نصر القفاص
كانت للكتابة
والصحيفة القيمة الأكبر فى "زمن الجمهورية الأولى" وتربصت بهما "الجمهورية
الثانية" حتى أصبحتا فى "حالة موت سريرى"!!
تطورت الإذاعة
وازدهرت.. ثم دخل التليفزيون فى "زمن الجمهورية الأولى" وكانا يمثلان
منارات الوعى والمعرفة.. جعلتهما "الجمهورية الأولى" سلاحها الوحيد
تقريبا.. لكنهما انكسرا بفعل ما حدث فى "25 يناير 2011" ويسميه الدستور "ثورة"..
حتى وصلنا بعد ما حدث فى 30 يونيو 2013" الذى يسميه الدستور "ثورة"
أيضا.. فإذا بهذا السلاح ينتهى عمره الافتراضي، بعد أن تولى أمر الإعلام المصرى
الذين يحملون "شهادة محو الأمية"!!
بدأنا نسمع عن "معركة
الوعى" بعد إبعاد وتسريح كل قادر على خوض هذه المعركة.. وبعد تصفية الكتاب
والصحيفة ثم الإذاعة وبعدهم التليفزيون.. وبدلا من الاعتراف بالجريمة ومحاسبة
الذين ارتكبوها على مدى أكثر من نصف قرن.. أستمر الهروب بمنهج "القفز للأمام"
فقالوا: "نحن نعيش زمن الإعلام الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعى" ولتجويد
الفشل.. راحوا يهاجمون تلك الوسائل ويلعنونها.. وذهبوا إلى الصراخ فى وجه الشعب, الذى
أطلقوا عليه "أراجوزات" مراهنين على قدرتهم فى "صياغة الوعى" اعتقادا
منهم أن "الوعى" واحدة من الصناعات الصغيرة.. لذلك يستخدمون تعبير "صناعة
الوعى"!!
أكثر من نصف قرن احتكرت
خلاله "الجمهورية الثانية" الإعلام – باستثناء فترات قليلة – شهدت إطلاق
النيران المكثفة ضد "الجمهورية الأولى" وزعيمها وقائدها.. ليكتشفوا أن "ثورة
23 يوليو" وما أنجزته على مدى ثمانية عشرة عاما, تعيش تحت جلد المجتمع وذابت
فى عقله.. باعتبار أن الشخصية المصرية بما فى داخلها من موروث حضارى, يصعب خداعها
ولا تأمن للذى يكذب عليها.. ولعل "علم الاجتماع" يدلنا على أن الشعب
يتمسك دائما بحاكمه إذا كان صادقا ونظيف اليد.. يغفر هذا الشعب للحاكم والنخبة اذا
اجتهدوا وأخطأوا.. لكنه يعطى ظهره للكذاب والفاسد, مهما علا شأنه أو كانت مكانته..
وهذا واحد من مفاتيح شعب ارتبط بنهر النيل, وأبدع فى ترويض فيضانه.. وضمن مفاتيح
هذا الشعب – أيضا – عقيدته التى يعادى من يتاجر بها.. إضافة إلى أنه لا يغفر
إطلاقا للذين يحاولون النيل من جيشه – المؤسسة العسكرية – ولا يقبل سلاما مع أعداء
هذا الجيش!!
يفزعنى تطور ما حدث
فى "زمن الجمهورية الثانية" بالسخرية من الشعب والحط من شأنه.. وصولا
إلى أن "وكيل مجلس نواب" سابق يجروء على القول عبر إحدى الشاشات: "شعب
مش عايز يفهم"!!.. أسقطوه بعدها لحساب "رجل مال" من رموز "عهد
مبارك" تسول رضا "الإخوان ومحمد مرسى" ثم أصبح فى حالة "تبوء
لا إرادى" مؤخرا.. ولعلى هنا ألتمس المعذرة على التلميح لأن التصريح ثمنه
فادح.. وقد دفعت بعضا من هذا الثمن!!
أذكر أننى قرأت عن أن مدخل مقر "المخابرات
المركزية الأمريكية" يحمل لوحة مكتوب عليها: "لابد أن نعرف كل شىء.. لأن
من يعرف ينتصر"!! وباعتبار أن "الجمهورية الأولى" انتصرت بالمعرفة.. وانكسرت فى يونيو 1967 عندما غابت المعرفة.. فيجب أن
نتوقف كثيرا وطويلا, أمام أطنان الأكاذيب التى أطلقوها ضد "قانون الإصلاح
الزراعى" الذى كان أحد أعمدة "ثورة 23 يوليو" وأهم صفحاتها البيضاء..
ولعل "أراجوزات التنوير" إختصروا حملاتهم فى جملة تعكس حالة جهل عصامى, لا
يكفون عن ترديدها بالقول: "لقد فتت الإصلاح الزراعى الملكية.. وكان هذا سبب
خراب الزراعة"!!
لأن "أراجوزات
التنوير" لا يقرأون!!
الحقيقة نائمة فى
عشرات الدراسات العلمية.. أو قل المئات!!
ما يرددونه
كالببغاوات جرأوا عليه بعد التخريب الممنهج للإعلام!!
إعتقدوا أن تكرار
الكذب يفرض على الناس تصديقهم.. كما كان يعتقد "جوبلز" وزير دعاية "هتلر"
الذى رحل مهزوما مع قائده.. وترك منهجه ليسعف "أراجوزات التنوير"!!
صعب أن أعرض ما تحمله
الرسائل العلمية والكتب, عن "قانون الإصلاح الزراعى".. لكننى أستطيع
وأملك إلقاء الضوء على الحقائق التى كان يعرضها الكتاب والصحيفة.. وتشرحها الإذاعة
ويناقشها التليفزيون فى "زمن الجمهورية الأولى" وكل ما كان يقال عن هذا
القانون.. لا يقبل نقضا ولا إبرام!!
كان "قانون
الإصلاح الزراعي" فكرة مطروحة قبل "ثورة 23 يوليو" أطلقها رموز من
نسميهم "الأعيان" أو "الإقطاع" فى العهد الذى نسميه "البائد"
وكان "بائدا" قولا وفعلا.. فهذه حقيقة محروم من توضيحها كل من يعرف
تفاصيلها.. ويقبض ثمن المشاركة فى تزويرها, الذين تهافتوا على ركوب سفينة "الجمهورية
الثانية" وكم كان مدهشا أن الثمن الأكبر قبضه, أولئك الذين ركبوها فى لحظات
الغرق.. أو عند نهايتها!!
أصل حكاية "الرقعة
الزراعية" فى أرقام وبتواريخ, يمكن للذين يكرهون فعل القراءة أن يرجعوا إليها..
تبدأ من عام 1809 عندما أقدم "محمد على" على إلغاء "نظام الملتزم"..
وقد كان هذا "الملتزم" يقوم على زراعة ورعاية مساحة من الأرض, مقابل جمع
الضرائب عنها من الفلاحين ودفعها لما نسميه فى عصرنا الحديث "الخزانة العامة
للدولة"!! ألغى "محمد على" هذا النظام.. وأصبحت الأرض ملكا للدولة,
يتصرف فيها الحاكم كما شاء.. وقد شاء الحاكم فيما بعد توزيع مساحات من الأراضي على
المقربين منه والذين يرضى عنهم.. وتفاصيل ذلك حملتها رسالة دكتوراه ناقشتها "جامعة
باريس" عام 1955 للدكتور "عادل عامر" وصدرت فى كتاب.. تم دفنه مع
عشرات الرسائل والكتب منذ أن انطلقت "الجمهورية الثانية" وتناولها "أحمد
بهاء الدين" فى كتابه – الذى تم دفنه أيضا – "فاروق ملكا"!! وبعد
أن تحالفت بريطانيا مع الدولة العثمانية وفرنسا وروسيا والنمسا ضد "محمد على"
وفرضوا عليه معاهدة 1840 وفرضوا ضمنها الاعتراف بحق ملكية الأراضي الزراعية.. حاول
أن يتملص من التنفيذ, لكنه فشل لسابق وعده بالتزام أمامهم خلال الاتفاق على
المعاهدة.. إضطر إلى إعلان حق ملكية الأراضي الزراعية عام 1846, أى قبل وفاته – رحيله
– بأقل من ثلاث سنوات.. قام بتوزيع مساحات ضخمة على أقاربه والمقربين, ومنح الذين
شاركوه تأسيس وبناء النهضة أراض زراعية.. كان بينهم على سبيل المثال "رفاعة
الطهطاوى" وغيره من الذين كانوا يستحقون.. وخلال فترة حكم ابنه "سعيد"
اعترف عام 1858 بحق "التوريث" للأرض!! وفى زمن حفيده "إسماعيل"
صدر قانون عام 1871 يمنح حق الملكية لكل من يستأجر مساحة أرض, يسدد ضرائبها لست
سنوات مقدما.. وبعد أن احتلت بريطانيا فريستها – مصر – صدر عن الحاكم العسكرى قرار
عام 1883 يمنح بموجبه أراض زراعية لمن يرضى عنهم مع إعفائهم من دفع ضرائب عنها!!
هذه باختصار – دون
ابتسار – حكاية لقيط اسمه "الإقطاع"!!
كان هدف المستعمر ربط
أولئك الذين يملكون الأرض به وبأهدافه.. وكان طبيعيا أن يصبح هؤلاء مع سلطات
الاحتلال حلفاء.. بمرور الزمن.. كانت مياها كثيرة تجرى فى النهر.. أمسك "اللورد
كرومر" بخناق البلاد والعباد.. أصبح المتاح أمامه من الأراضي الزراعية, أقل
من عدد المتهافتين على نيل رضاه.. قرر مكافأة هؤلاء بمساحات تتراوح بين خمسين
ومائة فدان, لتتشكل طبقة جديدة أسمها "الأعيان" باعتبارهم أثرياء هذا
الزمان.. لكنهم ما دون الإقطاع.. وتشكلت هذه الطبقة بين عام 1894 وعام 1914, وهنا
سنلاحظ حدوث ذلك مع تولى الخديوى "عباس الثانى" السلطة شابا – دون 18
عاما – ومحاولاته التقرب من رموز الحركة الوطنية التى راحت تتشكل, وعنوانها كان
اسمه "مصطفى كامل"!! والتفت "المندوب السامى البريطاني" إلى
ما أعطاه بيده اليمنى, ليسحبه بيده اليسرى.. أوعز لأصحاب "البنك الأهلى"
وكان أحدهم يهوديا – قسطنطين سلفاجو – بأن يستحوذ على "البنك الزراعى" عام
1902.. فقد كان الهدف الأسمى.. أو "الاستراتيجي" كما يسميه "خبراء
الغبرة" هو تحويل مصر إلى "مزرعة قطن" تعيش عليها وبها مصانع "لانكشير"
و"يوركشير" فى انجلترا!! وأصبح الذين يملكون 44% من مساحة الأراضي
الزراعية يمثلون أقل من واحد ونصف فى المائة من سكان مصر.. كان عدد السكان وقتها
عشرة ملايين نسمة, بينهم ثمانية ملايين يعملون كفلاحين.. عند العام 1897.. وما
بعده تتغير الأرقام!!
هنا لابد أن يثور
سؤال مهم.. وهل ثمانية ملايين فلاح كانوا لا يملكون شيئا؟!
الإجابة.. بل كانوا
يملكون.. وللدقة كان بعضهم يملك.. هذا البعض تعداده على سبيل الحصر – علميا – فقط
اثنين مليون وسبعمائة وستون ألف وستمائة وواحد وستون فلاحا يملك كل منهم ما دون
ثلاثة أفدنة!!
لأن "المثقفين
لا يعرفون سوى القليل عن تاريخ شعبهم" كما يقول الدكتور "صبحى وحيدة"
وله كتاب – دراسة علمية – رائع عنوانه "فى أصول المسألة المصرية".. وقد
تم دفنه مع مئات, بل قل آلاف الكتب عندما أطلت "الجمهورية الثانية" برأسها!!
درات عجلات الزمن.. تراكم
الغضب.. انفجر بثورة 1919.. نجح الانجليز ورواد "الزمن الليبرالى" فى
استثمارها ثم إجهاضها.. عاد الغضب يتراكم بعد حادث 4 فبراير عام 1942.. عندما فرض "لامبسون"
بصفته "ساكن الدوبارة" وهو اسم بيت السفير البريطانى, على "الولد
الذى حكم مصر" وكان اسمه "فاروق" تعيين "مصطفى النحاس" رئيسا
للوزراء مع حق تشكيل الوزارة كما يرى!! وعند العام 1951.. شعر الانجليز والملك
وقادة الأحزاب, وكل الذين كانوا يحلبون ضرع مصر أن الغضب بلغ حد الخطر.. قرروا
توزيع مساحات من الأراضي على جوانب الترع والمصارف, لتهدئة الفلاحين.. أعطوا كل
فلاح ما بين نصف فدان وفدان ونصف!! ليصبح عدد من يملكون أقل من فدانين ما يقرب من
ثلاثة ملايين فلاح.. والتفاصيل تحملها دفتى كتاب "الأرض والفلاح" للدكتور
"إبراهيم عامر" وهى من الكتب التى تم دفنها فى "زمن الجمهورية
الثانية" التى وصلت إلى خط النهاية!!
قبل "ثورة 23
يوليو" كان أجر الفلاح يتراوح بين ثمانية قروش وخمسة عشر قرشا.. واعتبارا من
عام 1951 عرفت مصر استيراد القمح بكمية خمسمائة وواحد وثلاثين طنا.. ثم قفز إلى
أكثر من مليون طن فى نصف الأول من عام 1952.. وتراجعت الصناعات الصغيرة مثل صناعة
الكتان والحرير والصابون.. ولم يعد لدى مصر ما تصدره سوى القطن والفوسفات!!
كل ما ذكرته هو أرقام
وحقائق تحملها كتب ودراسات, تم دفنها فى مكتبات الجامعات وتحريم نشرها على
الراغبين فى العمل بمهنة النشر.. تخلص الرئيس الأول – المؤسس – للجمهورية الثانية
من بعض كبار الصحفيين, وعلى دربه سار رؤساء هذه الجمهورية.. حتى وصلنا إلى سيطرة
كاملة على المشهد من جانب "أراجوزات التنوير" الذين يفاخرون بأنهم
يحملون شهادة "محو الأمية" ليصرخوا فى الشعب.. يسبوه.. يحملوه مسئولية
ما تم تخريبه بفعل فاعل.. وإذا صرخ الشعب يقولون لك: "انتفاضة حرامية"!!..
يتبع
0 تعليقات