محمودالورداني
أربع سنوات- بدءا من
عام 2007- أمضاها الطبيب المصري رشدي يوسف مبعوثا من الخارجية المصرية إلى جمهورية
تنزانيا الاتحادية، وهو لم يؤد مهمته كطبيب فقط، بل أيضا كانت فرصة ثمينة له ولنا
كقراء لنتعرّف على مهد الإنسانية : على جدنا الأول الذي ظهر هنا تحديدا قبل
مليونين أو أكثر قليلا من السنين، وفرصة ثمينة أيضا لنتذكر المجد الغابر لمملكة
عربية تليدة، حكمت هنا أيضا
وأسست وانتصرت ثم هُزمت في زمن
الاستعمار الكولونيالي الذي اجتاح المحيطات مع صعود الرأسمالية في العالم.
لايملك د. رشدي يوسف
الثقافة والمعرفة بالتاريخ وحركة المجتمعات والطبقات فحسب، بل يملك أيضا اللغة
الطلقة الجزلة السليمة، التي توفر له ولنا نحن القراء أن نستوعب كل تلك القرون،
بعد أن عكف على تل من المراجع، سواء فيما يتعلق بتاريخ جدنا الأول قبل ملايين
السنين، أو في تاريخ مملكة عُمان التي ضمت جزيرة زنزبارعلى مدى مايزيد على ألف عام
منذ عام 1650 ميلادية طبعا، والأخيرة اتحدت مع تنجانيقا عام1964 لتشكلا معا جمهورية تنزانيا مع احتفاظ الجزيرة بحكم ذاتي
معتبر.
أعتمد هنا على الطبعة
الثانية من كتاب" رحلة إلى مهد البشرية" الصادر عن مركز نهرالنيل للنشر
والتوزيع هذا العام، وأود أن أؤكد أولا أن القارئ سيحصل على معرفة نادرة ومفيدة
جدا، فهنا واحدة من خيبات العرب الكبرى، وهنا أيضا فرص ثمينة في السنوات الأخيرة
توشك أن تضيع منا، بسبب البيروقراطية والقرارات الخاطئة المتعجلة، وكل هذا من خلال
مثقف وطبيب عاش وشاهد وقرأ التاريخ ، فجمع بين هذا وذاك في سبيكة واحدة، ولغة طيعة
أدبية لاتخلو من خفة الدم المصرية التي تشيع حيوية لافتة في نص يتجاوز المائتي
صفحة، تفاجأ بأنك أنهيته قبل الأوان.
استمتعتُ بالكتاب
لكنني استفدت أيضا بالمعرفة التي منحني إياها.وإذا كان د. رشدي يوسف قد لمس هنا
وهناك، عمله كطبيب حاول أن يؤثر على الأقل في إيجاد فرص لتصدير الدواء المصري، وهو
أفضل وأرخص من مثيله، لكن جبال البيروقراطية والنوم في العسل حال دونه ودون ذلك،
والأمر نفسه فيما يتعلق بالحبوب مثل الفول و الفاصوليا والبقول المختلفة، بينما
يمكننا استيراد أجود أنواع اللحوم الرخيصة، لكن الفرص تضيع وتضيع على نحو مأساوي
حقا، بعد أن وصلت السلع والآلات الصينية إلى أصغر القرى في تنزانيا ، ومن جزء يسير
من أرباحها تقوم الصين ببناء قاعات مؤتمرات أو مراكز حضرية تساعد أهل وحكومة
تنزانيا، وتكفل لها تواجدا قويا ومعتبرا.
بينما نحن غائبون أو
على الأقل نكتفي بالفرجة، ولا أحد
يكلّف نفسه قراءة تقارير ومخاطبات رسمية لَفّت بها د. رشدي نظر المسئولين دون
جدوى، بل ودون رد من أي نوع. ثالثة الأثافي – كما يقال- ماجرى من شركة
الطيران الوطنية من إلغاء الرحلة اليومية الوحيدة بين البلدين لأنها لاتحقق الربح
المناسب، بينما الإبقاء على صلة يومية ثابتة هي في حد ذاتها جسر متين يكفل لنا
الوجود والتأثير في قارتنا .
ربما يكون من المناسب
قراءة هذا الجهد الضخم حقا من زاويتين أساسيتين. الأولى، فرضتها الأيام الأولى من
زيارته حين عنّ له بالمصادفة المرور على المتحف الوطني التنزاني، وبالتحديد القسم
المخصص للتاريخ الطبيعي، يقوده إلى البحث والتنقيب في الانثروبولوجيا وعلوم
الإنسان، ويقف مذهولا أمام جمجمة صغيرة ل( هومو هابيلس) وهو أول حلقة في سلسلة التطور
البشري، والجد الأعلى لصنف البشر، وعمره صغير نسبيا- على حد قول د. رشدي- وظهر على
الأرض قبل اثنين ونصف مليون سنة.
أستكمل في الأسبوع القادم إذا
امتد الأجل..
0 تعليقات