آخر الأخبار

الجمهورية الثالثة : الرئيس وسموه !! (26)

  

 


 

نصر القفاص

 

يجوز أن تكون "آفة حارتنا النسيان" فى عمل أدبى يكتبه "نجيب محفوظ" بإبداع.. ولا يجوز أن نفقد ذاكرتنا الوطنية, وقد صاغ حدودها "جمال حمدان" فى موسوعته "شخصية مصر" وتركها لنا كما "الفنارة" لتهدى سفينة وطن فى عرض محيط الدنيا!!

 

يجوز أن يشهد تاريخ مصر فترات قوة وشموخ.. ويجوز أن تأخذها "رمال الضعف المتحركة" إلى فترات ضياع وانحطاط.. ولا يجوز أن يترك وطن دفة سفينته فى أيدى سذج ومغامرين وسماسرة.. لأنه لو حدث سنعيش أحداث فيلم "الصعود إلى الهاوية" وتفاصيله تحمل المعنى!!

 

يجب أن نعترف بأن مصر وصلت إلى مفترق طرق بين "منهج الجمهورية الأولى" الذى يفرض الزمن تطويره وتحديثه.. ويقابله "منهج الجمهورية الثانية" وقد تأكد فشله, بعد أن فرض نفسه على المجتمع لأكثر من نصف قرن.. فالبحث عن طريق يبعدنا عن "سكة الندامة" أصبح حتميا.. لا أقول مهما ولا ضروريا.. والبديل سيكون "سكة اللى يروح ما يرجعش" إذا استمر العناد بالابتعاد عن "سكة السلامة" لإرضاء غرور شخص أو مجموعة بهرتهم أضواء السلطة مع الثروة والنفوذ!!

 

الخطير أننا وصلنا إلى حافة هاوية, بطغيان أصوات تتحدث عن "المدنى والعسكرى" باعتبار أنه صراع يجب حسمه.. وهى أخطر لغم يمكن أن يفجر وطن بأكمله.. ببراهين يحملها تاريخ مصر.. فقد حكم مصر "عباس الثاني" و"فاروق" الذى أسميه "الولد الذى حكم مصر" حسب وصف "المندوب السامى البريطانى" يوم أن ذهب إليه بالمدفع والدبابة ليفرض عليه تكليف "مصطفى النحاس" بتشكيل الوزارة.. النتيجة كانت أن "عباس حلمي"– وكان مدنيا – هرب وترك الوطن فى عين العاصفة.. ووافق "فاروق" – المدني – على أن ينجو بنفسه وأسرته دون اكتراث بما سيحدث للوطن.. كليهما حكم مصر دون الثامنة عشرة من عمره, فى زمن لا يخجل "خدم الملكية والاستعمار" من اعتباره "الزمن السعيد" مع البكاء عليه!! وبعدها حكم مصر "عبد الناصر" المستهدف بأنه عسكري.. ثم جاء "السادات" المحسوب على أنه عسكري.. وبعدهما "مبارك" وكان عسكريا بحق!! وتولى المسئولية بعدهم "المجلس العسكري" الذى سلم السلطة لهذا المدني – محمد مرسى – قبل أن يتولى دفة السفينة "عبد الفتاح السيسى" بعد أن خلع زيه العسكري.. فقرر بعد ثمان سنوات من حكمه الذهاب إلى "الحوار الوطني"!

 

فكرة "الحوار الوطنى" قد تحمل رغبة.. أو إرادة!!

 

إذا كانت رغبة فقد حدثت فى زمن "الجمهورية الثانية" مرتين.. كانت الأولى لإعلان وفاة "الاتحاد الاشتراكي" والثانية لإعلان "تعديلات دستورية" تمهد طريق "التوريث" حتى لو تبرأ منه الذين رقصوا فى "زفته"!!.. ولو كان إرادة.. فقد حدث فى زمن "الجمهورية الأولى" مرتين.. الأولى كانت انتقالا من "الاتحاد القومى" إلى "الاتحاد الاشتراكي" لتأخذ مصر طريق "زيادة الإنتاج وعدالة التوزيع" فيما نسميه "الاشتراكية" عبر "مؤتمر القوى الشعبية" وكان الوحيد الذى يمكننا اعتباره نموذجا لما يجب أن يكون عليه الحوار الوطنى.. وكانت المرة الثانية بعد نكسة يونيو 67, وانتهت إلى إعلان "بيان 30 مارس" الذى يجب علينا قراءته بهدوء!!

 

انتهى "الحوار الوطنى" فى شكله ومضمونه الحقيقى.. إلى "الميثاق" الذى سخرنا منه دون قراءته!!

 

أستمر "الحوار الوطنى" الأول لنحو تسعة أشهر.. بدأ بمناقشة ما تم تسميته "أزمة المثقفين" التى اشتبك خلالها الذين يؤيدون "عبد الناصر" مع المختلفين من الشيوعيين.. وبينهما كانت هناك أصوات تمثل التفكير السياسي الإسلامي – خالد محمد خالد – وتحمل الصحف عشرات المقالات, وتغطية لمئات الندوات والمحاضرات.. وانتهت هذه الحالة إلى تشكيل "مؤتمر القوى الشعبية" ليكون ممثلا لكافة فئات المجتمع.. صدر يوم 8 نوفمبر عام 1961, قرار جمهورى بتشكيله, ويضم 250 عضوا.. كان بينهم: 24 يمثلون الفلاحين, و29 يمثلون العمال.. إلى جانب 37 يمثلون المهنيين, بينهم أساتذة جامعات بواقع سبعة, مع خمسة مهندسين واثنين من الصيادلة وسبعة صحفيين وكتاب, إضافة إلى 11 محاميا وثلاثة أطباء وثلاثة معلمين.. غير 21 اقتصاديا و23 من أعضاء مجلس الأمة.. فضلا عن عشرة سيدات, 59 وزيرا ومحافظا ووكيلا للوزارة ومدير.. وأخيرا 57 عضوا باعتبارهم من الشخصيات العامة.. وتم تقسيم هؤلاء إلى أربعة لجان حسب اختيارات كل عضو.. احتضنت "جامعة القاهرة" أعمالهم ونقلت الصحف والإذاعة تفاصيل أعمالهم.. تحدث أمامهم الرئيس "جمال عبد الناصر" يوم 25 نوفمبر لمدة أربع ساعات!!

 

كانت قضية "المدنى والعسكرى" تفرض نفسها بصوت عال!

 

فى خطابه استعرض "عبد الناصر" تاريخ الجيش المصرى وعلاقته بالدولة والاستعمار ويومها قال: "إن الجيش ليس ثكنات تفصلها عن الشعب أسوارا عالية.. بل هو من الشعب ويمثل كل الشعب.. ونحن نؤمن بأنه لا يمكن لأى جيش أن يحقق نصرا دون دعم عقول العلماء, والتفاف الجماهير حوله" وأوضح فى خطابه أن الجيش تم استخدامه فى زمن الاستعمار لتخويف الشعب, وجعلوه أحيانا تشريفة للملك أو الحاكم.. لكن الجيش بعد ثورة 23 يوليو انصهر مع العمال والفلاحين.. وترك المفكرين والمثقفين لضمائرهم لكى يقولوا كلمتهم للمجتمع – شعب وجيش – وأعاد تذكير الحضور بما سبق أن تناوله فى خطاب يوم 16 أكتوبر 1961 حين طرح السؤال بوضوح.. هل يستطيع الجيش أن يحكم نيابة عن الأمة؟!

 

وكرر إجابته بأن هذا خطر ينتج عن فراغ سياسى.. لذلك أؤكد على أنه لا يمكن أن يحكم الجيش وحده.. لذلك سنجد أهمية دور كل من الدكتور "عبد المنعم القيسونى" والدكتور "عزيز صدقى" والدكتور "كمال رمزى ستينو" – وزير التموين – والدكتور "عبده الشرباصى" – وزير الأوقاف – والدكتور "مصطفى خليل" والدكتور "محمد النبوى المهندس" – وزير الصحة – والدكتور "أحمد على فراج" والدكتور "محمد نجيب حشاد", و"عبد الوهاب البشرى" و"سيد مرعى" و"موسى عرفة".. وكلهم وزراء فى فريق مدنى.. ثم تحدث عن المؤسسات العامة – القطاع العام – التى يديرها 57 من الذين يحملون درجة الدكتوراه, و57 مهندسا.. إضافة إلى عشرات القيادات من خريجى الحقوق والتجارة والآداب.. ومعهم عدد من العسكريين الذين ذهبوا إلى الجامعات لنيل شهادات ماجستير ودكتوراه فى مختلف التخصصات.. وشرح فلسفة إنشاء كلية "الفنية العسكرية" ثم أكد أن الزى العسكرى ليس مؤهلا لموقع قيادى فى دولاب الدولة والحياة المدنية!!
حدث ذلك عام 1961.. وكان الحوار شديد الصراحة!

 

كان "عبد الناصر" يتكلم ويسمع كثيرا.. وضمن ما سمعه كان قاسيا!!

 

واجهه "خالد محمد خالد" أمام الحضور.. نقلت كلماته الصحف وشاشات التليفزيون – الذى كان قد بدأ بثه التجريبى – مع الإذاعة.. قال "خالد محمد خالد" المفكر المرموق وصاحب كتاب "من هنا نبدأ" الشهير والذى تم دفنه: "إن أعداء دعوة محمد الذين لم يؤمنوا بالدين الجديد, إعترف بهم الرسول وضمن لهم حقوقهم.. صدقونى أيها الناس.. ليس من صالح أحد أن نكتفى بتسليح الشعب بالشعارات الصارخة.. يجب أن نسلح الشعب بطبيعته الطيبة.. طبيعته اليقظة.. طبيعته القائمة على الحب والوفاء.. فهذا شعب ذكى وقوى ولا يهزم.. لا يجد خصومك يا سيادة الرئيس, وخصومنا سوى حجة واحدة.. أين البرلمان؟! أين الدستور؟! أين المعارضة؟! أريد أن أجيبهم.. وأريد أن نستكمل فى ظل رعايتك كمالنا السياسى"!!

 

شهدت المناقشة بين مفكر مرموق والرئيس.. ثلاث مقاطعات أعقب كل منها حديث طويل!!

 

إحدى المداخلات فى المناقشة ذاتها, تحدث خلالها "خالد محمد خالد" لمدة عشرين دقيقة دون أى مقاطعة.. وكان رد الرئيس فى سبع دقائق فقط!! وضمن ما قاله "خالد محمد خالد" نصا: "الآن قد مضى على الثورة 10 سنوات.. رفع الله فيها لواءها.. وأصبح واجبنا أن نرد للأمة كل حرياتها فورا ودون تباطؤ"!

 

ضمن ما تحدث به "عبد الناصر" خلال هذه المناظرة – إن شئنا وصفها بذلك – قوله: "نتكلم بقى على المفتوح.. هل حاكمنا الإخوان المسلمين افترا؟ أم لأنهم كونوا جيش مسلح يهدد هذا الشعب؟! أما المعتقلين من الشيوعيين.. إحنا مش ضد الماركسية أبدا, ولا ضد اليسار بأى حال من الأحوال.. إحنا ضد أخذ تعليمات من دول أجنبية.. لما يبقى الشيوعيين فى الحزب الشيوعى المصرى بياخدوا تعليماتهم من "صوفيا" ومن "روما ومن "باريس" وأيام الحرب من "لندن" وأنا أعرفهم شخصيا.. يبقى فيه موقف.. لكن عندنا ماركسيين لا علاقات لهم بجهات برة.. مش ممكن ناخد ضدهم إجراءات.. إحنا اشتراكيتنا غير الشيوعية.. كل واحد يقول اللى هو عايزه, طالما ما بياخدش أوامره من برة.. من دول أجنبية"!!

 

كانت كل الملفات مفتوحة خلال الحوار.. دون خطوط حمراء!!

 

كان الرئيس قادر على أن يسمع.. وكان المفكر يقول ما شاء.. وكل هذه المساجلات تحفظها كتب تم دفنها.. ونائمة فى أرشيف صحف هذا الزمان.. وتولى الرد على "خالد محمد خالد" أكثر من كاتب.. بينهم "فتحى غانم" فى مقال بمجلة "صباح الخير" عدد 7 نوفمبر 1961 بعنوان "دفاع عن أحلام خالد"!! وتناول الحوار بمقالات كل من "أحمد بهاء الدين" و"رفعت المحجوب" وكمال الحناوى" و"يوسف مرقص حنا" و"حلمى السعيد" – والد الدكتورة هالة السعيد – وآخرين!!

 

إن شئنا "حوار وطنى" يجب أن نعيد قراءة ما سبق.. ونفهم سياقه

 

ونتائجه!!

 

إن شئنا بحث عن "سكة السلامة" يجب أن نحترم التاريخ ونعيد له تقديره واعتباره!!

 

فقد شهد أول حوار وطنى عام 1961.. تحديدا يوم 6 ديسمبر, أن وقف "مصطفى البرادعى" نقيب المحامين – آنذاك – وهو بالمناسبة والد الدكتور "محمد البرادعى" وقال: "يجب السماح بتأسيس حزب للمعارضة شريطة أن تعمل كل الأحزاب لصالح الوطن والأمة"!!

 

إنتهى "الحوار الوطنى" الأول إلى "الميثاق الوطنى" الذى لم يقرأه من يسخرون منه!!

 

ترتب على "الحوار الوطنى" إعلان قيام "الاتحاد الاشتراكى العربى" بعد خطاب طويل تناول فيه "عبد الناصر" كل المناقشات التى شهدها بكل تقدير.. وترتب عليه مسارا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.. كانت بينه الخطة الخمسية الأولى, التى شهدت لها كافة المنظمات الدولية.. وشعر بنتائجها كل مواطن على أرض مصر.. وعبر عنها صوت "عبد الحليم حافظ" حين غنى "بستان الاشتراكية" وسخر منها "أحمد فؤاد نجم" فى قصيدة شهيرة عنوانها "يعيش أهل بلدى"!!

 

أعرض لقطات من زمن طويل.. لحظات من عمر وطن وأمة, تمت شيطنته بماكينات "الكذب والتزوير" التى تديرها أجهزة غربية, ويتكسب منها "ولاد أمريكا" حتى وصلنا إلى "أراجوزات التنوير" الذين يقولون ما يملى عليهم بأسلوب ردئ ولغة ركيكة!! لمجرد أن "الثرثار باشا" وصاحب "الفكر السيراميكى" مع آخرين أصبحوا يملكون الثروة والنفوذ.. ولأن أغلبية الذين يمارسون السياسة لم تظهر عليهم أعراض هذا المرض, لأنهم يتمتعون بحصانة ضد لعنة السياسة!!

 

فى زمن "عبد الناصر" الذى يقولون عنه "عسكرى" كان يمكن مواجهته.. وفى "زمن سموه" تم تحويل فندق "كارلتون" إلى معتقل فاخر بإحدى عواصم مملكة فهمت أن "منهج الجمهورية الأولى" يحفظ الكرامة ويمنح العزة.. وتم إعلان إعادة أكثر من مائة مليار دولار من المعتقلين, وكان بينهم أمراء وكبار رجال مال.. وسط حالة "صمت غربى" مريب بقدر ما أصاب "الخرس" الذين يمارسون تشويه "عبد الناصر" من "جامعى أعقاب السجائر" ولا يجرؤ أحدهم على ذكر اسم "محمد بن سلمان" باعتباره "ولى النعم" مع ضرورة تسجيل التقدير لبعض مواقفه البراجماتية لأسباب تتعلق بأنه يفهم ما يحدث من تطورات.. وفى ظل منافسته لسموه الذى يحكم هذه الدولة أو تلك!!..

 

الجمهورية الثالثة!! " ولاد أمريكا!!" ( 25)

يتبع

 

إرسال تعليق

0 تعليقات