نصر القفاص
كانت "دار
المعارف" تصدر كتابا شهريا ضمن سلسلة "إقرأ" وضمن ما أصدرته قبل
نهاية القرن العشرين – عام 1999 – كتابا عنوانه "التنوير الزائف" للدكتور
"جلال أمين".. حمل اجتهاده المبدع كمفكر بمعنى الكلمة.. قبل أن نرى "أراجوز"
يجرؤ على أن يسبق اسمه صفة "مفكر"!!.. ثم تكاثر "أراجوزات التنوير"
يتقافزون على شاشات التليفزيون, ليصبحوا أهم علامات نهاية "الجمهورية الثانية"
لأن الجهل بعينه إمتلك ثروة ونفوذا.. وراح يختال علينا!!
يحمل الكتاب عرضا
قدمه "جلال أمين" باختصار يصعب على غيره أن يفعله، لرواية كتبها الأديب النيجيرى "شنوا آشيبى" كان عنوانها "عندما
ينهار كل شىء" ليقول خلالها أن الانهيار يحدث بالتشكيك فى كل قيم المجتمع.. يحدث
بهدم رموز الأمة.. ويحدث بتزوير التاريخ, وعندما تتنفس "النخبة" كذبا.. ويرى
"جلال أمين" فى ذلك إذلالا ومهانة نعيشها يوميا فى الاقتصاد والسياسة!!
قامت "ثورة 23
يوليو" على قدمين أحدهما سياسي والثاني اجتماعي.. المعضلة التى واجهت قائد
وزعيم "الجمهورية الأولى" أن الهدف السياسى كان يتطلب وحدة وتماسك أبناء
الأمة.. أما الهدف الاجتماعى فلا يتحقق دون صراع مصالح طبقات.. لذلك أوضح "عبد
الناصر" فى كتابه "فلسفة الثورة" أن: "كل شعب من شعوب الأرض
له ثورتان.. ثورة سياسية يسترد بها حقه من يد طاغية أو معتد على أرضه دون رضاه.. وثورة
اجتماعية تتصارع فيها طبقاته.. ثم يستقر الأمر بتحقيق العدالة لأبناء الوطن الواحد"!!
هذه الرؤية تفسر سر
التفاف الشعب لمواجهة "العدوان الثلاثي" بعد تأميم "قناة السويس"
عام 1956, وقدرة هذا الشعب على استرداد "سيناء" التى كانت قد ضاعت بعدها
بشهور.. دون تفاوض أو عقد اتفاقيات مع العدو الذى احتلها.. حدث ذلك استجابة لإرادة
شعب عبر عنه "صلاح جاهين" بكلماته التى غناها "عبد الحليم حافظ"
إبتهاجا بما فعلت مصر: "قلنا هنبنى.. وادى احنا بنينا السد العالى"!! والرؤية
ذاتها تفسر التفاف الشعب حول قائد مهزوم بعد "نكسة يونيو 1967" وعبر
عنها "عبد الرحمن الأبنودى" بصوت "عبد الحليم حافظ" – أيضا – حين
غنى "عدى النهار".. وكلها علامات وتفسيرات للشعب الذى يقولون عنه "مالوش
كتالوج" لمجرد أنهم لا يقرأون ولا يفهمون.. وبين تاريخ الانتصار الذى حاولوا "مسخه"
فى حرب السويس, والهزيمة التى اعترف "عبد الناصر" بمسئوليته عنها.. كانت
التفاصيل التى تؤكد القطع التام بين "جمهورية أولى" إنتهت برحيل رئيسها..
و"جمهورية ثانية" إستمرت تحكم لتعبر الحواجز واحدا بعد الآخر, بداية من "انتفاضة
يناير 77" حتى كان ما حدث فى "25 يناير 2011" ويسميه الدستور "ثورة"..
ثم ما حدث فى "30 يونيو 2013" ويسميه الدستور "ثورة"!!
إلتف الشعب حول قائده
منتصرا ومهزوما, لمجرد أنه كان يثق فيه ويصدق بأنه يسعى لإقرار العدالة الاجتماعية..
وانتفض الشعب ضد رئيسه الذى رفعه إلى منزلة "بطل العبور" لحظة أن وجده
يأخذ الطريق العكسى.. وانتفض الشعب ضد رئيس إعتقد أنه قادر على إعادة عقارب ساعة "التوريث"
للوراء.. ثم انتفض الشعب رافضا الطغيان – الإخوان – حتى لو كان باسم الدين!!
ومازال البحث جاريا عن
"العدالة الاجتماعية" التى تهدم صرحها, خاصة بعودة "الإقطاع
العقارى" ومحاولات "تمكين الفساد" التى تزكم رائحته أنوف أمة
بأثرها.. إعتقادا فى أن محاولات الالتفاف على "العدالة الاجتماعية" يمكن
أن تنجح بالرهان على ما يريده القابع خلف المحيط ووراء البحر!!
رواية الأديب
النيجيرى وعنوانها "عندما ينهار كل شىء" تؤكد ذلك!!
رؤية الدكتور "جلال
أمين" للرواية واستعراضه المبسط لتفاصيلها.. تؤكد ذلك!!
صدرت الرواية عام 1958
– مفارقة – وتناولها "جلال أمين" عام 1999 فى كتابه.. وضمن عرضه لها قال
أنها تحكى ما حدث لقبيلة فى نيجيريا أوائل القرن العشرين.. وذكر فى عرضه أن الكاتب
أنفق أكثر من نصفها واصفا تفاصيل أوضاع القبيلة.. عاداتها.. ثقافتها.. علاقاتها
الاجتماعية.. ما تؤمن به وما تخاف منه.. الصفات والمعانى التى تقدرها, وعكسها مما
تراه عارا.. ماذا تأكل القبيلة.. وعلاقة الرجال والنساء ضمن نسيجها.. خرافات
القبيلة وأساطيرها.. ثقافة القبيلة التى جعلتها متماسكة, ويثق أفرادها فى أنفسهم
ومجتمعهم.. إيمانهم بالتضحية لتبقى القبيلة متماسكة.. رفضهم تقليد غيرهم ومحاكاة
أنماط حياتهم, رغم أنهم يتمتعون بحياة أفضل منهم.. ثم تبدأ المأساة.. فقد كان
لزعيم القبيلة ابنان.. إحداهما فتاة أخذت من والدها صفاته.. كانت تتمتع بحب الناس
وتقديرهم, لمجرد صلابتها وقوة إرادتها.. كانت تعطف على أهلها وعشيرتها دون ضعف.. والثانى
كان شابا.. باهت الشخصية.. لم يأخذ من الأب صلابته ولا فكره, أو صبره على الشدائد
وقدرته على العمل الجاد.. تتعرض القبيلة لهجوم أجنبى يريد تدميرها بعد تفكيكها.. يخطف
الأجانب أنظار الفتى.. تأخذ الأب الصدمة.. كاد عقله أن يذهب منه.. فهؤلاء أعداء
أجانب, وابنه ينضم إليهم بتصميم.. لمجرد أن الأجانب أقنعوه أنه سينتصر لأهله
وللإنسانية!!
من هنا كان عنوان "عندما
ينهار كل شىء"!!
التاريخ وسير الأحداث
يذكران بحسم, أن "قانون الإصلاح الزراعى" صدر بعد نحو أربعين يوما من
قيام "ثورة 23 يوليو" إستجابة لرغبة وإرادة مجتمع كانت الفكرة مطروحة
على عقله ووجدانه.. والوقائع المحفوظة والوثائق تؤكدان أن الذهاب إلى "القطاع
العام" حدث بعد سنوات طوال.. شهدت محاولات مضنية مع الذين يملكون رأس المال
فى مصر, ومع الذين يسمونهم "المستثمرين" الأجانب.. والحقيقة التى لا
تقبل "نقضا ولا إبرام" تقول أن "القطاع العام" كان الظهر الذى
حمى "القوات المسلحة" لحظة الهزيمة وحتى الانتصار.. والوقائع التى نعيش مذهولين
بمتابعتها, تنطق بأن هذا "القطاع العام" الذى تم بناؤه خلال نحو 15 عاما,
إستلزم عشرات السنوات لتفكيكه ثم تخريبه قبل الشروع فى بيعه.. والعملية مستمرة.. وأصبح
كل من يحاول الدفاع عن "القطاع العام" متخلفا.. جاهلا.. رافضا للتطور
وحق الشعب فى "الرخاء والرفاهية".. باعتبارهما السراب الذى استمرت "الجمهورية
الثانية" تلهث خلفه.. حتى وصلنا إلى اعتبار هؤلاء المدافعين مخربين.. خونة.. وعنوانهم
"يحيى حسين عبد الهادى" منذ أن أعلن تصديه للصفقة المشبوهة ببيع "عمر
افندى".. وهو يحمل صفة "عسكرى" فى مواجهة "المدنى" الذى
ينعم بمنصب رفيع فى "البنك الدولى" ثم "المدنى" الذى ترك
منصبه الوزارة لينعم بما أعطاه "الثرثار باشا" فى شركاته.. وأصبح الذين
يتمتعون برعاية هذا "الثرثار" نوابا ومفكرين ونجوم إعلام ومجتمع.. وأذكر
واحدا من القبيلة ذاتها – قبيلة الثرثار – كان يشكو لى حاله, بأن ما حدث فى "25
يناير" التى يقولون عنها "25 خساير".. جعله يخسر "الجلد
والسقط" – بحسب تعبيره – لدرجة أنه لم يعد يربح أكثر من مليار جنيه من مصنع
واحد فى "سيناء", بعد أن كان ربحه "13 مليار" جنيه سنويا من
هذا المصنع فقط!!.. وتشاء الدراما أن يسقط فى قضية تجارة غير مشروعة تصل إلى حد
خيانة تاريخ ووطن.. ويسقط بعده "رجل مال" آخر فى "قضية شرف" متهما
بهتك عرض شديدة البشاعة.. وأصبحنا نتابع "نجم المرحلة" الذى جعلوه "شيخا",
باعتبار عضويته فى واحد من مجلسى "البرلمان" لمجرد اقترانه بنجمة بعد
أخرى.. وعاد إلينا "رجل المال" القادر على أن يربح المليارات من صناعة
ثقيلة, زعموا أنها تخسر إذا كانت تعلو مصانعها لافتة "قطاع عام"!!
أخذنى عرض رواية "عندما
ينهار كل شىء" لأكتب خيالا!!
كان "إيدن"
رئيس وزراء يريطانيا يقول قبل حرب 1956: "لسنا فى حالة نزاع مع مصر.. لكننا
فى نزاع مع عبد الناصر".. وهو الكلام الذى رد عليه رئيس "الجمهورية
الأولى" خلال خطاب ألقاه يوم 9 نوفمبر 1956 بقوله: "أنا هنا لأمثل شعب
مصر.. لا أمثل إرادة إيدن ولا تجار الحروب أو المستعمرين".. وهتف الشعب حينها:
"كلنا جمال عبد الناصر"!! وهى وقائع ومعان سخرت منها – ومازالت – القبيلة
التى حكمت بعد رحيله, باعتبارهم يملكون مفاتيح "الرخاء والرفاهية" التى
لا يمكن أن تتحقق بهذه "العدالة الاجتماعية"!! لأن مفهوم "العدالة
الاجتماعية" الذى يعرفه أولئك هو الدعوة للصدقة والعطف على الفقراء.. ويتحكم
فى مقاديره واحد آخر من أولئك الذين يسبق اسمهم صفة "دكتور" متبرئا من
كونه "عسكرى" تخرج من الكلية "الفنية العسكرية" كواحدة من
أرقى كليات العسكرية المصرية!!
إذا كانت رواية "عندما
ينهار كل شىء" حافلة بالمفارقات!!
لابد أننا سنغرق فى
مفارقات نقاوم أمواجها فى "الجمهورية الثانية" التى تعلى شأن "عسكرى"..
لمع عندما تبوأ منصب مسئولية "البريد" ليصبح وزيرا.. يسقط مع الرئيس
الثانى للجمهورية الثانية, ثم يعود منتخبا كنائب للشعب.. سرعان ما يضحى بهذا الشرف,
ليعود وزيرا يتولى "الرفق" بالفقراء فخورا بأنه ينفذ سياسات "عدالة
اجتماعية" دارت حولها وزارات ثورة "25 خساير" كما يحلو لهم وصفها..
وكل هذا الغثاء يعتز بقوله "أراجوزات التنوير" لشعب يملك القدرة على
الصمت والسخرية بالنكتة, عندما يتلاعب بمن خدعوه!!
يقول الدكتور "أنور
عبد الملك" فى كتابه "المجتمع المصرى والجيش" الصادر عن "مكتبة
الأسرة" عام 2013, وهو نص رسالته لنيل درجة الدكتوراة من جامعة "السوربون"
أن: "اليابان ساهمت فى مشروعات الخطة الخمسية الأولى – الجمهورية الأولى – بنسبة
33 بالمائة من مجموع المساعدات الأجنبية.. وأعلنت إيطاليا بوحى السياسات الجديدة, أنها
مستعدة أن تمنح مصر الأفضلية فى توظيف استثماراتها الخارجية.. وظلت فرنسا إحدى
أكبر مستوردى القطن المصرى.. وأثبتت المانيا الغربية أنها الأكثر نشاطا, معتمدة
على العاطفة القومية الاشتراكية التى كانت قوية عند الضباط المصريين منذ معارك
العلمين – الحرب العالمية الثانية – وهكذا تم إرسال خمسة آلاف من دارسى مصر إلى
هناك.. وعرضت المساهمة بنحو 48 فى المائة من المساهمات الأجنبية فى الخطة الخمسية
الأولى.. وتم الإعلان عن إنشاء شركات مصرية – المانية مشتركة.. وأرسلت خبراء
اقتصاديين وإداريين إلى القاهرة"!!
يقول ذلك الدكتور "محمد
فؤاد ابراهيم" كأحد المصادر التى اعتمد عليها الدكتور "أنور عبد الملك"
بوضوح: "القطاع العام أشرف دائما على القطاع الخاص فى كل البلدان التى أخذت
طريقها إلى تحقيق التنمية الاقتصادية.. ولكن بعد أن تسير مثل هذه الدول قدما فى
الطريق ويرتفع متوسط الدخل لكل مواطن.. يعود عدد كبير من الشركات إلى القطاع الخاص,
ويستمر القطاع العام فى مهمته لاستكمال البناء"!!
تلك كانت الرؤية
والمنهج الاقتصادى الذى شهد خلال الفترة من 1956 وحتى 1967 زيادة عدد مكاتب
التمثيل التجارى فى الخارج بأربعة أضعاف.. ووجد ألف شخص تقريبا فرصا لتحقيق ثروات
ونجاح كبيرين"!!
إن شئنا "التنوير"
الحقيقى يجب أن نعيد قراءة ودراسة ما حدث فى مصر.. ولها.. خلال "الجمهورية
الأولى" بكل ما لها وما عليها.. وماحدث منذ إعلان "الجمهورية الثانية"
عبر "ثورة 15 مايو" كما أسموها.. والتى جرفتها الرياح لحظة أن لعلع
الرصاص عند "المنصة".. ثم نحاول "المصارحة" و"المكاشفة"
بأمانة وصدق تجاه ما يتم تشويهه بوصفه "25 خساير" وكذلك ما يقال عنه "30
سونيا" لمجرد أن طرفى معادلة الحكم – الفساد والإخوان – دخلا صراعا جعلنا
نعيش "كابوسا" فرض علينا قراءة رواية "عندما ينهار كل شىء"!!..
يتبع
0 تعليقات