحقة من تاريخ الإسلام، أثرت الأفلاطونية الجديدة أثرت في أفكار بعض المتصوفة،
وعنها أخذ هؤلاء بنظرية وحدة الوجود.
وفي عصر النهضة
الإيطالية، تلقى نفر من الإيطاليين تعاليم الأفلاطونية الجديدة عن رجل دين
ودبلوماسي بيزنطي اسمه جيميسطوس بليتو، وكان الغرب آنذاك لا يعرف أي شيء عن
الفلسفة إلا تلك الشذرات التي كانت منثورة في كتابات المفكرين المسيحين، وكان من
هؤلاء الإيطاليين مارسيلو فيتشينو وجيوفاني بيكو، واللذان ترجما الكثير من أثار
الأفلاطونية الجديدة إلى اللاتينية حتى يتمكن المثقف الإيطالي من قراءتها، كما
حاولا الموائمة بين الأفلاطونية الجديدة وتعاليم الكنيسة الكاثوليكية، وكانت
الكنيسة في روما تنظر إلى عملهم هذا بالذات بريبة، بينما كانت تظلهما رعاية كوزيمو
دي مديتشي، حاكم فلورانس وراعي العلوم والفنون الشهير.
وفيما بعد، راحت
الأفلاطونية الجديدة تشق طريقها عبر أوروبا، حتى أنه في القرن السابع عشر تأسست
مدرسة الأفلاطونيين داخل أروقة جامعة كامبريدج الشهيرة، وكانت دراسة أثار
الأفلاطونية الجديدة من أساسيتها، ولعل تأثير أفلوطين عليهم كان أكبر من تأثير
أفلاطون نفسه على نحو ما لاحظ الشاعر البريطاني كوليردج الذي نعتهم بأنهم «ليسوا
أفلاطونيين حقًا بقدر ما أفلوطينيين"
.
أما في العالم
المعاصر، فقد وجدت الأفلاطونية الجديدة أنصارًا كثر، مثل الأديبة البلجيكي سوزان
ليلار، والتي اشتهرت بدفاعها عما اسمته المثالية الأفلاطونية الجديدة ضد نقد
الماركسيين والماديين، واستاذا الفلسفة الأمريكيين جريجوري شاو وكيفين كوريجان
اللذان عملا من خلال أبحاثهما وكتبهما على إعادة رسم صورة أكثر دقة للأفلاطونية
الجديدة، وأخيرًا فقد كان من أكثر الأشخاص تأثيرًا على تعريف العامة بالأفلاطونية
الجديدة في البلدان الناطقة بالإنجليزية كاتب الخيال العلمي الأمريكي الأشهر فيليب
ديك، والذي كان يقول أن الأفلاطونية الجديدة قد ساعدته على استكشاف خبرات صوفية
عميقة انعكست على أعماله.
0 تعليقات