د. وسام الدين
محمد
التاسع من محرم 1444هـ
السابع من أوغسطس 2022م
شاهدت صورة عن موقع
صحيفة ينسب إلى مسئول سابق عن الآثار المصرية تصريحًا بأنه لا وجود تاريخي
للأنبياء. الشخص المنسوب له التصريح تحلق حول صورته أسراب من علامات الاستفهام
والتعجب، ودائم التصريح في الفاضي والمليان، لا يترك حدثًا يمر دون أن يدلي بدلوه أو
تصريحه، حتى لو وجد برنامج طبخ يتناول مسألة المحشي، لعمل مداخلة حول كيف كان سقنن
رع يفضل محشي الكرنب عن ورق العنب. لذلك فتصريحاته بالنسبة لي تتراوح ما بين نكتة
مسلية وبين دعاية مفضوحة لصاحبها.
كما أن من الجائز أن
يكون الصحفي صاحب الخبر والتصريح قد عمد إلى صياغة خبره على هذا النحو المستفز
ليضمن ذيوع الخبر، فنحن في زمن صحافة الترندات، وكم من مرة التقط صحفي معدوم
الضمير من عينة محفوظ عجب، كلمات من على لسان شخص ما ثم أعاد صياغتها على نحو
كارثي رغبة في الظهور والانتشار.
لكن ما أدهشني ودفعني
للتفكر في الموضوع هو تعليقات البعض على الموضوع. هذه التعليقات هي التي دفعتني
للكتابة عن هذا الموضوع. انا كمسلم أعتقد أن الأنبياء المذكورين في القرآن الكريم
قد وجدوا تاريخيًا، ولكن تكرار زعم أن الأنبياء والرسل لم يوجدوا تاريخيًا يستلزم
مناقشة هذا الزعم مناقشة علمية، حتى لا يترك الميدان لمزاعم غير علمية وغير أمينة.
في البحث التاريخي
والمصادر
وقبل أن أخوض في
مناقشة تاريخية وجود الأنبياء، يجب أن أقدم لمصطلح التاريخية نفسه، لأن سيولة
التعريفات – وفي حالتنا هذه تعريف التاريخ – هو أصل كل المصائب الثقافية التي
نشهدها اليوم. في إيجاز البحث التاريخي يعالج مستخدمًا المناهج العلمية المتعارف
عليها، الكمية والكيفية، مصادر الحدث التاريخي مثل شهادات من شهدوا الحدث أو الآثار
التي تركها هذا الحدث، للوصول إلى تصور حول الحدث التاريخي. وكأي ممارسة علمية فإن
المؤرخ لا يزعم أن منتج بحثه هو الحدث التاريخي، ولكن يؤكد دائمًا على أن هذا
المنتج هو تصوره عن الحدث التاريخي، تصورًا يراوح بين ظن خالص وظن يرقى إلى
اليقين، دون أن يدعيَ اليقين، لأن اليقين الخالص مستحيل في العلوم الطبيعية فما
بالك بالعلوم الإنسانية. إذًا فالبحث التاريخي، مثله في ذلك مثل أي بحث علمي،
يتوقف على ما هو متاح له من مصادر، فإذا غابت المصادر حول واقعة فإن هذا لا يعني
انعدام الواقعة، بل يعني انعدام المصادر المتعلقة بالواقعة.
فمثلًا لقرون ظل
الاعتقاد السائد أنه لم يكن هناك مدينة تسمى طروادة، وإن ما جاء في الإلياذة
والأوديسه محض خيال، حتى اكتشف العالم الألماني هنريش شلايمان أطلالها عام 1870،
أما اخناتون فقد كان كل ما نعرفه عنه هو ما ذكره المؤرخ مانثيون، وهو أنه ملك متهم
بجريمة غامضة تستلزم صب اللعنات على رأسه، ثم اكتشف عام 1891 عالم الآثار فلندرز
بتري أطلال مدينة أخيتاتون، عاصمة أخناتون فأصبحنا نعرفه الكثير عن هذا الملك.
فغياب الأدلة المادية
الملموسة في هذه الأمثلة، لم ينف تاريخية حروب اليونان والطرواديين، ولم ينف
تاريخية اخناتون، فسواء كانت توفرت هذه الأدلة أو انعدمت فإن الواقعة التاريخية قد
حدثت، ولكن معرفتنا بها مقطوعة لعدم وجود رابط يصلنا بها.
تاريخ فرية عدم
وجود الأنبياء
لعل أول من أنكر وجود
الأنبياء تاريخيًا كان البارون دولباخ
(1723-1789)، وكان
نبيلًا ألمانيًا عاش في باريس، وأشتهر بجهره بالإلحاد، وتكريسه قلمه للهجوم على
المسيحية عامة والكنيسة الكاثوليكية خاصة؛ وكان دولباخ في كتابته يؤكد على أن
السيد المسيح شخصية خيالية لم توجد قط زاعمًا أنه لا توجد أي إشارة في السجلات
التاريخية للمسيح عدا ما ذكرته أسفار العهد الجديد. وفي سبيل أثبات مزاعمه، تجاهل
دولباخ مصادر تاريخية غير مسيحية أكدت على وجود المسيح مثل فلافيوس جوزيفيوس في
كتابه (آثار اليهود) والمؤرخ الروماني تاكيتوس في حولياته.
يمكن أن نفهم دافع
دولباخ لادعائه وتجاهله الأدلة التاريخية باعتبار طبيعة العصر والمكان الذي عاش
فيه، فقد عاش الرجل في فرنسا في ذروة الصراع بين الكنيسة وهؤلاء الذين يطوقون
للتحرر من سيطرتها، ومات في العام نفسه الذي اندلعت فيه الثورة الفرنسية والتي
وضعت في مقدمة أهدافها تدمير الكنيسة، فزعم دولباخ قد جاء في هذا السياق، ولعله
أختار هذا الزعم بالذات ليضرب الكنيسة في أساسها، فإذا كانت الكنيسة تزعم بأنها
تنوب عن المسيح في حكم العالم، فإن عدم وجود المسيح أصلًا ينزع الشرعية عن الكنيسة.
ولقد تسلم الراية عن دولباخ بعد
وفاته الكثير من المفكرين المعادين للكنيسة، وظلت هذه المزاعم تظهر حينًا وتخفت
حينًا، متزامنة مع المد والجزر في صراع الكنيسة ومعارضيها. وبعكس مدرسة دولباخ
وخلفاءه النزاعة للمخاصمة والمهاجمة والتي تفتقر للمنهجية العلمية، ظهرت مدرسة
فكرية أخرى، أخذت على عاتقها البحث العلمي الموضوعي حول تاريخية المسيح، ورسم صورة
حقيقية للسيد المسيح خالية من خزعبلات الكنيسة، وقد انتهت هذه المدرسة إلى المسيح
شخصية حقيقية وجدت تاريخيًا، ولكنها أنكرت تصوير المسيح الذي تروجه الكنيسة وما
تنسبه له من تعاليم. وبينما كانت مدرسة إنكار الوجود التاريخي للمسيح تتمركز في
فرنسا، البلد صاحب التاريخ الطويل في النضال ضد الكنيسة، كانت المدرسة التي تقر
بوجود مسيح تاريخي مخالف لصورة مسيح الكنيسة تنتشر في ألمانيا البلد الذي أسهم
الإصلاح الديني في تشكيل هويته، ويمثل هذه المدرسة الألماني آلبرت شفايتزر، وإن
كان هذا لا يمنع أن هناك في كل بلد من تبنى أراء المدرسة التي تتخذ البلد الآخر
معقلًا لها، فقد كان رينان مثلًا فرنسيًا، ولكنه تبنى في كتابه حياة المسيح
تاريخية المسيح. ولعل سيجموند فرويد يوم أن قدم عمله موسى والتوحيد، كان على خطا
مدرسة المسيح التاريخي، فأقر بالوجود التاريخي لموسى عليه السلام، دون الإقرار بما
نسبت له التقاليد اليهودية من أخبار وأقوال.
0 تعليقات