محمود جابر
الدبلوماسية
الروحية
دأبت الدبلوماسية الغربية طوال عقود طويلة على معالجة القضايا السياسية
العالقة بعيد عن الدين، وفق منطق فصل الدين عن العالم السياسي لتحرير تلك القضايا
العالقة وفق مبدأ المصالح الوطنية، ومع ذلك، وفى ظل إدارة الرئيس أوباما؛ نشأت
حركة من المواقف الدبلوماسية التوفيقية تعترف بإمكانية التعاون الديني الدبلوماسي بسبب
إدراك دور الدين فى تحفيز الإفراد وتشكيل وجهة نظر جديدة ضاغطة فى القضايا العالقة
.
وقد صنف الرئيس أوباما، فى إدارته إستراتيجية مصالح الولايات المتحدة الأمريكية
العليا وفق أربعة عناوين : الأمن،
والازدهار، والقيم، والنظام الدولى . ولم
تنحصر هذه التصنيفات فى إدارة اوباما فحسب، إذ أنها تساند استراتيجيات الأمن الوطني
لرؤساء الولايات المتحدة كافة والذين جاءوا من بعده وخاصة نائبة الرئيس الحالى جون
بايدن، فمن الاعترافات المسجلة لجمى كارتر انه قال : لولا قدرتى على مناشدة
المعتقدات الدينية بين الرئيس المصرى السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي بيجين ما
استطعت تحقيق نجاحا فى اتفاقية كامب ديفيد 1979.
ويمكننا أن نلمح مقدار التغير فى النظرة الأمريكية لتسوية النزاعات من خلال
اعتماد الجانب القيمى والديني وخاصة فى فترة الرئيس اوباما وما بعده، فحينما توجه
اوباما إلى العالم الإسلامي بخطابه الذى ألقاه من القاهرة فى يونيه 2009 قال : كان
تاريخ البشرية فى كثير من الأحيان بمثابة سجل من الشعوب والقبائل التى قمعت بعضها
البعض لخدمة تحقيق مصلحتها الخاصة، ولكن فى عصرنا الحديث، تؤدى مصل هذه التوجهات
الى إلحاق الهزيمة بالنفس، ونظرا إلى الاعتماد الدولى المتبادل، فأى نظام عالمى
يعلى شعبا أو مجموعة من البشر فوق غيرهم سيبوء بالفشل لا محالة.. إنما يجب معالجة
مشاكلنا بواسطة الشراكة، كما يجب أن نحقق التقدم بصفة مشتركة".
وفى نفس الخطاب شدد اوباما على روح التسامح الديني، والحرية الدينية...
واستطرد مضيفا : ينبغي أن يكون الإيمان عاملا للتقارب فيما بيننا، ويمكن تحويل
حوار الأديان الى خدمات تقدمها الأديان، ويكون من شأنها بناء الجسور التى تربط بين
الشعوب .
وأثناء تولى هيلاى كلينتون وزارة الخارجية الأمريكية سعت الى بناء منهج تفاعلي
مع القادة الروحيين – علماء الدين – عبر إنشاء فريق عمل يبحث قضايا الدين والسياسة
من اجل ضمان فرصة أعلى للمشاركة فى حل القضايا العالقة او القضايا المتصور، وكان
هناك فريق عمل يعمل تحت اسم الهيئة الاستشارية الفيدرالية حول الحوار الاستراتيجي
والذى ضم حوالي 100 من القادة الروحيين ومسئولين فى الخارجية الأمريكية، وقد أوصى
الفريق بسلسلة إجراءات تندرج تحت أربعة عناوين : تعزيز القدرة الوطنية على توجيه
القضايا السياسية الى جانبها الدينى .(2) توجيه وزارة الخارجية لتطوير مواد لتحسين
التعامل مع الدين (3) إنشاء آلية رسمية داخل وزارة الخارجية تأخذ بعين الاعتبار
وجهات النظر الدينية (4) إضفاء الطابع المؤسسى على فريق العمل حول الدين والسياسة
الخارجية .
ومن خلال تطوير هذا العمل عمل وزير الخارجية جون كيرى على إسناد عمل اللجنة
الروحية الى أستاذ اللاهوت فى جامعة ويسلى بواشنطن، وأصبح مسئول عن مكتب وزير
الخارجية للمبادرات الدينية وعلى وجه الخصوص القضايا العربية والسلام فى الشرق الأوسط
(!!)، وفى أغسطس 2013 اعترف الوزير كيري بما سماه " الأرضية المشتركة
للديانات الإبراهيمية" كمدخلا لحل الصراع !!
إذا الولايات المتحدة الأمريكية عملت من ذلك الحين وما قبله على إيجاد إستراتيجية
جديدة تعتمد على رجال الدين والقادة الروحيين للقيام بدور عجزت عنه الدبلوماسية
السياسية التقليدية، فمن خلال هؤلاء القادة يمكن إرساء قواعد إنسانية مشتركة لكل الأطراف
للتفاعل بغية بناء علاقات وتمرير أفكار وسلام من نوع جديد، ويمكن من خلال هذا
المسار غير الرسمى أن يأتي بأفكار ومبادرات يمكن استخدامها من قبل المفاوضين
الرسميين، وكذلك يمكن لمسار الدبلوماسية الروحية ان يخلق اتصالا مباشرا فى قضايا
كان من العسير الإقدام عليها والسير فيها، وكان محكوم عليها بالفشل .
تنظر الولايات المتحدة إلى القادة الروحيين كبنائيين روحيين واجتماعيين،
يمكن دعمهم للمساهمة فى بناء مجتمع أفضل، وهناك دعم وتواصل مع العديد من هؤلاء فى
مختلف أنحاء الشرق الأوسط لتطوير البناء المجتمعى من أسفل الى أعلى ( نظرية حسن
البنا والإخوان المسلمين وكل الأخويات الدينية)، وقد ساعد المركز الدولى للدين
والدبلوماسية اكثر من 1600 فى مختلف أنحاء العالم الإسلامي فى تعزيز مناهجهم وفق
مفهوم التسامح الدينى والأرضيات الدينية المشتركة على المستوى البحثي .
وفى القاهرة عقد المجلس مشروعا بحثيا جمع القادة السوريين المعارضين للنظام
لمساعدتهم على إيجاد أرضيات لحل النزاعات، كما تدير حركة جولن مشاريع للقادة
الروحيين فى العديد من دول العالم وهو عمل مشابه لما يقوم به المركز الدولي للدين
والدبلوماسية – الأمريكي.
كما يهدف هذا المشروع عمل مشاريع بحثية تجمع ما بين الشخصيات الدينية فى الأديان
المختلفة، كمشاريع الإيمان المشترك بين الأديان الإبراهيمية، وهذا مشروع يشرف عليه
كلام من جامعة جورج تاون ونوتر دام، بالاضافة لدور الذى يقوم به كلا من مركز
الدراسات الإستراتيجية الدولية، ومعهد الولايات المتحدة للسلام، وقد قام الرئيس
الايرانى السابقة بالتعاون مع تلك المراكز خلال فترة رئاسته وما بعده، كمدخل
للحوار الامريكى الايرانى، وهناك دور مشابه تقوم به تركيا بالتعاون مع الولايات
المتحدة الأمريكية، كما تقوم العربية السعودية بدور مماثل .
أصحاب هذا المشروع يرغبون فى الوصول بالعالم الى عالم اقل عنفا واضطرابا من
خلال البحث لما يسمى بـ " الدين العام" او الدين " الواحدة"
... أو "الإبراهيمية الجديدة".
ويرى مؤسسوا هذا المشروع أن مشروعهم هو إعادة إنتاج لما قام به الآباء
المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية، فى عملية الجمع بين الناس من خلال دين مدنى
عام، وهذا يمكن ان يكون مدخلا لبناء قبول بين اليهود والمسلمين .
فكما أن الدين عامل للانقسام، بيد ان يمكن ان يكون عاملا للمصالحة
والاستقرار السياسي، ولهذا ومن اجل تخطى عقبات هذا الاندماج لابد من اكتشاف ارضية
لاهوتية موحدة، وهذا هو السبيل لتعزيز هذا الاندماج وتلك الشراكة ولا ينبغى أن
يبقى دور القادة الروحيين كمستشارين فى لجان تابعة للدولة او لتدريس الدين ودوره الاجتماعي
بل دورهم الحقيقي البحث عن أرضية لاهوتية مشتركة بين كل الأديان الإبراهيمية، إن
المدخل اللاهوتى المشترك الذى يمكن ان يقوم به القادة الروحيين، هو تلك المساحة
الواسعة فى التصور اللاهوتي الصوفي العرفانى الذى قد يتشابه فيه أصحاب الديانات
الثلاثة، وهو ما عرف بحثيا ومعرفيا لاهوتيا بموضوع الفيض الالهى والذى يمكن ان
يكون أرضية تتفق عليها كل فرق الصوفية والعرفان جميعا باختلاف بسيط، سوف نتولى
شرحه بالتفصيل فى الحلقات التالية ...
ملحوظة: هذا المقال ملخص لبعض ما جاء فى مشروع العلاقات الأمريكية مع
العالم الإسلامي مركز سابان لدراسات الشرق الأوسط فى معهد بروكنجز
يتبع
0 تعليقات