د. وسام الدين
محمد
الرابع من ذي الحجة عام 1443ه
الموافق الثالث من يوليو 2022م
في مفتتح القرن
السادس عشر، أقدم البرتغاليون على تحويل طرق التجارة بالقوة بعيدًا عن الشرق
الأوسط عبر طريق رأس الرجاء الصالح. ولكن نمو الاقتصادات أوروبا والتنافس بين
دولها في القرن اللاحق، أعاد إلى الواجهة فكرة إحياء خط التجارة القديم المار عبر
مصر تحديدًا، من خلال حفر قناة بحرية تربط بين البحر الأحمر والبحر المتوسط، وفي
سبعينات القرن السابع عشر، أرسل العالم والفيلسوف الألماني ليبنتز رسالة إلى ملك
فرنسا لويس الرابع عشر يحرضه فيها على غزو مصر وحفر القناة، مبينًا له ما في هذا
الاقتراح من فوائد لاقتصاد فرنسا، وانتصارًا على عدوتها بريطانيا، وإعلاء لصورتها
كراعية للمسيحية، ولكن لويس الرابع عشر لم يهتم لهذا المقترح.
ومع حلول نهاية القرن
الثامن عشر، استلهم نجم فرنسا الصاعد يومئذ نابليون بونابرت من اقتراح ليبنتز المنسي
في أرشيفات الحكومة الفرنسية، ومن ثم نفذ حملته العسكرية التي أسفرت عن احتلال مصر
مدة ثلاثة أعوام ما بين 1798 و1801. وعلى الرغم أن مدة إقامة نابليون نفسه في مصر
كانت قصيرة إذا غادرها بعدما أيقن أن فرصته في الاستيلاء على الحكم في فرنسا قد
حانت، إلا أنه خلال فترة إقامته القصيرة حث مهندسيه على دراسة مشروع قناة موصلة
بين البحرين الأحمر والمتوسط، وقد قام هؤلاء بدراسة المشروع بصورة تفصيلية وأعدوا
خطط التنفيذ والتصميمات اللازمة وقدروا ميزانية المشروع، ولكنهم انتهوا إلى أن
إنشاء قناة مباشرة بين البحرين غير ممكن لاعتقادهم بأن سطح البحر الأحمر أعلى من
سطح البحر المتوسط وما في ذلك من خطر غرق مصر إذا حفرت القناة.
عاد مشروع حفر القناة
للأضواء من جديد في عصر محمد علي، بمبادرة شخصية من جندي متقاعد ومهندس بريطاني
يدعى فرانسيس تشسني والذي جاء إلى مصر عام 1830 وأعاد مسح المنطقة بين البحرين
ليثبت أنه لا يوجد اختلاف في المستوى بينهما، وحاول الاتصال بمحمد علي، ولكن محمد
علي تجنب لقاءه، فعاد إلى بريطانيا وعرض مشروعه على ملك بريطانيا ويليام الرابع
والذي أثنى عليه دون أن يجاوز حدود الثناء. ثم ظهر في الصورة أتباع سان سيمونيه - وسان
سيمونيه مفكر اقتصادي وفيلسوف فرنسي
يمكن أن نزعم بشيء من التساهل
أن أفكاره كانت سلف الايدولوجيا الاشتراكية المسيحية المعاصرة – الذين تبنوا فكرة
حفر القناة، وأوفدوا جماعة منهم إلى مصر عام 1833 ترأسها كبيرهم بروسبر إنفانتين،
راحت هذه الجماعة تطوف مصر وتدرس فرص التطوير فيها، ثم توصلوا إلى لقاء محمد علي،
وعرضوا عليه جملة من مشروعاتهم، وفي مقدمتها مشروع حفر قناة السويس، ولكن محمد علي
تجاهل هذا الاقتراح، ووافق على أن يقوم بإنشاء مدرسة للهندسة على غرار نظيرتها
الفرنسية، كما وظف بعضهم في مشروع إنشاء القناطر الخيرية. وفي أثناء وجودهم في مصر
التقوا بموظف قنصلي فرنسي يدعى فرديناند دي لسبيس، الشخص الذي سوف ينسب إليه مشروع
القناة لاحقًا. وقد انتهى الحال بجماعة سان سيمونيه إلى الرحيل عن مصر عام 1836،
بعدما يئسوا من حمل محمد علي على تبنى مشروعاتهم، أما محمد علي الذي كان يرتاب
فيهم بسبب معتقداهم الدينية، فقد عبر عن ارتياحه بالتخلص منهم.
عند عودة أتباع سان
سيمونيه، عزموا على الترويج لمشروع حفر القناة، ولكن حالة الاضطراب السياسي التي
كانت تعاني منها فرنسا في ذلك الوقت، حرمتهم أن يجدوا من بين الحكومة الفرنسية
نصير، ولذلك حاول أتباع سان سيمونيه أن يحملوا المجتمع الأوروبي – لا مؤسساته – على
تبني مشروع القناة، فأنشئوا من أجل ذلك جمعية دراسات قناة السويس لإجراء الدراسات التحضيرية اللازمة للمشروع وللبحث عن
ممولين له، وهي جمعية دولية ضمت خبراء من فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا والنمسا
ثم تحولت الجمعية إلى شركة هدفها جمع التمويل اللازم لمشروعها، شريطة أن يكون
الممولين من الهيئات العامة، فكان ممن قام لتمويلهم بلدية مدينة تريستا وغرفة
فيينا التجارية، وحاولوا الاتصال بمحمد علي من جديد، ولكن هذه المرة توفي محمد علي
عام 1849، أما خليفته عباس باشا فلم يكن متحمسًا للتعاون مع الفرنسيين، وهكذا كان
على أتباع سان سيمونيه أن يخففوا من حماسهم للمشروع إلى حين.
اشتهر في كتب التاريخ
المدرسي أن محمد علي كان معارضًا لمشروع القناة معارضة جذرية، وهو ما لا يقوم عليه
دليل، فمن الثابت أن محمد علي قد كلف مهندسه الفرنسي لينان بالتعاون مع جماعة سان
سيمونيه في دراسة مشروعهم لحفر القناة. كما أنه أتصل بالأمير مترينيخ – مستشار
الإمبراطورية النمساوية ورجل أوروبا القوي – ليستشيره في مسألة حفر قناة السويس،
وقد شجعه مترينيخ على حفر القناة وبين له إمكانية تفويض أمر حفر القناة وإدارتها
لشركة دولية، على أن يحصل محمد علي على مبلغ سنوي ثابت يوظفه في استثماراته
الزراعية، ولكنه في الوقت نفسه أوعز له بالتريث في المضي في الأمر ريثما يتم توقيع
معاهدة دولية لضمان حرية الملاحة في القناة وعدم استيلاء أي قوة أوروبية عليها،
يعني بذلك الإنجليز في المقام الأول ثم الفرنسيين.
ولمس تحذير مترينيخ
مخاوف محمد علي، فقد كان محمد علي يرتاب في نوايا الإنجليز نحوه، فبعد طرد الحملة
الفرنسية، ود الإنجليز لو جلس على عرش مصر أحد الأمراء المماليك من حلفائهم،
ودعموا محمد بك الألفي في صراعه مع محمد علي، ولولا وفاة الألفي لربما أنضم
بفرسانه إلى قوات الجنرال الإنجليزي فريزر التي حاولت غزو مصر عام 1807 ولغير
نتيجة الحملة البائسة، ولم يكن رأي الإنجليز في محمد علي أفضل من رأيه فيهم، فقد
توجسوا خيفة من اعتماد محمد علي عدد كبير من الخبراء والعسكريين الفرنسيين الذي
نظموا دولته (على النمط الفرنساوي)، ونظروا إلى التحصينات التي أنشئها محمد علي في
الإسكندرية والتي أعدت تصميماتها في وزارة الحرب الفرنسية على أنها عمل موجه ضد
الأسطول الإنجليزي، كما اعتبروا أن القناطر الخيرية التي صممها الفرنسيين لتنظيم
الري في واقع الحال خط دفاعي لإغراق الدلتا لصد أي محاولة لغزو إنجليزي مثل محاولة
1807 – وهو ما حاول الإنجليز أنفسهم فعله أثناء الحرب العالمية الثانية لصد الهجوم
المحتمل للقوات الألمانية على قناة السويس – أما قناة السويس، فكانت أكثر ما يثير
الحساسية لدى الإنجليز، فكانوا يرونها بمثابة خطة لإنشاء حاجز بين مصر والدولة
العثمانية تمهيدًا لاستقلال مصر الكامل عن الدولة العثمانية وإنشاء دولة تحت
الرعاية الفرنسية تتحكم في الطريق إلى الهند، ولذلك نجد وزير خارجية بريطانيا في
ذلك الوقت - ورئيس وزراءها لاحقًا - بالمرستون يعارض مشروع القناة بكل ما في وسعه،
ويشترط لموافقته أن تكون لبريطانيا اليد العليا في المشروع، وهكذا أعتبر محمد علي
حفر القناة تهديدًا له، وقد عبر عن ذلك أبنه إبراهيم باشا في محادثة له مع لورين
قنصل عام النمسا في مصر قائلًا «إن الباشا والده يخشى أن يأتي الإنجليز، عندما يتم
إنشاء القناة، ليغلقوا أبوابها، ويضعون مفتاحها في جيوبهم".
يتبع
0 تعليقات